19/06/2021 - 15:35

الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

 

لا أذكر متى بدأت أشاهد فلسطين وأرسم صورتها... ربّما منذ قبل ولادتي. بالمناسبة، وُلِدْتُ في جبل لبنان في الثمانينات.

تبعد قريتي عن أوّل قرية فلسطينيّة في إصبع الجليل نحو 70 كيلومترًا.

وبالمناسبة أيضًا، لم أعرف حارات بيروت الّتي تبعد عن قريتي نحو 35 كيلومترًا إلّا في أواخر التسعينات، ولكنّي عرفت دمشق منذ الطفولة. تبعد دمشق عن قريتي 80 كيلومترًا. كنت أعتقد دائمًا أنّها أقرب من بيروت... ربّما بسبب تعطّل شبكة المواصلات بين جبل لبنان وبيروت، خلال الحرب الأهليّة الّتي بدأت قبل ولادتي. كانت دمشق عبر سهل البقاع أقرب، كانت المدينة الّتي نعرف ونقصد للتبضّع، كانت أيضًا المدينة الّتي هرعنا إليها بضع مرّات بسبب الحرب.

المهمّ... لم أكن أعرف أنّ إصبع الجليل أقرب من دمشق، أو أنّه تقريبًا على المسافة ذاتها من عالم طفولتي. ولم أكن أعرف أنّ بيروت هي – جغرافيًّا - الأقرب إلى قريتي.

 

المهمّ... لم أكن أعرف أنّ إصبع الجليل أقرب من دمشق، أو أنّه تقريبًا على المسافة ذاتها من عالم طفولتي. ولم أكن أعرف أنّ بيروت هي – جغرافيًّا - الأقرب إلى قريتي.

كنت أشاهد فلسطين منذ قبل أن أدرك أنّ معرفتي بها بدأت من خلال إذاعة الاحتلال؛ فالبداية كانت مع «حال الطقس»، حين كنت أسمع والديّ والجيران يتكلّمون عن حال الطقس، ويقولون إنّ إذاعة الاحتلال أدقّ في وصف تقلّبات الطقس، في الساعات والأيّام القادمة، من الإذاعات المحلّيّة في لبنان. عرفتُ أنّ فلسطين محتلّة، وأنّ مَنْ احتلّها متقدّم في قياس حال الطقس.

ثمّ عرفت أنّ احتلالها مخيف جدًّا من خلال الحديث عمّا جرى للناس في الانتفاضة الأولى، ثمّ عرفت أنّ احتلالها سياسيّ أيضًا، من خلال الحديث عن «اتّفاقيّة أوسلو» والانكسار الكبير الّذي أنتجته، ثمّ عرفت أنّ احتلالها ثقافيّ أيضًا، من خلال محاولات تهويدها ومسح هويّتها وعزلها عن امتدادها الجغرافيّ. تترافق هذه الأحاديث الّتي تُظهر تقدّم الاحتلال وقدرته على إثارة الرعب، وتحقيق الفوز السياسيّ والعنجهيّة الثقافيّة، بحديث رقيق مرّة عن جمال فلسطين وشبهها بجغرافيّة لبنان – حال الطقس إن حكت - ومرّة عن قوّة أهلها واستبسالهم على الرغم من ضعف قدراتهم... وبحديث مزعج دومًا عن انهزام سياسيّيها وسياسيّي المنطقة كلّها أمام جبروت الاحتلال.

كانت المعادلة الفطرة في مخيّلتي... فلسطين جميلة، وناسها أقوياء، وثقافتها غالبة، والاحتلال ظالم ووحشيّ، وما يسهّل عمله هو الاستسلام أمامه والقبول بشروطه.

تتالت السنوات، واستمرّ عدوان الاحتلال علينا جميعًا. غارات وحملات عسكريّة قطّعت الأوصال، ودمّرت كلّ ما يُبنى، وأقامت المجازر واحدة تلو الأخرى. كانت الفطرة دائمًا تثبت نجاحها، كلّما اعتدى علينا الاحتلال، واشتكينا إلى «مجلس الأمن الدوليّ» مثلًا. لم يرتدع الاحتلال، واستمرّ في إجرامه. كلّما أعددنا ردودًا وقاومنا ورفضنا شروطه تقدّمنا خطوة. فلم أعرف جنوب لبنان مثلًا قبل عام 2000 مع تحريره، وانسحاب قوّات الاحتلال منه بعد سنوات من المقاومة والنضال الشعبيّ، والرفض العامّ لوجوده وشروطه وعنجهيّته.

ثمّ شاهدتُ أطراف فلسطين مرّات عدّة من وراء شريط حدوديّ يسجننا معًا، وشاهدت أطرافها من وراء نافذة الطائرة المتوجّهة من عمّان إلى بيروت، وشاهدت ناسها المقيمين في لبنان، وشاهدت شوارع منها من خلال إتاحة خرائط غوغل لهذه الخاصّيّة، وشاهدت الكثير من صورها في حقبات مختلفة. وفي كلّ مشاهدة كانت الجغرافيا تعود لتذكّر بالمسافة والبُعد والبؤس، وفي كلّ مشاهدة تعود الفطرة لتثبت نفسها.

كيف فات الاحتلال أنّ الطقس في الساعات والأيّام القادمة سيكون امتدادًا للجغرافيا وغلبةً للهويّة؟

 

تهبّ فلسطين غير مرّة... يُعْلَن فشل الهبّة فتنجح، نجاحات غريبة يصعب وصفها، ولم يستطع الاحتلال الحدّ منها. مثلًا تقدّم فلسطين أثمانًا ضخمة، وتكون النتيجة أن يدرك ولد إضافيّ أنّه فلسطينيّ وعليه الاستمرار لاسترجاع حقّه. تضحّي فلسطين بجيل كامل كي يولَد جيل جديد يحمل خريطة بلاده ويرفع علمها. نجاح فطريّ غريب... يتفوّق على تقدّم الاحتلال في قياس حال الطقس، وعلى قدرته المهولة في بثّ الذعر، وعلى سهولة المنازلة السياسيّة لديه، وعلى اعتقاده أنّ هذا كلّه هو تفوّق ثقافيّ له.

كيف فات الاحتلال أنّ الطقس في الساعات والأيّام القادمة سيكون امتدادًا للجغرافيا وغلبةً للهويّة؟

من قريتي في جبل لبنان، بفطرة لازمتني، ولم تستطع أبحاث العالم كلّه إيجاد معادلة أوضح وأنجح منها... أشاهد فلسطين تهبّ. تقول عكس ما قيل، وتعمل عكس ما رُسم، وتجعل طقسها عصيًّا على القياس، بأدوات احتلال لمّا يفهم بعد كيف يدمّر ولد من أرضنا سقف السماء على رأسه... وينجح... وننجح.

 

 

أريج أبو حرب

 

 

 

كاتبة من لبنان. مختصّة في تأسيس المشاريع الثقافيّة وإدارتها. مؤسِّسة مبادرة لـ «مِعْزَفْ للموسيقى الأصيلة في المشرق».

 

 

 

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

12/08/2021
«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

04/06/2021
محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

28/06/2021
جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

04/08/2021
في مديح الْجَدْعَنَة

في مديح الْجَدْعَنَة

03/07/2021
«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

27/05/2021
خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

16/05/2021
في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

14/06/2021
هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

30/05/2021
ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

07/06/2021
مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

04/07/2021
 قواعد الاشتباك الأربعون

 قواعد الاشتباك الأربعون

25/05/2021
مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

24/06/2021
"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

26/07/2021
نروي الحكاية، نستعيد الجبل

نروي الحكاية، نستعيد الجبل

27/06/2021
مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

02/06/2021
هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

14/05/2021
الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

30/06/2021
معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

19/05/2021
للحارات شباب يحميها | شهادة

للحارات شباب يحميها | شهادة

27/05/2021
"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

25/06/2021
حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

25/05/2021
مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

21/05/2021
لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

29/05/2021
التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

26/07/2021
الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

01/06/2021
الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

18/05/2021
الصور الّتي لن تفارقنا

الصور الّتي لن تفارقنا

21/05/2021
لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

05/07/2021
واجبنا أن نغضب | ترجمة

واجبنا أن نغضب | ترجمة

22/05/2021
جغرافيا من مسنّنات

جغرافيا من مسنّنات

13/08/2021
عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

18/05/2021
مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

21/06/2021
«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

21/06/2021

التعليقات