24/07/2021 - 16:05

رينييه شار... الأشجار حرّة ألّا تحمل أكثر

رينييه شار... الأشجار حرّة ألّا تحمل أكثر

رينييه شار René Char (1907 - 1988)

 

رينييه شار René Char (1907 - 1988) أحد أكبر شعراء فرنسا في القرن العشرين. انخرط في شبابه بحركة المقاومة ضدّ النازيّين في الحرب العالميّة الثانية، وكتب مذكّراته لاحقًا عنها، فحياته وأدبه متداخلان بشكل كبير. انخرط في الحركة السورياليّة منذ بداية مشواره الأدبيّ، وكان على علاقة شخصيّة مع مجموعة من الكتّاب والفنّانين مثل بول إيلوار، وأراغون، وبريتون، وبيكاسو، الّذين كانوا يكبرونه سنًّا. منذ العام 1934 بدا مستقلًّا عن غيره، حريصًا على عدم تقديم أيّ تنازلات لأيّ حركة فنيّة أو أدبيّة، وكانت المجموعة الشعريّة الّتي كرّسته شاعرًا مهمًّا هي «Fureur et mystère» (الغضب والغموض)، وهذه المجموعة تغطّي قصائده المكتوبة بين 1938 و1947.

عام 1948 كتب مسرحيّة بعنوان «Le soleil des eaux» (شمس المياه)، الّتي تطرّق فيها إلى موضوع تلوّث البيئة، وهذا يشير إلى وعي مبكّر لدى الشاعر لما أصبح الآن قضيّة أساسيّة في حياتنا. وقد توالت بعد ذلك المجموعات الشعريّة الّتي كرّست حضوره شاعرًا مهمًّا مثل مجموعته «Les matineux» (الصباحيّون) الّتي اقتبست منها القصائد المترجمة هنا.

المرّة الأولى الّتي سمعت بها برينييه شار كانت في أحد اللقاءات الّتي عقدها بيت الشعر الفلسطينيّ في رام الله مع محمود درويش، الّذي عبّر عنّ إعجابه بهذا الشاعر. عدّه كامو عام 1954 أكبر شاعر حيّ، وقال عن مجموعته «الغضب والغموض» إنّها من أكثر ما منحنا إيّاه الشعر الفرنسيّ من دهشة منذ «إشراقات» و«كحول»، والمقصود بهما مجموعتي رامبو وأبولنيير. وقد وصف كامو انفصال رينييه شار عن السورياليّة قائلا إنّه "غادرها لمعرفته أنّ خطوته ستكون أكثر ثقة حين يمشي وحيدًا".

هو شاعر طبيعة، متجاوزًا العلاقة الرومانسيّة بها؛ فالطبيعة في أعماله ليست فقط مصدر جمال وحقيقة، بل خلّاقة وخالقة، وهي تجسيد لروح الشعر نفسه، متجاوزًا بذلك الشعر ذي الهاجس المدنيّ لشعراء السورياليّة الّذين انضمّ إليهم لفترة.

له اهتمامات وممارسات فنّيّة خارج الشعر، فقد رسم العديد من اللوحات، وشارك في معرض فنّيّ، لكنّ مشروعه الشعريّ ظلّ مصدر إبداعه الأول. وهو من أكثر الشعراء اقتباسًا من قبل الفلاسفة، وهذا بسبب البعد الفكريّ لإيحاءاته الشعريّة. يعدّه بعض النقّاد بأنّه «philosophe en vers» )فيلسوف في قصيدة(، لما يضجّ به شعره من أفكار ورؤى. وتشير العديد من الدراسات إلى أنّ شعر رينيه شار في حوار وتداخل كبير مع ثلاثة فلاسفة بشكل خاصّ، هم نيتشه، وهايدغر، وهيروقليط الفيلسوف اليونانيّ القديم. وأعتقد أنّ لديه أيضًا من روح المتنبّي الكثير، ولا سيّما في قوّة الروح الّتي تعبّر عنها قصائده؛ فكما "تُؤْخَذُ الدنيا غِلابا" لدى المتنبّي، فعند رينيه شار أيضًا "الحياة إمّا أن تُحْلَم فقط، أو تُعاش".

تمتاز لغته بالغموض والكثافة، والقوّة الّتي توحي بها صياغة الجملة الشعريّة. يبدو لي لو ترجمنا قصائده إلى رسومات، فستأتي الخطوط على اللوحة بضربات قويّة، حادّة الحوافّ، مركبّة.

 

علّه يحيا

Qu’il vive

في بلدي، علامات الربيع الرقيقة والطيور ذات الريش الهزيل نفضّلها على الأهداف البعيدة

الحقيقة تنتظر الفجر قرب شمعة. زجاج النافذة مهمَل، فهو لا يضير اليقظ!

في بلدي، لا نثقل على شخصٍ يضجّ قلبه بالمشاعر

وليس هناك ظلالٌ ماكرةٌ على القارب المقلوب

لا نكتفي بإلقاء التحيّة، هذا معدومٌ في بلدي

لا نقترض إلّا أقلّ ممّا نمنح

هناك أوراقٌ، أوراقٌ كثيرةٌ تحت الأشجار في بلدي، والأغصان حرّةٌ في أن لا تحمل ثمرًا!

لا نؤمن بحسن نيّة المنتصر

في بلدي، نقدّم الشكر!

 

 

نصيحة الحارس العسكريّ

Conseil de la sentinelle

فاكهةٌ تسيل على السكّين

جمالٌ نكهته صدًى

فجرٌ له فم كمّاشةٍ

عشّاقٌ يودّ لو يفرّقهم

أَظْفُرٌ يحكّ الحائط

هيّا اختفوا جميعًا! اختفوا!

 

 

الليالي المناسبة

Les nuits justes 

مع ريحٍ أكثر قوّة

ولمبةٍ أقلّ عتمة

علينا إيجاد المخرج

حيث تشير العتمة «مرّوا»

وسنعرف أنّ الأمر صحيحٌ

عندما ينطفئ الضوء

آه، أيّتها الأرض الّتي أضحت ليّنة

أيّها الغصن حيث ينضج فرحي

وجه السماء أبيض

والّذي يلمع، هنا، أنت

أنت سقوطي، حبّي، وهيجاني!

 

 

تمامًا

Pleinement

عندما لمست الأرض عظامنا

لتنهار عبر وجوهنا

حينها، لم ينتهِ شيءٌ يا حبّي.

جاء إحساسٌ طازجٌ في صرخةٍ

ليحيينا من جديد ويعلّمنا

حتّى وإن فقدت الحرارة نفسها

فإنّ شيئًا ما سيكمل

نقيضًا للحياة الميّتة،

إلى أبدٍ يبزغ. 

وما رأيناه يعوم

جنبًا إلى جنبٍ مع الألم

كان لنا مثل عشٍّ،

وعيناه الاثنتان توحّداننا

في ولادةٍ بالتراضي.

الموت لم يكن قد نضج

رغم الصوف الممتدّ

والسعادة لم تبدأ بعد

بالإصغاء إلى حضورنا،

أمّا العشب فكان عاريًا ومسحوقًا!

 

 

قناع الجنازة

Le masque funèbre

كان رجل، في يومٍ من الأيّام، لم يعد جائعًا، لم يعد أبدًا جائعًا، فقد التهم كثيرًا من الميراث، ابتلع الغذاء كلّه، أفقرَ الآخرين. لاحقًا، وجد مائدته فارغة، وسريره خاليًا، وامرأته حامل، وأرضًا بغيضة في قلبه.

لأنّه لم يكن يملك قبرًا، وراغبًا بالبقاء على قيد الحياة، وغير مالكٍ لشيءٍ يستطيع منحه، أو الحصول عليه، والأشياء هربت منه، والحيوانات كذبت عليه؛ فقد سرق المجاعة وصنع منها صحنه الّذي أصبح مرآته وهزيمته الشخصيّة.

 

 

الْأَشْنات

 Les chines

كنت أمشي بين مطبّات أرضٍ جافّة، حيث الأنفاس السرّيّة، والنباتات بلا ذاكرة، الجبل كان ينهض، عبوةٌ مملوءةٌ بالظلال كانت تحضنها لوهلةٍ حركةٌ عطشة. أثري على الأرض ووجودي يفقد نفسه. كان وجهك ينزلق للخلف أمامي، لم يكن غير بقعةٍ تبحث عن النحلة الّتي تصنع منها زهرةً وتنطق فيها الحياة. كنّا سننفصل عن بعضنا البعض. ستبقين على هضبة النسيم، وسأدخل أنا في حديقة الفراغ. هنا، تحت الصخور المحميّة، في الرياح المكتملة، سأطلب من الليل الخالص أن يدّخر نومي لكي يزيد من سعادتك، وكلّ الثمار تصبح ملكك.  

 

 


أنس العيلة

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها "عناقات متأخّرة". ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.

 

 

 

التعليقات