26/09/2022 - 14:38

«نكات للمسلّحين»... لإبطاء الموت

«نكات للمسلّحين»... لإبطاء الموت

تصميم: علاء سلامة

 

تُدخل القراءة الأولى للمجموعة القصصيّة «نكات للمسلّحين»، الصادرة عن «رياض الريّس للكتب والنشر» (2015) للكاتب الفلسطينيّ مازن معروف، تُدخل القارئ في ’متاهة‘ الوصف السرديّ لأحداث كلّ قصة، مع ضحكات متقطّعة حال فهم ’السرد الوصفيّ‘ لبعض الشخصيّات، ليكتشف القارئ، بعد القراءة الثانية، أنّه يعيش داخل إحدى لوحات سيلفادور دالي أو خوان ميرو، ساعيًا للبحث عن ’فكرة‘ القصة، والهدف من كتابتها، ليطرح سؤالًا أوّليًّا: ما الّذي يريده الكاتب هنا؟ وما الهدف من استدعاء هذه الشخصيّة دون غيرها؟ هل وجودها داخل هذا المشهد يتناسب و’حالة‘ النصّ؟ ليقود ذلك القارئَ إلى أنّ أسلوب السرد في هذه المجموعة يتألّف من مكوّنين اثنين: المكوّن السرياليّ المتمثّل في ’بنية‘ النصّ، والمكوّن الهزليّ الحاضر في ’بنية‘ شخصيّاته، وما وراء هذين المكونين يكمن المعنى الفعليّ والمتجسّد في التعبير عن الحرب، وآثارها على الإنسان والنبات والحيوان، ووصف ما يُشتقّ منها، مثل العنف.

 

نُكات لإبطاء الموت

تحتوي هذه المجموعة على أربعة عشر قصّة مختلفة في موضوعاتها، وفي زمن السرد ومكانه، وشخصيّاتها، إلّا أنّها تماثل بعضها في أسلوب التعبير. تبدأ المجموعة بقصّة عنوانها «نُكات للمسلّحين»، العنوان الرئيسيّ المُختار للمجموعة كلّها. تتضمّن هذه القصّة عشرة مشاهد سرديّة، كلّ منها يحاكي واقعًا منفصلًا عن غيره، لكنها تكمّل بعضها البعض في ترتيب الأحداث. في المشهد الأوّل ثمّة ثنائيّة الحرب والعائلة، من خلال الحديث عن ’نبتة الفلفل‘، الّتي يُشكّل استدعاؤها في هذا السياق بُعدًا رمزيًّا مُمثّلًا بقسوة الحرب وألمها. يظهر هذا البُعد في ’تتبّع‘ نموّ النبتة، بالتوازي مع الأحداث الّتي تعصف بالبيت نتيجة ما يحدث خارجه من إطلاق نار: "كنّا نسمع إطلاق رصاص بين الفينة والأخرى. لكنّنا اعتدناه كما لو أنّه زمامير سيّارات عابرة"[1]. كما ارتبطت العناية بهذه النبتة بالعلاقة الأبويّة بين الأب والابن؛ فالتقصير في سقايتها، وعدم رعايتها، يتسبّب في تعنيف الابن، والضرب الّذي سيُظْهِرْ الجانب السلبيّ في شخصيّة الأب، ويدلّل على ضعفه أمام الآخرين؛ فالشوارع مكتظّة بالمسلّحين الّذين يتربّصون لبعضهم بعضًا، والكلّ يحاول أن ’يضرب‘ أو ’يقتل‘ ليُثبت رجولته؛ فالحروب، الأهليّة بشكل خاصّ، تشكّل بيئة مناسبة لـ ’التظاهر‘، و’الاستعلاء‘.

يتألّف أسلوب السرد في هذه المجموعة من مكوّنين اثنين: المكوّن السرياليّ المتمثّل في ’بنية‘ النصّ، والمكوّن الهزليّ الحاضر في ’بنية‘ شخصيّاته، وما وراءهما يكمن المعنى الفعليّ والمتجسّد في التعبير عن الحرب، وآثارها على الإنسان والنبات والحيوان...

يسعى الابن، الشخصيّة المركزيّة، إلى مساعدة الأب في تركيب عين زجاجيّة بدل الّتي فقدها نتيجة الضرب، ويحاول أمام زملائه في المدرسة إظهار رجولة والده، وأنّه قادر على الدفاع عن أهل بيته، لكنّه لا يُفلح في ذلك؛ فقد اخْتُطِفَ والده وعُذِّبَ، وفَقَدَ الابن الأصمّ وعاش التعاسة بمعانيها كلّها. الحدث المركزيّ في هذه القصّة يتجسّد في المشهد السابع، الّذي عُنْوِنَ بـ «نُكات للمسلّحين»، وهو المشهد المركزيّ في القصّة، بل في المجموعة كلّها، على اعتبار أنّه يُمثّل ثنائيّة الهزل والألم معًا. فبعد أن خسر الأب ابنه الأصمّ، صاحبه الحزن والأسى مشكّلًا ’هويّته الجديدة‘: رجل عاجز مستسلم لضربات المسلّحين، يعود إلى البيت فيستعمره الصمت، فالحزن، كما يقول مونتيني في ’مقالاته‘: "يصعق الكيان، ويجعل المرء كالمشلول لا يستطيع حراكًا؛ إذ تستسلم الروح بعد ذلك للدموع والشكوى، فكأنّها تتحرّر وتنطلق من عقال لتنفّس عن مكنونها وتنشرح"[2].

بعد أن انتبه المسلّحون إلى حالة الأب هذه، أصبحوا يطلبون منه ’نكتة‘ مثيرة للضحك، وكلّما زادت نكات الأب قلّ ضربهم له، وهنا يظهر التفاعل الحقيقيّ بين الهزل والألم في القصّة، حيث تتحوّل "الكثير من المآسي إلى كوميديا"[3]، كما يقول هنري برغسون. إذ كيف يمكن تصوّر أب يمزح وهو مكلوم وحزين على فقدان ابنه؟ يسرد الابن مساعدته لوالده في تأليف النكات، غير المضحكة في أغلبها. إنّ فعل الضحك هنا يعدّ وسيلة من وسائل ’النجاة‘ من العنف، كما يظهر في عدد من الأفلام السينيمائيّة الّتي تستغلّ فيها مجموعة من المقاتلين مَنْ هم أضعف منهم، حتّى يُضحكوهم، إمّا بحركات انفعاليّة، أو بتقوّلات هزليّة، بهدف التقليل من قيمة الضحيّة الّتي تعتبر الضحك، بالنسبة لها، وسيلة دفاعيّة للبقاء على قيد الحياة وتجنّب الضرب.

 

غرائبيّة السرد

من القصص الرمزيّة في هذه المجموعة قصّة «ماتادور»، الّتي يجتمع فيها السرد الغرائبيّ مع السرد الهزليّ؛ أمّا الأوّل فيظهر في الموت المتكرّر لخال السارد، الّذي مات ثلاث مرّات، والثاني في ’سلوكيّات‘ الخال، ومحاولاته المتكرّرة لتحقيق أحلامه بأن يصبح مصارع ثيران، وشرائه بدلة ماتدور إسبانيّ أو مكسيكيّ، وهنا تتشابه مغامراته مع مغامرات دون كيخوته المضحكة أثناء محاولته محاربة طواحين الهواء.

 ترمي هذه القصّة إلى السخرية من الواقع البائس المحيط، وهي سخرية، كما يصفها آلان وايلد ’غير مباشرة‘[4]، يُقصد بها بساطة حلم المنفيّين، وإخفاقهم في الوصول إلى ما يتمنّون. وما محاولات مصارعة الأبقار المضحكة في المسلخ إلّا إرضاءً للذات للخروج من متاهات العيش القاسية.

من السرد الوصفيّ لآثار الحرب المدمّرة، ما رواه السارد في قصّة «غراموفون»، الّتي يتحدّث فيها عن بار ’أبو إيليا‘، الّذي يُعتبر إحدى مكونات معالم الهويّة الحضريّة في المدينة، ويعمل فيه والده وظيفة مضحكة أيضًا، حيث يمضي "ساعات وساعات واقفًا خلف الكونتوار يُدوّر مقبض الغراموفون القديم طراز 1900"[5]. دُمِّرَ البار، مثل معالم المدينة الأخرى، إثر سقوط قذيفة فراغيّة عليه، ولم ينجُ أحد سوى والده الّذي فقد ذراعيه، وكأنّ جهاز الغراموفون هو الّذي أنقذ حياته، ولذلك احتفظ الابن بمقبض الغراموفون الّذي نجا هو الآخر من الانفجار، وأبقاه بعيدًا عن نظر والده، حتّى عثر الأخير عليه صدفة في الخزانة، وولّد في نفسه الأمل في الوجود. كأنّ أيّ شيء من ماضينا، حتّى لو أبقاه الأسى، يولّد فينا الشوق والحنين، وهذا معنى مهمّ أراد أن يفسّره لنا الكاتب في هذه القصّة؛ إنّه التجديد ’الهويّاتي‘ للشخصيّة الّتي كادت أن تفقد وجودها، أن تموت، إلّا أنّ فقد شيء من الجسد لا يعني العدم؛ فالهويّة الشخصيّة يستمرّ وجودها، كما يقول ديريك بارفيت: "إذا استمرّ الدماغ والجسد عينهما معًا في الوجود، يكوّنان دماغ وجسد شخص حيّ"[6].

 

 

المدينة... فضاء للسخريّة

يعود اتّخاذ الكاتب من معالم هويّة المدينة، مثل البار والمسرح، ’فضاءً سرديًّا‘ إلى إظهار التمزيق الحقيقيّ الّذي خلّفته الحرب على المدينة وسكّانها، فحتّى أبرز معالمها لم تسلم من ذلك الدمار...

يعود اتّخاذ الكاتب من معالم هويّة المدينة، مثل البار والمسرح، ’فضاءً سرديًّا‘ إلى إظهار التمزيق الحقيقيّ الّذي خلّفته الحرب على المدينة وسكّانها، فحتّى أبرز معالمها لم تسلم من ذلك الدمار؛ فبعد التدمير الكلّيّ لبار أبو إيليا، وتدمير العمارات السكنيّة، يلجأ السكّان إلى ’السينما‘ علّهم يجدون فيها ملجأً، إلّا أنّها هي الأخرى لم تسلم من القصف، ولحقها الخراب. يصف السارد هذا كلّه في قصّة «سينما» الّتي بدأها بالحديث عن آثار الحرب؛ الجوع، الكلّ في هذا الفضاء جائع، ولم يبق مع السارد وذويه سوى بضع ألواح من الجبنة المخبّأة في بطن الدبدوب، لعبة الطفلة. وكانوا قد اتّخذوا من السينما ملجأً لأنّها تقع تحت الأرض، وقد لا يصلها القصف.

لكنْ، بعد اليوم الخامس من مكوثهم هناك، سقطت عليهم قذيفة شتّت العائلات الموجودة هناك، وفي وسط هذا الخراب، حاول السارد أن يبحث عن أخته لكنّه لم يجدها، وفي مشهد سرياليّ ساخر، تظهر بقرة تذهب وتأتي، فتثير فضول السارد الّذي يسأل نفسه: "ما الّذي تفعله بقرة في حجرة بروجكتور الأفلام؟"، ليكتشف أنّ البقرة تعود لجنديّ تسبّب في لجوئه وأهله إلى السينما. وفي حوار بين الراوي والجندي، عبّر الأخير عن الكيفيّة الّتي جلب فيها بقرته من قريته إلى ساحة القتال، وفور هروبها لم يشغله شيء سوى العثور عليها، حتّى عندما يوكل بمهمّة البحث عن ’الإرهابيّين‘ - وقد وضعها الكاتب بين علامتي تنصيص، في إشارة إلى رمزيّة الكلمة ودلالتها بالنسبة إلى الآخر - فهو لا يهتمّ بالعثور عليهم قدر اهتمامه بالعثور على بقرته، وفي هذه المشاهد تتجلّى ’السخرية المباشرة‘ أيضًا من الحرب وتداعياتها.

 


إحالات

[1] مازن معروف، نُكات للمسلّحين (بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر، 2015)، ص 9.

[2] ميشيل دو مونتيني، المقالات، ترجمة: فريد الزاهي، الكتاب الأوّل (الرياض: دار معنى للنشر والتوزيع، 2021)، ص 76.

[3] هنري برغسون، الضحك، ترجمة: علي مقلد (بيروت: المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، 1986)، ص 11.

[4] يُنظر: إيهاب حسن، تحوّلات الخطاب النقديّ لما بعد الحداثة، ترجمة: السيّد إمام (العراق: دار شهريار، 2018)، ص 51.

[5] معروف، ص 53.

[6] ديريك بارفيت، أسباب وأشخاص، ترجمة: يوسف تيبس (الرياض: دار معنى للنشر والتوزيع، 2021)، ص 298.

 


 

حسني مليطات

 

 

 

أكاديميّ ومترجم فلسطينيّ، حاصل على الدكتوراه من «جامعة أوتونوما» في مدريد، متخصّص في الأدب المقارن والدراسات الثقافيّة والفنّيّة، يعمل أستاذًا مساعدًا في «الجامعة العربيّة الأمريكيّة» في فلسطين.

 

 

التعليقات