18/03/2021 - 16:24

النزعة الدراميّة في شعر مريد البرغوثي

النزعة الدراميّة في شعر مريد البرغوثي

الراحل مريد البرغوثي (1944 - 2021)

 

اتّسمت قصائد الشاعر مريد البرغوثي في مختلف دواوينه بأنّ فيها نزعة دراميّة، يصنعها توظيف السرد والأسلوب الحواريّ متعدّد الأشكال، وقد تمثّلت أهمّيّة هذه النزعة بقدرتها على جذب انتباه المتلقّي، وترغيبه في استكشاف ما وراء النصّ، وهذا يعود إلى ميل النفس البشريّة للأسلوب القصصيّ الحكائيّ.

ستتناول هذه المقالة النزعة الدراميّة في دواوين ثلاثة للشاعر، هي «الطوفان وإعادة التكوين» (1972)، و«الناس في ليلهم» (1999)، و«زهر الرمّان» (2002)، وقد اختيرت لبروز الظاهرة المدروسة فيها.

 

السرد

يمكن تعريف السرد بأنّه "الكيفيّة الّتي تُروى بها القصّة عن طريق هذه القناة نفسها، وما تخضع له من مؤثّرات، بعضها متعلّق بالراوي والمرويّ له، والبعض الآخر متعلّق بالقصّة ذاتها[1]، وقد قدّم البرغوثي إشارات معيّنة تساعد على إدراك السرد في قصيدته، من ذلك قوله: "حدّثنا"، فإلى جانب تذكير أسلوبه برواية الحديث النبويّ، والسرد الحكائيّ، فهو مِفتاح سرديّ للقصيدة:

حدّثنا اليونانيّ الضاحكُ قالْ:

يبدو أنّا صنْفانِ بلا ثالثْ

مهزومون على مَهَلٍ أو

مهزومونَ بسرْعَة،[2]

 

ويكرّر الكلمة "حدّثنا" بداية المقاطع الثلاثة الأولى من القصيدة، كأنّه يجلس إلى أناسٍ يسرد لهم حادثة حصلت معه، وكان شخص يونانيّ يرافقه، أو التقى به في المطار؛ فالقصيدة عنوانها «فوق مطار أثينا».

 

خلط السرد بالحوار

إنّ ظاهرة بدت واضحة في القصائد السرديّة عند مريد هي خلط السرد بالحوار، وكثيرًا ما يصادف المتلقّي حوارًا يسيرًا في أثناء السرد، وقد يكون هذا من ضرورات الحكاية، وممّا يدخل في باب الكلام المنقول على لسان شخصيّات الحكاية، وهنا يخطر بالبال المنطقيّة والسببيّة اللتان تحدّث عنهما روبرت شولز، ويُضاف إلى ذلك علامات الترقيم، تحديدًا النقطة بمعنى التوقّف والصمت، ولها دلالة في صمت السارد أثناء سرده. وعلى هذه الشاكلة - خلط السرد بالحوار - جاءت قصيدته «كلمة فلسطينيّة»، وقد بدأها بقوله:

أقول لكم نبوءة نَسْرِيَ المقتول في العتمة[3]

 

وهنا لا بدّ من جمهور، ليس كما المسرح، إنّما كمَنْ ينتظر قولًا وحكاية، إذن، قل، فقال:

قُتلت أنا وإيّاه

وقبل غياب قرص الشمس والعمرين في الظلمة

هوت عيناه في عينيّ. حدّقَ في جبيني

وعاد جناحه الدامي شتاءً أرجوانيًّا

يرجرج مسمعي المهزوم

ويحفر من أساطير الورى حُكْمَه

"فتى الأنين! قف! ولننطق الكلمة

فإنّك أصدق الآتين

وأوّل فاتحي الأبواب[4]

 

فالنبوءة عن فلسطين، يبيّن فيها الشاعر اليأس الّذي وصلت إليه فلسطين وأهلها، فقد فُقِد الأمل في إنقاذها ممّا هي فيه، من الداخل والخارج، فهو ممثّل للشخصيّة الفلسطينيّة الّتي تحاول المساعدة فتجد البلاد ترفض ذلك غضبًا وعدم رضا، والحوار هنا يظهر:

وحين منحتُها ظهري

استدارتْ وهي تدعوني

_ جَبُنْتَ فحلَّتِ اللعنة

جبنتَ فحلَّتِ اللعنة)![5]

 

وينهي قصيدته بحوار يخاطب فيه العرب الّذين ينعتهم بـ "إخوانه"، ويؤكّد حواره بقوله: "أخاطبكم"، ويستنهض هممهم بمدحهم.

أحبّائي:

أخاطبكم،

من الدار

وأَعْرِفُكُم... سيطفئ بعضكم ناري![6]

 

أنماط حواريّة

إنّ الحوار عنصر مهمّ من عناصر الدراما، وهو مشترك بين الدراما المسرحيّة والقصصيّة، وبعد ذلك الشعريّة الّتي استعارته من الأولى، ويرى عزّ الدين إسماعيل أنّ القصّة والشعر يستفيد أحدهما من الآخر؛ فالقصّة تأخذ من الشعر الدلالات الإيحائيّة والبُعْدَ عن المباشرة، وهو بدوره يأخذ منها تفصيلات معيّنة[7].

وما يتأثّر به الشعر من القصّة كثير في عناصره الفنّيّة؛ فمن الشخصيّات إلى السرد فالحوار وغيرها، وعن أهمّيّة الحوار في الدراما قيل: "إذ إنّ أيّة دراما لا تستطيع أن تقوم دون حوار، فهو أحد عناصرها الأساسيّة المكوّنة، فيتّخذ الحوار بمعناه العامّ في النصّ الدراميّ مكانة لها أهمّيّة بالغة في تحديد طبيعة الفعل، ومكانه، وحضور الشخصيّة الدراميّة فيه، وهو يتطلّب دائمًا وجود شخصيّتين على الأقلّ، تتحاوران وتتفاعلان معًا"[8].

 

أ. الصوت المفرد:

 تشكّلت في قصائد عدّة عند مريد البرغوثي حواريّة بصوت واحد، فكان يخاطب شخصيّات كثيرة بلا أيّ ظهور لها، منها ما حاور فيه المؤنّث، ومنها ما حاور فيه المذكّر، وغيرها من القصائد خطاب صوته المفرد فيها مجهولًا، قد يفسّره المتلقّي وقد يلتبس عليه الأمر، وأحيانًا يذكره الشاعر.

 

ب. الأصوات المتعدّدة:

تظهر الأصوات المتعدّدة في شعر مريد البرغوثي، ولكنّه ليس حوارًا لافتًا بكثرته، فهو إذا ما قيس ليس سوى أطراف للحديث في بعض القصائد، ولم يرد في شعره قصائد يمكن أن تُعَدّ حواريّة بالكامل بدون سرد ولو يسيرًا، سواء في بدايتها أو وسطها أو نهايتها، فحتّى قصيدته «منتصف الليل» متعدّدة الأصوات، جاء فيها السرد والقصّ، وقد ذُكِرَ من قبل أنّه خلط الحوار بالسرد كثيرًا، ومن ذلك الأصوات في نهاية قصيدته «كيف الحال؟». يقول بعد سرد مواقف لشخصيّات عديدة في الصباح الباكر:

صَوْتٌ من النافذة المجاورة يصيحُ

_ أهلًا، صباح الخيرِ، كيفَ الحالْ؟

ويُسْرِعُ الجواب:

_ أهلًا، صباح النورِ، إنّنا بخير

إنّنا بِخَيْر![9]

 

صورة لحال الناس في الصباح، وتحديدًا لحال الجيران الّذين اعتادوا السؤال عن بعضهم بعضًا، بعد إلقاء التحيّة، ولكنّ الإجابة معهودة «بِخَيْر»؛ فالكلّ يحاول إظهار نفسه بأفضل حال، ولو كان على غير ذلك، والصوتان هنا واضحان. وقصيدة «لمَنْ؟» الّتي جاء السرد في نهايتها، جاء الحوار فيها بين شخصيّتين؛ أمّ وطفلها، يقول:

يا أمّي، لِمَنْ هذا الجيش؟

هذا جيشُكَ يا طفلي العزيز،

جهّزْتُهُ ليحميك.

يا أمّي، لمَنْ كلّ هذه الأسلحة؟

هذه أسلحتكَ يا طفلي العزيز

اشتريْتُها لكَ، لتَطْمَئِنّ.[10]

 

ويستمرّ الحوار بينهما، الطفل يسأل والأمّ تجيب، والجديد في القصيدة إهمال علامة الترقيم الدالّة على الحوار، والمميّز للشخصيّات، والسبب وضوح بداية الحوار ونهايته لكلّ شخصيّة. في حين اختار وضع علامة الحوار ( _ ) لمّا تحاور مع المضيفة اليونانيّة، وهو فوق مطار أثينا:

كنّا فوق مطار أثينا  

ومضيفتنا اليونانيّةُ تحني قامتَها بالقهوة،

_ كيف هزمتم إسبارطا يا بِنْتَ الناسْ؟

_ لا أدري. لا أَذْكُرُ[11]

 

وحين تأكّد أنّ المتلقّي عرف أطراف الحوار، أكمل بلا علامة الترقيم، ودلالة ذلك أنّه يريد أن يعرف كيف هُزِمَت إسبارطا، ليعرف كيف يمكن هزيمة إسبارطا المعاصرة؛ أي إسرائيل:

نحن قرأنا أيّامَ دراستنا

إسبارطا ماتتْ.

ولماذا يعنيكَ الأمرْ؟

ما رَأْيُكَ في القهوة؟[12]

 

استمرّ الشاعر على نهجه في استخدام علامة الترقيم، ففي قصيدة «أمير العسكر» قال:

وقبيل جلوسي لكتابة هذي القصّة

سألتني في الركن المهجور من الشارع طفلة

يا عمّي

ما اسمُ أمير العسكر؟

هل تعرف أنت أمير العسكر؟

...  ...  ...

يا ذات الوجه الطيّبْ

أعطيني همًّا... آخر![13]

 

عدم استخدامه علامة الترقيم سدّ مسدّه في التوضيح للمتلقّي السطران قبل بدء الحوار؛ فتلقائيًّا عُرِف المتحاوران، وهما: الطفلة والعمّ (الشاعر).

 

ت. الحوار الذاتيّ:

كلّ شخص له خلوة مع نفسه، يفكّر فيها ويتذكّر، وأحيانًا لا يجد مفرًّا من الحديث معها، وبما أنّ الشاعر بشر فإنّ له لحظات لا يستطيع فيها الإفصاح عمّا يدور في صدره إلّا لذاته، ويدفعه إلى هذا أسباب عدّة، منها الانفعالات والأفكار الوليدة الموقف واللحظة، ومنها عدم الوثوق بأحد، ويعود بعضها إلى الخوف والحياء والفراغ. ومريد البرغوثي لم يخلُ شعره من الحوار الذاتيّ، وقد جاء هذا النمط متداخلًا بالسرد، كما الحوار بين الشخصيّات. يقول:

تطالبني بالكلام

فأزْدادُ صمتًا![14]

 

هكذا يبدأ، وكأنّه يقول: لن أتحدّث إلّا مع نفسي، والمتتبِّع للقصيدة يتيقّن ذلك، لما فيها من إشارات دالّة وموحية تؤكّد الأمر:

كيف أشرح ما فيَّ يا بِنْتُ؟

هذا الصراخَ الخَفِيَّ،[15]

 

لعلّ الخجل من البنت، هو ما يدفعه إلى الصمت والصراخ بلا صوت، فيكتم ويحدّث داخله بالّذي لا يقوى على التفكير الجدّيّ فيه:

فلا تسألي راكضًا أن يُرَتِّبَ فوضاهُ،

لا تطلبي أن أُعَلِّمَ هذا القطيع من الجنّ في داخلي لغةً.

للقواميسِ فَلْيذْهَبِ الطيّبونَ

أنا ساكنٌ في غيوم نواياي،[16]

 

الألفاظ لها دورها؛ فالسكون والنوايا داخل الشاعر، والفوضى الّتي يرفض ترتيبها أو لا يقدر على الإفصاح بها، هي فوضى داخليّة؛ لذا إبقاؤها حديثًا ذاتيًّا أفضل كثيرًا من الإفصاح والحديث. وينهي القصيدة بما بدأ به من تأكيد الصمت والاكتفاء بحوار النفس؛ فالصمت يتحدّث بمكنونات الذات، وهو أبلغ من الكلام أحيانًا:

وصمتي

كَدُرْجِ السكاكينِ إذْ تَلْمَعُ الشمسُ فيه

انظري جيّدًا![17]

 

حتّى الدعوة إلى النظر هنا حوار داخليّ، وإلّا فكيف يكون صامتًا ويحاور فتاة؟ ويحدّث نفسه بتلك الهموم الّتي يحملها على ظهره، ولا يستطيع التخلّص منها سائلًا نفسه:

على ظهري طوالَ الوقتْ؟[18]

*****

إحالات:

[1] حميد لحمداني، بنية النصّ السرديّ (من منظور النقد الأدبيّ)، ط 1 (بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ للطباعة والنشر والتوزيع، 1991)، ص 45.

[2] مريد البرغوثي، الناس في ليلهم، ط 1 (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 1999)، ص 141.

[3] مريد البرغوثي، «الطوفان وإعادة التكوين»، الأعمال الشعريّة، ط1 (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنشر، 1997)، ص 750.

[4] المرجع نفسه، ص 750 - 751.

[5] مريد البرغوثي، «الطوفان وإعادة التكوين» (1972)، الأعمال الشعريّة، 753.

[6] المرجع نفسه.

[7] يُنْظَر: الشعر العربيّ المعاصر (قضاياه وظواهره الفنّيّة والمعنويّة)، ط2 (بيروت: دار العودة ودار الثقافة، 1972)، ص 301.

[8] وسيم الكردي، المِشكاليّة: نحو حوار حواريّ من الصوت المفرد إلى الأصوات المتعدّدة، ط1 (مركز القطّان للبحث والتطوير التربويّ، رام الله، 2003)، ص 45.

[9] البرغوثي، الناس في ليلهم، ص 25.  

[10] المرجع نفسه، ص 105.

[11] المرجع نفسه، ص 143.

[12] المرجع نفسه.

[13] مريد البرغوثي، «الطوفان وإعادة التكوين» (1972)، الأعمال الشعريّة، ص 756.

[14] مريد البرغوثي، الناس في ليلهم، ص 67.

[15] المرجع نفسه، ص 70.

[16] المرجع نفسه.

[17] مريد البرغوثي، الناس في ليلهم، ص 71.

[18] مريد البرغوثي، زهر الرمّان، ط1 (بيروت: دار الآداب للنشر والتوزيع، 2002)، ص 28.

 

 

التعليقات