26/07/2018 - 21:23

"ثلاثون خرابًا وجثّة": حزن بهدوء عميق، وأمل بعيد

Iurie Belegurschi

 

العنوان العتبة الّتي تُعدِّنا وتنبّهنا إلى ما نحن ذاهبون إليه، العنوان صادم، "ثلاثونَ خرابًا وجثّة"، غير مألوف في شعرنا الفلسطينيّ، حتّى إنّه يكاد يكون معاكسًا للسائد الصاخب، المزدهر رغم القحل والمحل، المتفائل بعيدًا عن الواقع، وفي الوقت ذاته، هو ليس هادئًا، كما يبدو على سطح نصوص قصيدة النثر، فالصخب داخليّ وعميق.

من العنوان بأنّنا داخلون إلى منطقة وعريّة خطرة جدًّا، يوحي بجسد تحوّل إلى جثّة، خراب روحيّ أشدّ هولًا من الخراب المادّيّ الملموس، الجثّة اجتثاث وقطع، نذير شؤم لنصوص ندخلها متوجّسين، متسائلين: ماذا يخبّئ هذا العنوان داخل طيّات الكتاب؟ الضوء يخفت ببطء، إلى أن تجد نفسك في ظلمة فادحة، تحاول أن ترى فيها بصيص نور، ولا تلبث أن تغرق في متاهة الظلمات.

 

ليس سهلًا

رائحة الخراب تسري في أوردة النصوص التسعة والعشرين، صور واستعارات كثيفة، تؤكّد الحدس والشعور الأوّليّ، تعزّزه وتعمّقه بإلحاح وألم هادئ، مثل نصل سكّين حادّ يخترق جسدًا مخدّرًا، يجوس فيه تقطيعًا.

الإهداء، "إلى رفيقتي في هذه الرحلة الطويلة - ميسلون، إلى زهرة روحي - سلمى".

نرى نصًّا لشاعر صينيّ مات منتحرًا، يتوعّد العصافير بإطلاق النار عليها لو كان يملك بندقيّة؛ لأنّ هذا الكون لا يحتمل هذه الروعة، فكوننا قبيح جدًّا، حتّى إنّه لا يستحقّ زقزقة العصافير، تشاؤم، وشفقة على ما هو جميل في كون فظّ صفيق، لا يستحقّ الجمال.

 

 

ليس سهلًا الدخول إلى نصوص الشاعر علي قادري؛ فهي تشبه المعدن الصقيل الناعم الّذي يصعب اختراقه، لكنّك تعرف أنّ داخله ما هو قيّم وثمين، وأنّ الشاعر الّذي تعرفه شخصيًّا، وتعرف مدى ثقافته واطّلاعه، ليس من النوع الّذي يرمي بالكلمات على عواهنها؛ فكلّ كلمة، بل كلّ حرف وفاصلة ونقطة خطّها، قطعة من مشاعره.

 

تجريد في التجريد

يتناول الشاعر الواقع، فيحطّم الجدران والأبواب وكلّ الصورة المألوفة، لا نكاد نصادف صورة واحدة مألوفة أو مرّت معنا من قبل، فهو يجتهد، إلى درجة مضنية، لابتكار الصور والاستعارات والتشبيهات الجديدة، يذلّل طريقًا وعرة غير مطروقة؛ ولهذا تحتاج قراءته إلى التركيز والتأنّي بين كلمة وأخرى، والتوقّف والاستراحة والتفكّر، ثمّ العودة بعزيمة لاختراق روح النصوص.

إنّها ثلاثون خرابًا، ثلاثون عامًا بلغها الشاعر، يرى بالسنين خرائبَ حملتها جثّته.

المفردات في هذه النصوص، منزاحة إلى مسافات بعيدة عن أصولها، مركّبة، وفي بعضها مُغرِقة في التجريد، بل هي تجريد داخل تجريد؛ يجعل الولوج إلى عالمها مهمّة شاقّة، ولا سيّما لمن يتوقّع فهمًا سريعًا، وقراءة سريعة.

في النصّ الأوّل، "ليلُ القرض"، يقول:

النايُ

صحارى منَ الاعترافْ

وجهُ البحيرةِ اللامعُ

في عينَيِ الناصريّ.

 

الناي أرقّ الآلات الموسيقيّة وأحنّها، هذه الألحان الحزينة، صحارى من الاعتراف، حيث تبدو الألحان مثل كثبان الرمال على مدّ النظر، وهي وجه البحيرة اللامع في عينَي السيّد المسيح، إنّها بحيرة الماء العذب، على خلفيّتها صحراء وكثبان وعينان مقدّستان.

الصورة المركّبة التجريديّة، تمنح القارئ مساحة شاسعة من التأويلات؛ فلا يمكن ضبط مشاعر الشاعر عندما رسمها؛ فالمسيح والبحيرة والناي والحزن والصحراء، لوحة غريبة، نرى من خلالها ما لا يُرى، رغم هذا، نرى أنّها قريبة منّا؛ لأنّنا نعرف الصحراء والبحيرة ولمعان الماء، والمقدّس.

في نصّ "ولا جدوى" يقول:

بقُبلةٍ ناعمةٍ للسجونِ والتوجّسْ

ولعاشقاتٍ يخلدنَ للمهاجعِ المتحطّبة

نثأرُ للماضي.

لهبٌ يُقطّعُ حطبَ المآسي في الانتحابْ

مَن يشعلُ الرسائلَ والمراثي الخريفيّةَ بصحنٍ معدنيٍّ

على أبوابِ المعابدِ إذًا؟

 

كهف شديد الزرقة

النصوص تشبه كهفًا شديد الزُّرقة، لا ترى ما في داخله إلّا حين تدخله، ببطء وصبر وحذر؛ فعليك الانتباه وشحذ حواسّك كلّها، هي عمليّة تقطير للمشاعر والأحاسيس في حروف، عليك أن تنتظر اتّساع حدقتَي عينيك، لترى ما لم تره على سطح النصّ، وقد تدخل في النصّ وتغوص فيه، كمتاهة من دهليز إلى آخر، تهبط وتسمو، تغرق ثمّ تنجو، كهف ترى على جدرانه "وعولًا في ضوءِ القمر".

النصوص تشاؤميّة، الشاعر يكتب لنفسه، يترجم أعماقه البعيدة الأغوار، يرفض التبسيط للمتلقّي، يدفع القارئ إلى استحالة الأمل أمام حتميّة أن تكون جثّة.

هي نصوص مدمّاة، مثخنة بالجراح والآلام وحزن بلا قاع، موت وجنازة ودمع ودم وصبر، وجمر في القلب، وهذا يبدو مزاجًا احتلّ روح الشاعر، حتّى حين يفرح، وحين يعشق، فهو يعشق ويفرح بحزن.

في النصّ الأخير "وأنتَ تودّعُ الجثث"، يقول:

ماذا لو كنتُ صاحبَ دارِ نشر؟

لأحرقتُ كلَّ مخطوطاتِ ومسوّداتِ

الشعراء

كي أمنحَهم فرصةً أخرى

لترتيبِ حجارةِ هذا العالم

 

فهو يريد إحراق كلّ ما هو مألوف ومعروف؛ ليعيد بناء العالم من جديد. هذا ما حاوله في نصوصه هذه، شقّ طريق جديدة.

ويختم بقوله:

ماذا لو كنتُ آخَري؟

لَثَقُل حزنُ هذا الكون

85 كغم.

 

هذه الشطرة الأخيرة بما فيها من حزن، إلّا أنّها ساخرة؛ فهو يرى بوزن جسده كتلة حزن ستُضاف إلى حزن الكون؛ ويعني بهذا أنّ كلّ خليّة من جسده، وقطرة من عرقه، حزينة.

في نصّ "أوّلُ الكيمياء"، تشعر في الكلمات الأولى بأنّه مقبل على شيء من التفاؤل:

اتركي لي خيطَ حريرٍ واحدًا

مَن الّذي مرَّ فوقَ

مطرِ الحروب.

 

تشعر هنا بأنّه سيقول شيئًا متفائلًا، إلّا أنّه يفاجئك بقوله:

فهو كافٍ بأن يُعِدّ لي

مشنقتي...

 

بدلًا من التفاؤل بخيط الحرير الّذي نجا من مطر الحروب، يوظّفه لغرض معاكس تمامًا، وهذا يمنح النصّ جمالًا، وينسجم مع روح التشاؤم العامّة.

وكيف يرى المستقبل؟ في قصيدة "حلم" يختمها بالقول:

إنّهُ الخرابُ الّذي يسكنُني منذُ ألفِ جثّةٍ

فعدتُ إلى قبري خائبًا

أطبقتُ أجنحةَ الصحراءِ فوقي

ورتّبتُ أحلامي لمجازرِ العمرِ القادمة ...

 

فالمستقبل لا يعد بالربيع والحبّ والثورة، وما إلى ذلك من تفاؤل، بل إلى مجازر.

تلتمع بين حين وآخر

ثمّة تجانس بين جميع النصوص، كلّها تدور في فلك واحد من المشاعر والحالة، وهذا ما يؤكّد صدقها؛ فهي ليست مجموعة نصوص متناقضة، أو مواضيع مختلفة، بل هي حزينة بهدوء عميق، وبدون صخب، كلّ نصٍّ أو جثّة يحمل حزنه بين أحرفه.

ورغم ذلك، ثمّة ومضات من الأمل نجدها تلتمع بين حين وآخر؛ فالإهداء الأوّل فيه شيء من الأمل:

"إلى أن نسبحَ في البياض ونشربَ، صورة زهر اللوز ...".

وفي نصّ "شاعرٌ يخرجُ منْ جثّة"، يقول:

أمسكوا أيّها الشعراء

بقرنَيِ الغبطةِ والشقاء

كيْ تذوبَ المسافاتُ بينَ دروبِ القصائدِ

وكيْ تصيرَ الحياةُ ممكنة ...

وفي "أوّلُ الكيمياء"، يقول:

أعملُ على إقناعِ غزالٍ

تفصلُ بينَنا حدائقُ الشرّ ...

لتحمّلَ صداقتَنا.

ويقول في ثنائيّة "مكابدة":

لمْ تنمِ البساتينُ في عيوني

فأنا متنبّهٌ لعطرِها في الثامنةِ صباحًا

حينَ يقرعُ جرسُ الخرابِ

في قلبي المكابد

وفي نصّ "أنفُ الخريفِ لا يخطئ"/ يقول:

أجملُ النسائمِ

تولدُ

منْ خاصرتِكَ يا خريفْ

 

قادري شاعر منذ سنين، تابعناه في الصحف المحلّيّة، والمواقع الإلكترونيّة، لكنّها تجربته الأولى في النشر في كتاب، وعمليًّا نستطيع القول إنّه شاعر وُلِد ناضجًا، وننتظر منه المزيد.

صادرة عن مكتبة "كلّ شيء في حيفا"، لصاحبها الأستاذ صالح عبّاسي، ولوحة الغلاف بريشة الفنّان زهدي قادري، تصميم ومونتاج شربل إلياس، وتقع جثّة هذا الكتاب في 102 من الطعنات.

 

سهيل كيوان

 

كاتب صحافيّ وروائيّ من فلسطين. عمل محرّرًا أدبيًّا في صحيفة "كلّ العرب" بين عامي 1998 و2014، ويكتب منذ سنوات في صحيفة "القدس العربي" وموقع "عرب 48". له مؤلّفات عديدة في القصّة القصيرة، والرواية، وأدب الأطفال، والمسرحيّات، بالإضافة إلى دراستين أكاديميّتين. حاصل على جائزة مؤسّسة توفيق زيّاد للثقافة الوطنيّة عام 2002، عن دراسة نقديّة في أدب غسّان كنفاني.

 

 

التعليقات