08/02/2019 - 16:47

فلسطين: تاريخ من 4000 سنة

فلسطين: تاريخ من 4000 سنة

 

المصدر: middleeastmonitor.

ترجمة: فريق تحرير روزَنَة - فُسْحَة.

 

يقدّم نور مصالحة في كتابه الأخير "فلسطين: تاريخ من 4000 سنة"، من منشورات Zed Books 2018، تفريقًا دقيقًا بين العودة الفلسطينيّة إلى التاريخ، والمحاولة الصهيونيّة لاسترداد التاريخ المزعوم، وقد فشلت الأخيرة في مساعيها لتبرير دعاواها التاريخيّة؛ ففي مناقشته لتاريخ فلسطين الغنيّ، تتكشّف محدوديّة الصهيونيّة وطبيعة تأسيسها الاستعماريّ.

لقد تشكّل استعمار فلسطين عبر تفضيل سرديّات مختلقة على التاريخ الفلسطينيّ الموثّق؛ فالتوثيقات الأولى الّتي تذكر فلسطين بالاسم، تعود إلى أكثر من 3200 سنة، غير أنّ كثيرًا من تاريخ فلسطين القديم يُتجاهَل، بما يتساوق مع المقاربة الاستعماريّة، الّتي لا تُظهر فلسطين إلّا بشكل انتقائيّ؛ لتأسيس محو صهيونيّ للسكّان الأصليّين.

 

 

في المقابل، كان هذا المحو الصهيونيّ مسؤولًا أيضًا، عن إقصاء الأقلّيّة اليهوديّة العربيّة في فلسطين، ضمن إقصاءات أخرى؛ لتعبيد الطريق بعد الحرب العالميّة الثانية أمام الهويّة العرقيّة، واستبعاد هويّات محلّيّة متنوّعة في فلسطين. إنّ سعي الحركة الصهيونيّة إلى الغزو الاستعماريّ، كان يمرّ – بالضرورة - بمحو فلسطين وكلّ تراثها.

يقسّم مصالحة الكتابات عن فلسطين إلى ثلاثة أصناف، ويحدّد ما الّذي حقّقته هذه الأصناف، في ما يخصّ الحفاظ على الذاكرة الفلسطينيّة أو محوها. يُطلق على الصنف الأوّل مصطلح "الجغرافيا الكتابيّة/ التوراتيّة"، وهو مرتبط بالكتابة الإسرائيليّة الاستيطانيّة الاستعماريّة، ويُنشر على نطاق واسع من طرف النخبة المتنفّذة، ثمّ تأتي الكتابات الجديدة، الّتي يُعامَل فيها التاريخ الفلسطينيّ باعتباره مُلحقًا بإسرائيل، وغالبًا ما يرتبط هذا الصنف بمؤرّخين صهاينة، يخلطون بين الاستعمار الاستيطانيّ والديمقراطيّة، أمّا الصنف الثالث، فهو تاريخ فلسطين التابعيّ Subaltern، الّذي يجعل أولويّته: حاجة فلسطين إلى التحدّث عن نفسها.

يُظهر مصالحة عبر صفحات الكتاب، أنّ تاريخ فلسطين التفصيليّ يمكنه أن يغيّر اتّجاهه بشكل طبيعيّ، نحو سرديّات التابعSubaltern Narratives ؛ فالجرد الزمنيّ "الكرونولوجيّ" الّذي يقدّمه كثير من المراجع الّتي ذكرت فلسطين، يعِدّ القارئ للتناقض اللاحق مع الروايات الاستشراقيّة والصهيونيّة المحرّفة؛ فالأولى (الرواية الاستشراقيّة) تمكّن الثانية (الرواية الصهيونيّة) من تكبير حيّز التحريف الواسع، الّذي بدأته حينما غيّرت التاريخ الأصليّ بمخيال مُشتهى ومُربح لصالحها.

 

يُظهر الكاتب، على عكس الادّعاءات الصهيونيّة، أنّ فلسطين كانت لها عُملتها الخاصّة، وسيادة ذات خبرة إداريًّا وإقليميًّا وعسكريًّا، بالإضافة إلى روابط تجاريّة دوليّة قديمة

 

يقدّم الكتاب مقدّمتين نظريّتين، تُظهران كيف تأسّست تصوّرات الفلسطينيّين والصهاينة عن الأرض، على ثنائيّة الارتباط والمحو على التوالي. يؤكّد مصالحة أنّ الصراع في فلسطين كان "بين المستعمِر والمستعمَر حول الأرض والديموغرافيا، والسلطة، والملكيّة، لكنّه تركّز أيضًا حول التمثّل، والتحريف، والتمثّل الذاتيّ"، فالتمثّل الفلسطينيّ للأرض كان له تاريخ كامل يبني عليه، ولم يكن في حاجة إلى الابتكار، وفي الجهة المقابلة، كانت أسطورة العودة الصهيونيّة "مبنيّة على المحو، وإنكار وجود السكّان الأصليّين في فلسطين، وعلى الاقتلاع المادّيّ الفعليّ للفلسطينيّين، وفصلهم عن تاريخهم".

يُظهر الكاتب، على عكس الادّعاءات الصهيونيّة، أنّ فلسطين كانت لها عُملتها الخاصّة، وسيادة ذات خبرة إداريًّا وإقليميًّا وعسكريًّا، بالإضافة إلى روابط تجاريّة دوليّة قديمة؛ ففي مختلف الفترات التاريخيّة المختلفة، وعلى الرغم من مرور فلسطين بتحوّلات عديدة دينيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا؛ ظلّ هناك نوع من الاستمراريّة في ما يتعلّق بالحفاظ على التراب/ الحيّز الفلسطينيّ، وحضوره في الأدب وكتابات الرحّالة وفي الخرائط. إنّ ذاكرة فلسطين الاجتماعيّة وجغرافيّتها السياسيّة ظلّتا محفورتين، والتاريخ الموثّق شاهد على هذه الحقيقة. علاوة على ذلك، كان ثمّة أدلّة على الوعي الجمعيّ الأصلانيّ، وعلى تمثّل ذاتيّ لدى الفلسطينيّين؛ سيدفعهم في سنوات لاحقة إلى مقاومة الإمبرياليّة البريطانيّة والاستعمار الصهيونيّ.

نقاش الكتاب للتصوّرات، والتصوّرات المضلّلة عن الأرض، يكشف عن تناقض تصاعديّ يطفو إلى السطح حينما يناقش مصالحة الأطر النظريّة الاستشراقيّة، ومحاولة فرض سرديّة متخيّلة لفلسطين بالقوّة، "لا باعتبارها أرضًا لتواريخ حيّة، وذكريات مشتركة للناس العاديّين، لكن باعتبارها نصبًا تذكاريًّا للمسيحيّة الغربيّة"؛ فتاريخ الصهيونيّة غير الموجود في فلسطين، سعى إلى تغييب تاريخ موثّق؛ ومن ثَمّ فالروابط بين إعادة الإحياء التوراتيّة والتدخّل الاستعماريّ، وصلت إلى حدّ تمثُّل الفلسطينيّين بشكل مضلّل وبنيّة مسبقة، وتقديمهم على أنّهم "شيء يمكن فهمه وإدارته بطرق محدّدة".

 

مؤلّف الكتاب، نور مصالحة

 

كانت الإملاءات الّتي قادت إلى الاستعمار الصهيونيّ، ذات طبيعة قسريّة تدحض الهويّة المحلّيّة الفلسطينيّة، كما تدحض صعود "الوعي الجديد بالحيّز الفلسطينيّ"، هنا يشير مصالحة إلى كتابات الشاعر الفلسطينيّ محمود درويش، الّتي تبني على التاريخ المتنوّع لأن تكون فلسطينيًّا، ويتصوّر الهويّة الفلسطينيّة باعتبارها "منتوج كلّ الثقافات القويّة الّتي مرّت فوق أرض فلسطين".

يقول مصالحة إنّ السرديّات الاستعماريّة، دمجت تاريخ فلسطين في الأساطير التوراتيّة، الّتي أقصت المعرفة التاريخيّة لفلسطين، ووضعيّتها بصفتها وحدة جيوسياسيّة منفصلة منذ العصر البرونزيّ. وتُظهر لنا قراءة فلسطين، من منظور أصلانيّ، سلسلة زمنيّة غير متقطّعة، أُغنيت فيها الأرض بثقافات مختلفة دون أيّ محاولة لإبادة السكّان الأصليّين ومساحاتهم، فسواء على المستوى اللسانيّ أو حتّى الترابيّ، كان ثمّة نوع من الاستمراريّة. لقد كان التراث الثقافيّ، والوعي التاريخيّ الفلسطينيّ، مهمّين في تشكيل الوعي الوطنيّ.

يكتب مصالحة عن أنّه في أثناء الانتداب البريطانيّ وما تلاه، "أصبحت المقاومة النشطة للخطر الوجوديّ، الّذي تمثّله الهجرة الصهيونيّة، والاستعمار الاستيطانيّ لفلسطين في فترة الانتداب، أمرًا مركزيًّا في النضال الوطنيّ الفلسطينيّ."

يصبح قارئ الكتاب واعيًا بالكيفيّة الّتي هُدم بها – سريعًا - تاريخ فلسطين المعقّد، من طرف المشروع الاستعماريّ الصهيونيّ؛ وهو موضوع الجزء الأكبر من الكتاب، أمّا المشروع الصهيونيّ ذاته فخُصّصت له الفصول الأخيرة، ليكون صدًى لاستعمار الحيّز بشكل حثيث الخطى، ولتعويض السكّان الأصليّين بالمستعمرين الاستيطانيّين.

 

إنّ هذا المحو الصهيونيّ لم يكن بلا تناقضات؛ فأسطورة الأرض القاحلة الّتي طوّرها مصالحة؛ لتشمل السرديّة الاستعماريّة للأرض الّتي سكّانها غير ذوي قيمة تخوّل استشارتهم، تصطدم بحواجز تكشف عن محدوديّة الصهيونيّة نفسها

 

تظهر أصناف الكتابة الثلاثة، الّتي حدّدها مصالحة في بداية هذه الدراسة في الكتاب، كلّما نحا النقاش نحو التحليل التاريخيّ الحديث، للكيفيّة الّتي مكّنت بها الصهيونيّة المسيحيّة السرديّة الاستعماريّة الاستيطانيّة؛ فأبادت التاريخ التابعيّ الّذي له أهمّيّة كبيرة، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أيضًا، عدم تكافؤ القوّة الناجم عن الهيمنة الصهيونيّة.

إنّ هذا المحو الصهيونيّ لم يكن بلا تناقضات؛ فأسطورة الأرض القاحلة الّتي طوّرها مصالحة؛ لتشمل السرديّة الاستعماريّة للأرض الّتي سكّانها غير ذوي قيمة تخوّل استشارتهم، تصطدم بحواجز تكشف عن محدوديّة الصهيونيّة نفسها، كأن تقوم الأخيرة بعَبرَنة أسماء القرى العربيّة، وكأنّ التراث التوراتيّ، لم يكن مناسبًا ليتوافق مع تغيير التسميات الجغرافيّة الفلسطينيّة، وما لم يتمكّنوا من تدميره، كانوا يغيّرونه أو يستولون عليه، وهذا الأمر الأخير كان يوضع في إطار الصدفة، أو يُتلاعَب به ليصبح سيرورة إعادة بناء انتقائيّة، تخدم سياسات المستوطن الصهيونيّ.

إنّ هذا الكتاب - ككلّ كتب مصالحة - يولي اهتمامًا شديدًا بالتفاصيل، وبالشرح الدقيق، وإنّ قراءة - أو إعادة قراءة - هذا الكتاب تحفّز تأمّلًا جديدًا؛ بسبب موضوعاته المتنوّعة وتحليلاتها، ولا سيّما في ما يتعلّق بالاجتثاث، الّذي حصل للسكّان الأصليّين من تاريخهم، والّذي فرضته الصهيونيّة بالقوّة؛ ليوافق المشروع الاستعماريّ.

لطالما كانت فلسطين قادرة على تعريف نفسها بنفسها، بينما أدامت الصهيونيّة وإسرائيل بعضهما البعض، عن طريق النهب والتغيير والاستيلاء والتعويض.

 

 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من الإنجليزيّة والفرنسيّة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بإشراف المترجمين، أسامة غاوجي ومعاد بادري.

موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا. 

* بعض الموادّ البصريّة الواردة في هذه المقالة من اختيارات هيئة التحرير، لا المصدر الأصل.

 

 

التعليقات