21/12/2017 - 17:35

"سفر التكوين": عن أشياء أخرى غير الاحتلال

Justin Nuyda

تنقسم رواية "سفر التكوين" لسهيلة هشام عبد اللطيف (الفارابيّ ومؤسّسة تامر، 2018)، إلى ثلاثة أجزاء غير متساوية في حجمها، لكنّها متساوية في اشتراكها ببناء صورة لحياة رجل. حياة قد تكون لأيّ منّا، بدأت تتشكّل معالمها يوم فصله عن أمّه وسفره مع أبيه إلى بلاد لا يعرف أهلها، فلسطين، قبل احتلال عام 1967 بقليل.

جرأة

لا بدّ من التنبيه، بداية، إلى أنّ الرواية تبدو للوهلة الأولى وكأنّها أتت لتعالج موضوع الاحتلال وأثره في حياة الإنسان الفلسطينيّ. لكنّها، في الحقيقة، لا تعالج موضوع الاحتلال ولا آثاره، ولم تأت لتعالج أيًّا من أبعاد القضيّة الفلسطينيّة. بل، وعندما دارت بعض الأحداث خلال احتلال عام 1967، كان تسليط الضوء على أشياء غيرها، غير الاحتلال.

وكأنّ سهيلة عبد اللطيف تقول بوجود أشياء أخرى، إضافة للحرب وإضافة للاحتلال، يجدر الانتباه إليها؛ أشياء لها الأثر الأكبر/ الأعمق في حياة الإنسان المفرد، وما جاء ذكرها لعام 1967 وما كان فيه إلّا لتقول ذلك. فلو أنّها لم تذكر الاحتلال، لما كان بإمكانها الإشارة إلى أهمّيّة الالتفات/ الانتباه للأشياء الأخرى الحادثة في حياتنا، والمحدّدة في شخصنا، ولما كان بإمكانها القول إنّ الاحتلال ليس كلّ شيء، بل أحيانًا كثيرة، لا نكاد نجد له أثرًا في حياتنا المفردة، الأمر الذي يطلب الكثير الكثير من الجرأة في ظلّ الظروف السياسيّة التي يعيشها الفلسطينيّ.

توراتيّة مَزيحَة

وفي السياق نفسه، يجدر الوقوف لدى أمرين: الأوّل، اسم الرواية. والثاني، الاقتباس في مستهلّها.

اسم الرواية، "سفر التكوين"، فيه مقابلة بين سفر التكوين التوراتيّ وسفر تكوين الأفراد، الشخصيّة المركزيّة في هذه الحالة. وبهذا، تكون سهيلة قد أزاحت المعاني المرتبطة بالاسم وأخرجتها عن وجهتها المألوفة، وتكون، بالتالي، قد فصلت بينهما، بين التوراتيّة والاسم، وهذا غير مسبوق في ما أعلم.

الاقتباس في مستهلّ الرواية فيه هو الآخر مقابلة بين إبادة جمعيّة لعماليق، وما حدث في طفولة الشخصيّة المركزيّة: "فاذهب الآنَ وهاجم عماليق واقض على كلّ ما له. لا تعف عن أحد منهم بل اقتلهم جميعًا رجالًا ونساءً، وأطفالًا ورضّعًا، بقرًا وغنمًا، جمالًا وحميرًا" (صموئيل الأوّل 15: 3).

باستحضارها لهذا النصّ التوراتيّ، جعلت ما فعله اليهود بعماليق دالًّا يرمز إلى أحداث مأساة، وتكون بهذا قد أخرجته هو الآخر عن استخداماته المستهلكة.

حال الحاضر والماضي

موضوع الرواية؛ رجل في الخمسين من عمره يعاني آثار تجربة فصله/ سلخه في طفولته عن أمّه والعيش في عالم أبيه؛ اضطّرابات نفسيّة وشعور بالوحدة قاتل، يضاف إليهما كوابيس نوم وليل. وقد جاءت أجزاء الرواية الثلاثة لترسم لنا حاله في ماضيه وحاله في حاضره، محاولة وضع خطوط ليست مرئيّة تمامًا، تربط بينهما، بين ما كان معه وحال يومه الحاضر. من دون الإمساك بها، بتلك الخطوط، لا أرانا قادرين على اقتفاء أثره، وجمع أجزاء حياته.

في الجزء الأوّل، ويتكوّن من أحد عشر فصلًا، يكشف لنا الراوي، بصيغة الأنا المتكلّم، عن حاضره. في الجزء الثاني، ويتكوّن من خمسة فصول، يكشف لنا عن ماضيه وما كان معه في طفولته. في الجزء الثالث، ويتكوّن من فصل واحد، يعود إلى حاضره لتكتمل الصورة، صورة حاضره.

غير أنّ الرواية لا تبدأ بالجزء الأوّل، بل بصورة لحالته، بانفصال عن الرواية ومتّصلة بها، حالة من فقدان السيطرة على حواسه. يأتي الجزء الأوّل ليخبرنا أنّ فقدان سيطرته على حواسه ليس سوى أحد مركّبات يومه، ليله ونهاره، المليء بمثله. ويأتي الجزء الأخير ليتمّمه، ليقول عن أبديّة الألم عنده. بين الجزأين طفولته؛ أسباب حاله – حاضره.

بناء غير بنيويّ

ليس بإمكاننا عدم أخذ وصفه لحالة فقدان السيطرة على حواسه ذلك الصباح بعين الاعتبار، وإن كانت بفعل تأثير خارجيّ، الدواء. ففي هذا يقول إنّه معالَج لدى طبيب نفسيّ، وإنّ حالته تحتاج أدوية، أي أنّه يعاني من اضطّرابات عميقة لا تفيد بخصوصها جلسات علاجيّة. وبهذا، يكون الراوي قد أبلغنا عن شخصه، وما يعيشه في يومه، فنستطيع أن نتوقّع طبيعة حياته.

في أحد عشر فصلًا، لا يتّصل الواحد منها بالآخر على مستوى الأحداث، ولا سير الزمن بيّن فيها، يعرض لنا الراوي ثلاثة أيّام من حياته؛ ستّة فصول منها أحداث نهار، وخمسة فصول ليل كوابيس، لا تأخذ ترتيبًا منتظمًا. بهذا، يكون البناء الروائيّ غير بنيويّ؛ الجزء الأوّل، كما الرواية، بعثرة منتظمة، تحكمه قوانين فوضى مثلما قوانين فوضى الطبيعة. وعلينا في هذا القول إنّ الراوي في فصول الجزء الأوّل، يقدّم نموذجًا لحياته، شيئًا ممثّلًا لما يعيشه في يومه. الأمر الذي يعني أنّنا لا نستطيع التعامل مع الأحداث بحدّ ذاتها، بل بصفتها ممثّلة فقط، وبأنّها ترمز إلى حاله ومصادر ألمه.

مركّبات صورة

سأعرض لبعض ما جاء في فصول الجزء الأوّل من نهار وليل، فأجمعها، لتتكوّن أمامنا صورة، أو لنقل مركّبات صورة:

* مقتل عمّه

"وأخذتْ صور عمّي تتلاحق أمامي ملطّخًا بدمه أحمر، ورأسه مسوّى بالأرض مسحوق، وجثّة امرأة حبلى تستلقي جانبه لا شيء يحرّكهما لا شيء يخفيهما. أراني كما كنتُ سبعة من الأعوام عمري، أناديه أصرخ به أن يصحو يردّ ندائي، لكنّه يظلّ صامتًا ساكنًا لا ينظر إليّ لا يجيب" (ص 21 - 22).

* الأحلام الكوابيس، عن أمّه وعن أبيه

أ. "ويكون سواد، وتكون عتمة.

ظلام يمضغ كلّ شيء يبصقه أسود. وحده وجه أبي أراه. دائرة في السواد تتحرّك، تبتلع العتمة جسده تمحيه. أراه لا شابًّا لا عجوزًا. يمسك بي يركض لا يتعب لا يلهث... لا ينظر إليّ.

وحده وجهه جانبي. يمسك يدي يركض يجرّني.

وأحاول أن أفلت منه، أحاول أن أهرب، لكنّ يده تقبض عليّ تشدّني تسحبني. ويظلّ يركض، ومعه أركض. وألهث، وأصرخ، وتظلّ يده تقبض على يدي تهرسها تسحق عظامها" (ص 24).

ب. "وأحاول أن أناديها. أحاول أن أصرخ. أسألها أن تنظر إليّ، أن تنتظر. لكنّ صوتي مبحوح خفيض. لا تسمعني، لا تلتفت إليّ.

وأظلّ بطيئًا أزحف إليها. وأنادي... وتظلّ تحفر قبرها. تحفر جوف الأرض، تنبش التراب. تعفّر وجهها، تمرّغه فيه.

وتكون حفرة عميقة، غور سحيق.

تنزل فيها، تتمدّد. لا تراني. وتأخذ تجرف التراب نحوها. تهيله فوقها.

وتختفي. شيئًا فشيئًا تختفي. يغطّيها التراب. يدفنها" (ص 60).

* وحيدًا يعيش، قلق أن يموت وحيدًا

"كيف لو أنّه جسدي لم يحتمل الدواء فتوقّف قلبي ما عاد ينبض... أُمسك صدري أحاول أن أصرخ، أحد لن يركض إليّ يمسك بي، لا أحد يعينني. وحيدًا أهوي على الأرض جسدًا بلا روح" (ص 17).

* انفصاله عن أمّه

"سلام عليك،

يوم ولدتِ ويوم متِّ.

كم انقضى من الوقت يا أمّي،

كم هرمتُ.

هذا القلب يشتعل شيبًا لا يسكن لا يهدأ.

وهذي الغصّة تمسك حلقي لا تتركه لا تزول.

والذكريات لا تنفكّ تعصف في رأسي

لا تنفكّ تأكلني" (ص 38).

إن كان لنا أن نُجْمِلَ ما ورد في هذا الجزء، نقول: أمّه لا تراه، ميتة موغلة في موتها، ذكريات أليمات تتعلّق بأبيه، وأخرى تتعلّق بمقتل عمّه.

طفولة أليمة

الجزء الثاني، ويتكوّن من خمسة فصول كما سبق وذكرنا، يكشف لنا الراوي فيه عن ماضيه – طفولته، وعمّا كان مع أبيه عند سلخه عن أمّه. سيكون من الدقّة أن نقول: يكشف لنا سلخُه عن أمّه معيشَه مع أبيه، فإخراجه من فضاء أمّه كان دخوله إلى عالم أبيه. الكون له، في فضاء أمّه. الكون يأكله، في عالم أبيه.

وعلى الرغم من أنّ بنية الجزء الثاني بنيويّة الترتيب، حدثًا ومكانًا وزمانًا، إلّا أنّه من أجل الإمساك بالمعاني المتضمّنة فيه، وهي كثيرة، يلزم أن نستحضر حاضره وما كان قد كشف عنه هناك، فترتسم العلاقات بين زمنين بعيدين، متصّلين أبدًا، فنقف على ما كان في ماضيه وحَدّد في حياته.

ثلاثة أشخاص كان لهم ذكر، بهذا القدر أو ذاك، في حكاية طفولته: الأمّ، والأب، والعمّ.

* الأمّ

بداية الجزء الثاني وصفٌ لحياته في فضاء أمّه: "في السابعة من عمري كنتُ عندما ودّعتُ أمّي أمام البيت. قبّلتُ وجهها أحضنها، أتمنّى لو يصير جسدانا واحدًا فلا أتركها. بلّلتْ دموعي كتفيها، وكفّها يداعب شعري.

"لا تحزن"، همستْ في أذني (ص 79).

ينتهي الجزء الثاني بـ : أشتاق إلى أمّي.

* الأب

"كيف يختار الله الآباء للأبناء كيف يجمع بينهم؟" (ص 83).

الكابوس الأوّل والثاني في طفولته (الكابوس الأوّل: الجزء الثاني، الفصل الرابع، ص 107. الكابوس الثاني: الجزء الثاني، الفصل الخامس، ص 115)، جاءا قبل شعوره بخطر الحرب، وقبل مقتل العمّ، وهما، للتأكيد، من نفس نوع الكوابيس في حاضره. في الكابوس الأوّل، أبوه يقتل الحصان بحر، ويضحك. في الكابوس الثاني، يرى نفسه في صندوق والعناكب فوقه، وأبوه ينظر إليه لا يفعل شيئًا ويضحك. سنعود إليهما بعد قليل.

* العمّ

في الجزء الأوّل: "عمّي كان الملاذ في صغري" (ص 65). وفي الجزء الثاني، العمّ لم يحاول أن يأخذ، أو أن يؤدّي دور الأب: "والدك يحبّك، تعلم" (ص 97). وعلى الرغم من أنّ ذكر مقتل عمّه جاء نهاية الجزء الثاني، إلّا أنّه لم ينه قصّته معه، مع عمّه، بل مع أمّه: أشتاق إلى أمّي.

إن كان لنا أن نُجْمِلَ ما ورد في هذا الجزء، نقول: بداية الجزء الثاني، فضاء أمّه وانفصاله عنها، ونهايته اشتياقه لها، وما بينهما طفولته بكلّ ما كان معه، بما في ذلك مقتل عمّه.

وحيدًا يعيش، وهكذا تنتهي الرواية؛ في المشفى يحاول أن يجد من يرافقه ولو بمقابل، ليجري فحوصات طبّيّة.

أشتاق إلى أمّي

نذكّر ببنية الرواية. يتكوّن الجزء الأوّل من أحد عشر فصلًا، يرتبط الواحد مع الآخر في كونه جزءًا من صورة ممثّلة، والراوي، إذا أخذنا بعين الاعتبار بنية الجزء الثاني، يقول إنّ حياته لا تتضمّن شيئًا آخر؛ حياة مليئة بالألم، يتخلّله بعض هدوء. وجاء الجزء الأخير ليقول إنّ حياته مليئة بالوحدة أيضًا. بكلمات أخرى، ليس من أحداث في حياته، أيًّا كان نوعها، تستحقّ الذكر، فيُسرد الحدث تلو الآخر لنفهم حاضره، وليس ما يشير فيه إليها سوى ما جاء من إشارات في كوابيس نهاره وليله. أمّا الجزء الثاني، فقد أخذ بنية بنيويّة، حدثًا وزمانًا ومكانًا.

وهو يقول بهذا: أوّلًا، إنّ حياته في طفولته مليئة بأحداث تُسرد، متسلسلة، واضحة المعالم بيّنة، مختلفة عن حاضره، وإن كانت مليئة بالألم. وبهذا، تأخذ الأحداث معانيها بحدّ ذاتها. كما يقول، ثانيًا، إن أخذنا بعين الاعتبار الجزء الثالث، إنّ الأحداث في طفولته أسباب حاضره، وربّما بدأت حالته هناك. في هذا، سنفصّل بالقول بعد قليل.

من أجل أن نربط بين أجزاء الرواية الثلاثة، نبدأ بالإشارة إلى أنّ الجزء الثاني يبدأ بوصف حال إدراكه في طفولته، قبل سلخه عن أمّه، بقوله: "لم يكن له (الكون) قبلي وجود، ولن يكون له بعدي. فأمّي تحيا لتكون أمّي، وأبي ليكون أبي. ومن أرى من أطفال ورجال في البلدة ونساء فوجودهم لأجلي. في غيابهم يختلقون الأحاديث لأعلمها عندما نلتقي. وبائع الحلوى الضرير، لا شكّ موجود في هذا الكون ليجلب لي الحلوى" (ص 78). وينهي بقوله: أشتاق إلى أمّي؟

جاء قوله "أشتاق إلى أمّي" بصيغة الحاضر، لا الماضي. أي أنّ قوله جاء ليعبّر عمّا يشعر في حاضره، وقد قصّ حكاية طفولته بكلّ ما كان معه فيها.

"أشتاق إلى أمّي"، قول مفتاح، يعبّر عن ألم لما عاشه، وعن حنين إلى ماض كان. الألم، ألم العيش مع أبيه، أمّا الحنين، فإلى أمّه وحياته قبل سلخه عنها، إلى زمن كان الكون له. قوله "أشتاق إلى أمّي"، إذًا، يتضمّن حالين نقيضتين، الأب والأمّ وما يمثّل كلّ منهما.

كابوسان

يعبّر عن الحالين المتناقضتين عبر كابوسين منفصلين في حاضره. من أجل تبيين فهمنا هذا، وقد كنّا أتينا بأجزاء منهما، نكتفي بالإشارة إلى أنّه في الكابوس الأوّل يرى نفسه يحاول الإفلات من أبيه ولا ينجح، وفي الكابوس الثاني، يرى نفسه يحاول جعل أمّه تراه، ولا ينجح.

وبهذا، تكون لقول "أشتاق إلى أمّي" دلالة أخرى، مضافة إلى الأولى؛ لا مفرّ من ماضيه، لا مفرّ من آلامه، وأمّه موغلة في موتها لا تلتفت إليه. الأمر الذي يفسّر شعوره بالوحدة، موضوع الجزء الثالث. ما يهمّنا هنا، الدلالة التي سيأخذها قول "أشتاق إلى أمّي"، متى أخذنا بعين الاعتبار الوحدة القاتلة التي يعيشها: ألم لا يفارقه وحنين إلى شيء لا يراه ولا يلتفت إليه... ولهذا عليه أن يقاوم ألمه وحده.

لكنّ شعوره أنّ أباه يلاحقه يعصف بحياته، وأنّه وحده عليه أن يقاومه، كانت بدايته في طفولته.

* الكابوس الأوّل

حلمتُ ليلتها ببحر يجلس في غرفتي جانبي، وأبي يخرج من أسفل سريري بشعًا مخيفًا، بلا عينين في وجهه بلا شعر يغطّي رأسه. يحبو على الأرض يتحسّس الطريق أمامه، يبحث عن بحر ينادي اسمه. وعندما يصله يتحسّس ذيله وظهره، ثمّ يُدخل سكّينًا في جسده، ويضحك.

استيقظتُ من نومي فزِعًا كأنّ ما رأيتُ كان حقًّا. حلقي كان جافًّا والعرق باردًا على جسدي يسيل. نظرتُ أسفل سريري متردّدًا خائفًا أن أرى أبي يتربّص بي بلا عينين، لكنّ المكان فارغًا كان، لا شيء يملؤه سوى سواد حالك كثيف.

قضيتُ الساعات ليلتها مستيقظًا أحدّق في السقف أرتجف، وإذا غفوتُ قليلًا أرى صورة أبي بلا عينين يضحك.

* الكابوس الثاني

رأيتني في نومي ممدّدًا في صندوق من خشب تملؤه الثقوب. مشلولًا لا أشعر بأعضائي جزءًا منّي. أحاول أن أتحرّك يمينًا شمالًا، أمدّ يدي إلى أعلى علّي أرفع غطاء الصندوق فوقي، لكن شيئًا في جسدي لا يتحرّك. وأبي من الثقوب أراه يقف مغبرًّا أشعثًا. ينظر إلى الصندوق مكتوف اليدين، وخصال شعره طويلة مبعثرة تغطّي وجهه. واقفًا ينظر إليّ ويبتسم. أحاول من الصندوق أن أصرخ، أناديه أستجديه لكنّ صوتًا لم يكن يخرج من فمي. وتأخذ أسراب عناكب تخرج من أسفل الأرض من باطنها تنتشر أسفلي. تصعد أطرافي وبطني، تسير على وجهي. أهزّ رأسي أنفض العناكب عنه لكنّه لا يهتزّ لا يتحرّك. ويأخذ عرقي يسيل، وأنفاسي تتقطّع. خائفًا فزِعًا أفتح فمي ليدخل الهواء لكنّ شفتيّ ملتصقتان لا تنفرجان. عاجزًا عن الصراخ كنتُ عاجزًا عن الحركة. وأبي مكانه يظلّ واقفًا، ينظر للعناكب تملأ جسدي، راضيًا يبتسم.

الآن، إذا أضفنا هذين الكابوسين، وأخذنا بعين الاعتبار أنّهما من نوع كوابيس حاضره نفسها، نستطيع القول إنّ حالته بدأت تتشكّل هناك، في طفولته.

 

 

جمال ضاهر

 

روائيّ وباحث في مجال المنطق وعرب ما قبل الدعوة الإسلاميّة. رئيس دائرة الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة بير زيت، ومدير برنامج ماجستير الدراسات العربيّة فيها. ممّا صدر له: "‘عند حضور المكان" (رواية، 2000)، "وأضحى الليل أقصر" (رواية، 2005)، "مفاهيم في المنطق، أسس وقواعد" (2010)، "قواعد في المنطق: أسس ومفاهيم" (2012)، "العدم" (رواية، 2013).

التعليقات