08/08/2022 - 15:46

مأزق الزمن عند كنفاني... إلغاء المستقبل الفلسطينيّ

مأزق الزمن عند كنفاني... إلغاء المستقبل الفلسطينيّ

غسّان كنفاني (1936 - 1972)

 

على مرّ حقبات صراعنا الفلسطينيّ، تبقى جملة الكاتب والسياسيّ، الشهيد الفلسطينيّ غسّان كنفاني (1936 - 1972) "أتعرفين ما هو الوطن يا صفيّة؟ الوطن هو ألّا يحدث ذلك كلّه"، الّتي يردّدها على لسان سعيد، بطل روايته الشهيرة «عائد إلى حيفا»، أيقونة ملازمة لكلّ إعراب عن حال ’الفلسطينيّة‘ حتّى اليوم، بالرغم من انطوائها على فكرة سوداويّة، وهي إلغاء المستقبل الفلسطينيّ؛ فلكي يحدث الوطن الفلسطينيّ بحسب سعيد، علينا إلغاء الماضي، أو تخطّي ’مأزق التاريخ‘.

أصدر كنفاني روايته عام 1969، على أعقاب نكسة 1967 والهزيمة المستأنفة الّتي ألحقتها بنا الخيانة، لكنّ الرواية لا تتناول زمنها أكثر ممّا تتناول الزمن الراهن، فهي تتناول موضوع الزمن بذاته؛ الزمن السياسيّ الفلسطينيّ الّذي يشهد حالة من ’التسوية‘؛ بمعنى أنّ الزمن (الوجوديّ) أصبح محصورًا سياسيًّا في حالة مزمنة من ’الراهن‘ الأيديولوجيّ السياسيّ، أو كما يسمّيها المنظّر الإنجليزيّ مارك فيشِر "إلغاء المستقبل".

 

’المستقبل‘ في زمن النيوليبراليّة

يكتب فيشِر في كتابه «أشباح حياتي» عن مفهومنا عن الزمن وتفاعلنا معه، فيقول إنّنا نختبر الزمن بالظواهر Phenomenologically؛ أي يمكننا الإشارة إلى فترة زمنيّة معيّنة مثلًا من خلال الألوان والأنماط الثقافيّة الّتي سادت فيها؛ عندما نسمع موسيقى نيرفانا Nirvana نقول: هذه التسعينات[1]. لكنّ العصر الحاليّ، أو القرن الحادي والعشرين على وجه الخصوص، يشهد فقدانًا لهذه الخاصّيّة بحسب فيشِر، حيث أدّى تسيّد ’منطق السوق‘ النيوليبراليّ إلى التهام حياتنا وقدرتنا على التجديد، فهو منطق ونظام يتطلّب إنتاج ’حلول‘ سريعة تقدّم إشباعًا آنيًّا لتتمكّن من مواكبة السوق وتحقيق الربح، أي إيجاد مكان وصلة بالعالم . أصبحنا بالتالي نعتمد على إعادة إنتاج الأشكال الثقافيّة المألوفة والقابلة للاستهلاك، الّتي لا تحتاج، كما في كلّ تجديد، إلى ’زمن‘ لامتصاص الجماهير للصدمة الّتي تقدّمها، وإلى تريّث حتّى يتقبّلها التيّار السائد Mainstream؛ لتُشَكِّل فنًّا رائدًا أو جديدًا؛ فلا نعود نجد اليوم في الأعمال الثقافيّة ’صدمة المستقبل‘، أو صدمة "لم أسمع شيئًا كهذا من قبل" كما يسمّيها فيشِر[2].

يقف تشخيص فيشِر لهيمنة الرأسماليّة ومنطق السوق، على تصوّر الزمن والمستقبل عند حدّ تركيبة المجتمع أو الجموع الأوروبّيّة أو الإنجليزيّة حتّى، الّتي لا يخضع ’زمنها‘ لنفس المحدوديّات السياسيّة وغيرها كما في الحالة غير الأوروبّيّة أو الفلسطينيّة مثلًا...

أصبحنا نعيش في زمن يحوي كلّ الأزمنة السابقة في الوقت ذاته؛ أي يعيد إنتاج أنماط وأشكال فنّيّة وثقافيّة من أزمنة مختلفة في الوقت الراهن، فإذا سأل أحدهم عن موسيقى القرن الحادي والعشرين مثلًا، فهي خلطة من ألوان وأنماط موسيقى القرن العشرين – حتّى بداية الألفيّة الثانية[3]. جعل هذا كلّ تصوّر للمستقبل في ثقافة القرن الحادي والعشرين، وإن كان ديستوبيًّا، استرجاعًا وإعادة إنتاج في منطقه الشكليّ لآمال قديمة –  من القرن العشرين  – حول المستقبل، الّتي نتعامل معها بهذا السلوك الرومانسيّ فقط لأنّنا اليوم، ونحن في المستقبل الّذي وعد به القرن العشرون، في خيبة أكبر من الواقع، فنشعر بنوستالجيا لزمنٍ وعدنا بغَد أفضل لم نجده عندما وصلنا إليه[4]، بل وجدنا نقيضه.

يقف تشخيص فيشِر لهيمنة الرأسماليّة ومنطق السوق، على تصوّر الزمن والمستقبل عند حدّ تركيبة المجتمع أو الجموع الأوروبّيّة أو الإنجليزيّة حتّى، الّتي لا يخضع ’زمنها‘ لنفس المحدوديّات السياسيّة وغيرها كما في الحالة غير الأوروبّيّة أو الفلسطينيّة مثلًا؛ فسيادة منطق السوق أو زمن الرأسماليّة في إنجلترا تقع في أعلى هرم الهيمنة الاستعماريّة تقريبًا، الّتي تسيّس الزمن تباعًا عند شعوب أخرى مثل الفلسطينيّين في مرحلةٍ ما مرورًا بالاستعمار، لكنّ أطروحة فيشِر تشكّل منطقًا أو أداة تُمكّننا من تشخيص زمننا نحن الفلسطينيّين أو معاينته أيضًا، إذا ما استحضرنا تسيّد الهيمنة السياسيّة للاستعمار على اختبارنا وتصوّرنا لكلّ شيء، بما فيه الزمن واحتمالاته.

 

ديستوبيّا خلدون/ دوف

بالنظر إلى «عائد إلى حيفا»؛ هي رواية ديستوبيّة من حيث طرحها لواقع مستقبليّ يتسيّد فيه منطق ’الاستعمار‘ السياسيّ’؛ ليشرّع حتّى نقيضه وهو الحرّيّة الفلسطينيّة؛ فعودة سعيد وصفيّة بطلَي الرواية إلى بيتهما في حيفا، وإلى ’وطنهما‘ الّذي سلبته النكبة، كانت من باب فُتِحَ من جهة المستقبل، "لقد فتحوا الحدود فور أن أنهوا الاحتلال فجأة وفورًا، لم يحدث ذلك في أيّ حرب في التاريخ"؛ فهذه كفيلة بإعلامنا قرّاءً، خاصّة أنّها جاءت بقلم المشتبك المثقّف غسّان كنفاني، أنّ هذا المستقبل الّذي نحن بصدده ما هو إلّا إعادة إنتاج أو نوستالجيا شكليّة Formal لواقع ’راهن‘ يلغي احتمالات المستقبل/ الحرّيّة ذاتها، بل يستوعبها ضمن نموذج Paradaigm الاستعمار؛ فما يلي ذلك من صدمات مؤلمة لأبطال الرواية ما هو إلّا معالم إلغاء المستقبل، مثل فقدان ريشات الطاووس من المزهريّة الّتي تركاها في صالون البيت، وغسيل المستوطِنة على الشرفة.

لعلّ أكثر هذه المعالم ديستوبيّة، هو ’خلدون/ دوف‘، ابنهما الّذي سلبتهما النكبة إيّاه أيضًا؛ فقد أخذه الماضي قسرًا عندما أجبرتهما الحرب على ’اللجوء‘ قبل أن يصلاه رضيعًا في المنزل ليأخذاه معهما، فأعاده ’المستقبل‘ هذا جنديًّا ’إسرائيليًّا‘ تبنّته الصهيونيّة ’ذاتها‘ الّتي استوطنت بيتهما في حيفا. خلدون الّذي لا يتنكّر لهما وهما والداه فحسب، بل كما تخبره أمّه صفيّة يبني ’منطقًا‘ يبرّر فيه تنصّله من فلسطينيّته، بما يسمّيه ’جبن‘ والديه اللّذَين رحلا، ثمّ لم يحملا السلاح لاسترداده طوال هذه السنين؛ فكان هذا احتواء المنطق الصهيونيّ أو ’الزمن الصهيونيّ‘ للفلسطينيّ قبل أن ’يكون‘ مستقبلًا، بجعله جوهريًّا، حاجزًا زمنيًّا أمام نفسه يمنع ولوجه إلى المستقبل استباقًا.

لهذا يأتي اسم ’خلدون‘ اشتقاقًا لغويًّا من ’خالد‘، والأخير ابن سعيد الثاني الّذي وُلِدَ بعد النكبة في اللجوء، والّذي منعه سعيد من الالتحاق بالمقاومة تحت وهْم هذا المستقبل المتمثّل في ’خلدون‘؛ فبمنطق الزمن الوجوديّ يأتي خالد، الابن الفلسطينيّ، قبل الابن الإسرائيليّ دوف/ خلدون، لكن بمنطق الزمن السياسيّ يُلْغى مستقبل خالد قبل ولادته بولادة خلدون؛ فخالد لا يعرف بوجود خلدون ولا بارتباطه البيولوجيّ به أبدًا، لكنّ خلدونًا يعلم أنّه متبنّى "اسرائيليًّا" وأنّه سيحارب خالدًا في نهاية المطاف، فسعيد يقرّر السماح لخالد بالالتحاق بالمقاومة فقط عندما يخيب من فشل خلدون في دوف. أوليس خلدون/ دوف هو المستقبل الفلسطينيّ المُلْغى الّذي نصطدم به في الحاضر؛ في فلسطينيّين مجنّدين في جيش الاستعمار الإسرائيليّ وعملاء و’مؤسرَلين‘ على درجات مختلفة، في غالبيّة أعضاء الكنيست الفلسطينيّين مثلًا، أو في برهة التصويت في الانتخابات الإسرائيليّة، أو أيّة لحظة نشارك فيها في تطبيع ما، الّتي هي برمجة صهيونيّة للمستقبل الفلسطينيّ؟ برمجة تهدف إلى استبعاد الفلسطينيّة من الحاضر تجنّبًا لحدوث مستقبلها، مغلَّفةً بنوستالجيا أمل مبهم في ’وطن‘ للفلسطينيّين، مثلما حدث مع سعيد وصفيّة الذين يُمنحان أمل ’المستقبل‘، ثمّ لا يحدث هذا كلّه، "هذه هي المفاجأة؟ أهذه هي المفاجأة الّتي أردت منّا انتظارها؟"، يقول سعيد للمستوطِنة الّتي أجلسته حتّى منتصف الليل ليتسنّى له مقابلة خلدون، فتُفاجِئه بـ ’دوف‘.

 

إعاقة تشكّل الذات الفلسطينيّة

أصبح عنصر ’المفاجأة‘ طاغيًا ملازمًا لأيّ فكرة عن تكويننا الفلسطينيّ والمستقبل، بحكم مرور ذلك الزمن الّذي ’بدّل‘ وعقّد العلاقات بمعالم الاستعمار، بالبشريّة وتطوّراتها وبين الفلسطينيّين أنفسهم؛ فهو الزمن الّذي فتح لنا بوّابات جزئيّة صغيرة على المستقبل ’دون حرب‘، من خلال تقطير نفاذ الفلسطينيّين إلى المستقبل، أي بتشريط عدم تكامل ’وجود فلسطينيّ‘ فيه؛ فيسمح لبعضنا بالمواطنة والتمتّع بمعالم العصر الحديث، بينما يحصر البعض في صراع مميت على وجودهم أو موقعهم من التاريخ، وما يجري بينهما. فإن كان حدوث المستقبل مشروطًا بزمن لامتصاص الجماهير ’الصدمات‘ والتجديد، فإنّ منطق أو ’زمن‘ الاستعمار يكثّف توزيع أشكال وأنماط وحدّيّة تباين تلك الصدمات بحيث لا يستطيع الفلسطينيّون امتصاص الصدمة ’جمعيًّا‘ أبدًا؛ فسعيد يجد ابنه اسرائيليًّا في المستقبل عقب دخوله إليه، بينما يصل جاره في المخيّم، اللاجئ اليافاويّ ’فارس‘ ليجد المستقبل على شكل ’مستوطن‘ فلسطينيّ لبيته في يافا؛ وهو الفلسطينيّ ذاته الذي فجّر الاحتلال بيته في النكبة وجعل مكانه في المستقبل فقط كمسدّ أمام عودة فارس، صاحب البيت، إليه.

بالتالي، إنّ ما يتأزّم لدينا هو التكامل الفلسطينيّ بذاته بسبب تسيّد هذا المنطق الّذي يشرذم ويشتّت الفلسطينيّين ما بين الماضي والمستقبل؛ ما بين جزئيّة ’مستقبليّة‘ مثلًا، مواكبة للعصر بتغييراته الاجتماعيّة والتكنولوجيّة والسياسيّة، عاجزة بسبب موقعها كمسدّ، عن التواصل والتكامل مع جزئيّة دثرت في ماضي الإنسانيّة، تصارع على إدخالها للمستقبل ’المتحضّر‘، بمعنى المستقبل المعنيّ بإنسانيّة تسعى إلى تطوّرها، يتخطّى حقّ الوجود إلى الحياة الكريمة والحرّيّة بأشكالها وأنواعها وأوسع آفاقها.

أصبحت رؤية الفلسطينيّين لذاتهم موقوفة، عاجزة عن المضيّ قدمًا أو الاكتمال؛ بسبب هول تلك التغييرات الّتي مرّت بها الإنسانيّة منذ سُحِبَت منهم بطاقة المرور إلى المستقبل...

أصبحت رؤية الفلسطينيّين لذاتهم موقوفة، عاجزة عن المضيّ قدمًا أو الاكتمال؛ بسبب هول تلك التغييرات الّتي مرّت بها الإنسانيّة منذ سُحِبَت منهم بطاقة المرور إلى المستقبل؛ فلا يستطيعون إحالة ’ذات فلسطينيّة‘ مستقبليّة إلّا لصورة يُعاد إنتاجها من أنماط الماضي الاجتماعيّة المألوفة، بحيث تستبعد أيّ معالم اجتماعيّة مستقبليّة قلقًا من مفاجآت/ صدمات التشتيت والشرذمة الّتي يوقعنا بها الاستعمار؛ فيمكننا تشخيص أعراض كأن تنشر منصّة فلسطينيّة مختصّة بإنتاج المعرفة لمترسة الذات الفلسطينيّة، مقالًا تستبعد فيه الشريحة المثليّة من المستقبل الفلسطينيّ كما فعلت «متراس» مؤخّرًا، باعتبارها نوستالجيا شكليّة للماضي، أي إنتاجًا للمستقبل على نمط -  و’ألوان‘ مجتمع فلسطينيّ ماض لم يَعُد موجودًا أو ذا صلة، ليس لأنّه كان خاليًا من المثليّة، بل لأنّ المثليّة آنذاك كانت بنمط آخر، وهو نمط الاختباء والكتمان بسبب الوعي الاجتماعيّ الّذي لم يصل مواصله حينذاك. بالتالي؛ تصبح مثل هذه الأفعال إلغاءً للمستقبل لا إنتاجًا له؛ لأنّها نتاج برمجة اسعماريّة تعيق تكامل الذات الفلسطينيّة بجعلها تستبعد شرائحًا كانت منها وما تزال، فلن يكون المستقبل فلسطينيًّا دون الفلسطينيّين أجمع.

 

الوطن الّذي مات والّذي سيكون

كأنّ كنفاني يقول لنا إنّ ’الوطن‘ كما عرفناه قد مات؛ أي أنّ المكوّنات الوطنيّة من ثقافة وعلاقات اجتماعيّة تؤهّل الشعب لأن يكون شعبًا، لم تَعُد موجودة بالنمط والأنماط الّتي كانت عليها مرّة، بل هي شيء متقلّب بالزمن، "ربّما كان ذلك الشيء الصغير الّذي مات ذلك اليوم التعيس هو خلدون … بل إنّه خلدون، وأنت كذبت علينا، إنّه خلدون وقد مات"، يقول سعيد للمستوطِنة؛ فيوهمنا منطق الاستعمار بأنّ أزمتنا هي استعادة أنماط لمكوّنات وطنيّة من الماضي، لكنّها بدورها ’التقليديّ‘ اليوم تعرقل القدرة على تتبّع وإدماج أنماط علاقات الشعب الجديدة في الراهن؛ فالفلسطينيّة اليوم تجد صيتها حتّى في أكثر المواقع عبثيّة مثل بيوت الأزياء العالميّة للطبقات النخبويّة.

يؤكّد كنفاني أنّ تلك المكوّنات الوطنيّة تحتاج إلى حرب لا استعادة، "طبعًا نحن لم نجئ لنقول لك: ’اخرجي من هنا‘، ذلك يحتاج إلى حرب ..."، فسعيد الذي لا يعلن الحرب على المستوطِنة في الرواية؛ أي لا يقول لها اخرجي عن منطقك، يعلنها بخلاف ذلك على منطق خلدون/ دوف قائلًا "ألا تشعر بأنّنا والداك؟". فهذه الحرب حرب بمفهومها الواسع، حرب الخروج عن مقولة الزمن الاستعماريّ، حرب على المنطق الّذي يلغي المستقبل، حرب سعيد في داخله الّذي يأبى أن يقبل بموت الوطن في خلدون؛ فيمنع ذلك ولادته في خالد الّذي يتوق إلى المقاومة، بينما يقف سعيد في وجهه حتّى يدرك موت خلدون؛ فالوطن ’يصبح‘ فقط عندما نفتقده؛ لذلك يكتب كنفاني على لسان سعيد "أمّا خالد فالوطن عنده هو المستقبل".

كأنّ سعيدًا وأبناءه هم شخص واحد، خلدون هو نمط الماضي الّذي تركناه في النكبة، والّذي إذا ما تعلّقنا به دون اعتبار للمأزق التاريخيّ الّذي وقعنا فيه، يأتي المستقبل مُلْغًى على هيئة ’دوف‘، بينما خالد هو الحاضر الّذي يخاف سعيد مفاجأة رحيله أو ’إرساله‘ إلى نمط جديد عليه؛ المقاومة متجلّية في الانسلاخ عن آمال قديمة عن الموجود والمألوف بحكم تطويع منطق الاستعمار لها. ثمّ لا يرى خيارًا غير ذلك عندما يكتشف ديستوبيّة هذا التعلّق؛ فخالد لم يعرف "المزهريّة ولا الصورة ولا السلّم ولا "الحلّيصة" ولا خلدون، ومع ذلك فهي بالنسبة إليه جديرة بأن يحمل المرء السلاح ويموت في سبيلها"؛ أي أنّ خالدًا أو ’الراهن الفلسطينيّ‘ لم يعرف ذاتًا فلسطينيّة كما كانت في الماضي، وهو ما يُخيف سعيدًا ويخيفنا، لكنّ خالد يعرف شيئًا آخر لا يعرفه سعيد وهي فلسطين الحاضر؛ أي مكوّناتها الوطنيّة  – بما فيها من غيريّة ومثليّة  - وهي طموح عنده أكثر منها مفاجأة؛ ممّا يجعلها تستحقّ حتّى الموت، حتّى موت أعزّ ما يملك الفلسطينيّ؛ الصورة الّتي حملها عن فلسطين كلّ هذه السنين، في سبيل إمكانيّة حقيقيّة لها في المستقبل.

يشير كنفاني إلى دور الإنتاجات الثقافيّة في ملء تلك الفجوة الاجتماعيّة السياسيّة؛ أي الوطنيّة الّتي خلّفها موت الماضي وتُرِكَت لِيَلتهمها زمن الاستعمار...

"الإنسان ما يُحْقَن فيه ساعة وراء ساعة، ويومًا وراء يوم، وسنة وراء سنة"، يشير كنفاني إلى دور الإنتاجات الثقافيّة في ملء تلك الفجوة الاجتماعيّة السياسيّة؛ أي الوطنيّة الّتي خلّفها موت الماضي وتُرِكَت لِيَلتهمها زمن الاستعمار. يروي سعيد لصفيّة قصّة جارهم فارس، الّذي عاد إلى بيته في يافا عندما فتحوا الحدود، فوجد ساكن البيت فلسطينيًّا استأجره من الحكومة الإسرائيليّة بعد أن فجّرت بيته الأصليّ. يستردّ فارس من البيت صورة أخيه الشهيد المقاوم، الّتي رُبِطَت بشريط أسود منذ جنازته، فتترك مكانها "مستطيلًا باهتًا من البياض لا معنى له، والّذي يشبه فراغًا مقلقًا"، حيث يلعب حوله أطفال ساكن البيت الجديد؛ أي في إشارة إلى الأجيال القادمة؛ فيعيد فارس الصورة إلى ساكن البيت الجديد؛ لأنّه يشعر بأنّها لم تَعُد له، يشعر بأنّ أخاه لم يَعُد له فقط كما يصف كنفاني، بل أصبح عائلة ومسؤوليّة جديدة تجمعه وساكني البيت الجدد؛ فتلك ليست ’عائلة‘، أي مكوّنات وطنيّة بالنمط الذي اعتاده، بل هي التي ’تبدّل‘ عائلته الأصليّة في وسط بيته ووطنه ومستقبله، الأمر الّذي جنى به علينا مأزقنا التاريخيّ ولم يمنحنا وقتًا لامتصاصه. "لكنّها (الصورة) جسركم إلينا وجسرنا إليكم"، يقول فارس، وهذا هو دور الإنتاج الثقافيّ عند كنفاني؛ مدّ المستقبل الفلسطينيّ بتاريخيّته؛ أي إعطاؤه، ليس فقط تاريخًا سياسيًّا بالمعنى الضيّق والخطّيّ، بل تاريخًا شاملًا أيضًا للتطوّرات المتباينة والتقلّبات الّتي طرأت على الذات الفلسطينيّة المشرذمة بين الأزمنة. ذلك الفراغ الّذي إذا أُهْمِل، ملأه ’زمن الاستعمار‘؛ أي سدّ به باب المستقبل.

فعائلة الساكن الفلسطينيّ الجديد في بيت فارس اللاجئ، أو "عائلة المستقبل" تحتاج أكثر من تاريخها؛ أي تفجير بيتها في النكبة وتهجيرها ثمّ استغلالها لتعيش بإيجار من دولة الاستعمار، بل لتمضي إلى المستقبل فلسطينيًّا تحتاج أيضًا إلى تاريخ ’البيت‘، الّذي احتوى شهيدًا وفارسًا قبل أن يحتويها؛ فصورة الشهيد، أو العمل الثقافيّ، عليه أن يوضّح للفلسطينيّ تنوّع الأنماط الّتي يجد نفسه عليها اليوم بعد كلّ ما استُحْدِثَ فيه من صدمات؛ فإعادة فارس صورة أخيه الشهيد لبيت يحتلّه الفلسطينيّ منه بفرضٍ من الاستعمار، هو إقرار بأنّ الثقافة الفلسطينيّة الحقيقيّة لا تترك الفلسطينيّ وحيدًا لشراك الاستعمار، حتّى لو ’وضَعت‘ الفلسطينيّة في مكان ونمط آخر، بعيدًا عن المألوف منها. بل على الثقافة أن تلوّن القضيّة بمختلف ألوان التشابكات الّتي وقعت فيها ’الفلسطينيّة‘ لتأريخ فظاعة استمراريّة الاستعمار، رغم وصول الفلسطينيّ وعيًا إنسانيًّا عابرًا لزمانه السياسيّ.

هذه هي صدمة المستقبل الّتي يتحدّث فيشِر عن اختفائها، والّتي تُنَبِّئ بالمستقبل حقيقةً إذا ما أحدثناها، صدمة "لم أسمع شيئًا كهذا من قبل"، مثل المقالات والأخبار الّتي قرأناها عن الذات الفلسطينيّة الساعية للتكامل، الّتي عبرت الحدود والأجناس والجنسانيّات والأديان، في جنازة الصحافيّة الشهيدة شيرين أبو عاقلة؛ أطول جنازة في تاريخ فلسطين المعاصر، التي أكّدت أنّ الشهادة نمط ومكوّن وطنيّ لا دينيّ حسب ما قد نعرفه من التقاليد، وجعلت حتّى أكثر الأنماط العصيّة عن التغيير مثل الشرائع الدينيّة، عندما علت دقات أجراس الكنائس وتكبيرات المساجد في وقت واحد، في علاقات جديدة مرنة هدفها الوحيد وطنيّ وهو المقاومة. ومثل المقاومة الفلسطينيّة الشعبيّة الّتي روّجها ناشطو وسائل التواصل الاجتماعيّ في أيّار (مايو) 2021، فجاء جسد ’الهبّة‘ ملوّنًا بأطياف الألوان الجندريّة والطبقيّة والثقافيّة، والأهمّ من ذلك الألوان الجيليّة؛ فـ ’الوقت‘ تحت الاستعمار يحارب الفلسطينيّين، كلٌّ بأسلحة ملائمة لجيله وعصره الّذي شكّل أنماطه الفكريّة؛ يحارب المقاومة الإسلاميّة بعصر الإسلاموفوبيا، والمقاومة النسويّة بعصر الذكوريّة، والمقاومة الكويريّة بعصر الهوموفوبيا. وكنفاني - الّذي كان ينشر النقد الساخر بالاسم المستعار ’فارس الفارس‘  - يصف ساعة الحائط في رواية «ما تبقّى لكم» بأنّها أشبه بنعش خشبيّ، وذلك في إشارة إلى أنّ الوقت الفلسطينيّ تحت الاحتلال ميّت أيضًا؛ فكيف نردع اغتياله هكذا؟ ننتج الثقافة الفلسطينيّة دائمًا باعتبارها أداة نقديّة عابرة للأزمنة ومدركة لعلاقاتها، مثل فارسنا غسّان كنفاني، الّذي بعد 50 عامًا على اغتياله اليوم، ما زال يرسم معنا المستقبل، وهو ما تبقّى لنا.

 


إحالات

[1] Fisher, Mark, Ghosts of My Life: Writings on Depression, Hauntology and Lost Futures, 2014.

[2] Ibid.

[3] Ibid.

[4] Ibid.

 


 

حنين عودة الله

 

 

 

مخرجة وكاتبة فلسطينيّة مهتمّة في التحليل الثقافيّ والفلسفة والسينما والثقافة الشعبيّة والبديلة. حاصلة على شهادة الماجستير في «التحليل الثقافيّ المقارن» من «جامعة أمستردام».

 

 

خمسون عامًا على اغتيال كنفاني | ملفّ

خمسون عامًا على اغتيال كنفاني | ملفّ

23/08/2022
مقاومة الانتظار الفلسطينيّ... «الباب» نموذجًا

مقاومة الانتظار الفلسطينيّ... «الباب» نموذجًا

11/07/2022
غسّان كنفاني... الفنّان التشكيليّ

غسّان كنفاني... الفنّان التشكيليّ

01/08/2022
قراءة دون رمزيّة في غرائبيّة «القبّعة والنبيّ»

قراءة دون رمزيّة في غرائبيّة «القبّعة والنبيّ»

25/07/2022
قنديل كنفاني الصغير... النور بين كانط وأفلاطون ونيتشه

قنديل كنفاني الصغير... النور بين كانط وأفلاطون ونيتشه

25/07/2022
أن تكون مثقّفًا مزعجًا

أن تكون مثقّفًا مزعجًا

05/07/2022
شعر الأرض المحتلّة... حوار مع غسّان كنفاني | أرشيف

شعر الأرض المحتلّة... حوار مع غسّان كنفاني | أرشيف

19/07/2022
"رجال في الشمس" لغسّان كنفاني | ترجمة

"رجال في الشمس" لغسّان كنفاني | ترجمة

19/07/2022
عن الأقلام أكتب... وليس عن الكتب | أرشيف

عن الأقلام أكتب... وليس عن الكتب | أرشيف

24/07/2022
أفكار التغيير واللغة العمياء... مَنْ يقتل كنفاني مرّة أخرى؟

أفكار التغيير واللغة العمياء... مَنْ يقتل كنفاني مرّة أخرى؟

01/08/2022
بين شنق سيّد قُطب واغتيال كنفاني

بين شنق سيّد قُطب واغتيال كنفاني

03/08/2022
أدب غسّان كنفاني... حديث في الوعي الثوريّ

أدب غسّان كنفاني... حديث في الوعي الثوريّ

18/07/2022
بين الإعجاب وسهام النقد... كنفاني متخفّيًّا وراء ’فارس فارس‘

بين الإعجاب وسهام النقد... كنفاني متخفّيًّا وراء ’فارس فارس‘

07/08/2022
«أمّ سعد»... الشجرة الإنسان | ترجمة

«أمّ سعد»... الشجرة الإنسان | ترجمة

14/07/2022
المنهج التركيبيّ وولادة الشخصيّة الأدبيّة الفلسطينيّة

المنهج التركيبيّ وولادة الشخصيّة الأدبيّة الفلسطينيّة

22/08/2022
شمس فلسطين الّتي لا تغيب

شمس فلسطين الّتي لا تغيب

04/07/2022
«عائد إلى حيفا»... زيارة مناطق الصدمة

«عائد إلى حيفا»... زيارة مناطق الصدمة

13/07/2022
غسّان كنفاني في فرنسا... حضور شحيح

غسّان كنفاني في فرنسا... حضور شحيح

16/07/2022
صورة أبديّة على حائط عالم ليس لنا

صورة أبديّة على حائط عالم ليس لنا

07/07/2022

التعليقات