باكستانيات يكسرن "صمت الحريم"

لعل براعة المعالجة تكمن أولا في جرأة اختيار هذا النوع من الشخصيات المعقدة سيكولوجيا، ثم الولوج إلى التركيب الخفي في بنائها الداخلي، والتركيز على المنعطفات المهمة في حياتها التي دفعتها إلى عوالم الشر.

باكستانيات يكسرن "صمت الحريم"

صدر عن سلسلة إبداعات عالمية مجموعة قصصية مختارة “من الأدب الباكستاني” لعدد من القاصات الباكستانيات، أبرزهن: عذراء عباس، ممتاز شيرين، خديجة مستور، فاهميدا رياض.

تبدو التجارب الذاتية والوعي الكامل للخيال الخلاق المبدع من أهم ما تتميز به قصص الكاتبات، إذ يعرضن معاناتهن الخاصة المتفردة في إطار محدد لا يتجاوز حيز الفكرة المراد إيصالها، وتصوير أحداثها وتفصيلاتها الداخلية والخارجية ،فالشخصية القصصية بمختلف أبعادها هي النافذة التي تطل منها هؤلاء الكاتبات على عالم القصة والرواية، بما في ذلك نقل الرؤية والتعبير عن المشاعر بأسلوب فني يعمد إلى بناء الشخصية وتوظيفها وتحريكها في محيط الحدث، حيث لا تترك مواقف أو أحداثا مبعثرة ولا جدوى منها.

والجدير بالملاحظة أن هؤلاء الكاتبات يقمن علاقة خفية بين الفن والسياسة، فخلال الفترة التي أعقبت تقسيم شبه القارة الهندية في العالم 1947، ظهر في الأدب (الأوردي) ما يعكس التقلبات والمطالب التي تعكس تلك الحقبة.

من ناحية أخرى، ظل هذا الأدب محافظا على العلائق الاجتماعية واللغوية مع أدب الأوردو في الهند، لذا يبدو الأدب الباكستاني المعاصر معبرا بدقة عن تلك المرحلة التي أعقبت الاستعمار، وما نقله من آثار اجتماعية لابد من ترجمتها كتابة بأساليب مختلفة.

في قصة “العراب” لخديجة مستور، تركّز الكاتبة على معالجة النزعة الواقعية الاجتماعية من خلال شخصية امرأة متحضرة من طبقة مسحوقة، تدفعها إلى السير في دروب الجريمة والانحراف بكل أشكاله.

ولعل براعة المعالجة تكمن أولا في جرأة اختيار هذا النوع من الشخصيات المعقدة سيكولوجيا، ثم الولوج إلى التركيب الخفي في بنائها الداخلي، والتركيز على المنعطفات المهمة في حياتها التي دفعتها إلى عوالم الشر.

وكأن المعادلة الخفية في قصة “العراب”، تؤكد أن الإنسان ابن بيئته، وأن الإطار الاجتماعي الذي يعيش ضمن بوتقته هو الذي يدفعه للانحراف والشذوذ أو للحياة بشكل طبيعي شريف يعمل على بتر ميول الشر الموجودة في النفس البشرية.

تصف خديجة مستور بطلة قصتها بعد أن انتزعوا منها طفلها، وبعد أن دخلت السجن عقب قيامها بعدة عمليات قتل وسرقة قائلة: “أحضرت العراب للزنزانة الانفرادية، لم تكن تضحك كعادتها وهي تصف زنزانتها بأنها المنزل المحبب”.

وتشرح الكاتبة معنى كلمة العراب بأنها كلمة تطلق على سادة الجريمة من بومبي، وقد أصرت بطلة القصة على مناداتها بهذا اللقب بدلا من أسمها الحقيقي، منذ اللحظة التي تحجرت فيها ودخلت عالم الجريمة من بابه الواسع، وكأنها باختيار الاسم تؤكد لنفسها تمكنها من الطريق الذي اختارته، وعلى الآخرين خشيتها والحذر منها على الرغم من كونها امرأة، لكنها تحمل لقب “العراب”.

في قصة “ارتحالات النوم” لعذراء عباس التي تكتب الشعر والنثر، تميل الكاتبة إلى تصور انفعالات وجدانية دافئة وترصد مشاهد طبيعية لحظة تبديلها بين شروق وغروب، وتتعمّد من خلال ذلك الدمج بين العوالم الخارجية المتحركة في ألوانها وأشكالها وبين الأحاسيس الداخلية الصاحبة المنفعلة مع حركة الطبيعية، تقول: “الأصيل بلون الدم الطازج، وأنت ستعود من تلك الشواطئ عندما يكون نور الشمس قد غطى نصف محيطات الأرض، وتستلم النظرات اللاهثة بحثا مذعنة للوحدة وبؤس الارتحال”(ص17).

تبدو القصة وجدانية تجنح إلى الشاعرية وتأمل الأحاسيس الدفينة، أكثر مما تجسد حكاية معينة بطابع نثري يرتكز على بداية ونهاية محددتين.

أما فاهميدا رياض وهي شاعرة تحولت أخيرا لكتابة القصة، فإنها تعالج في “رسائل بعناوين خاطئة” فكرة الغربة بتأزماتها المختلفة، إذ تسلط الضوء على مشاعر لاجئ مغترب من بلده إلى بلد آخر، حيث يوازي شعور الغربة إحساسا آخر بالنقمة على بلده وعلى البلد المهاجر إليه، يرادف كل ذلك إحساسه بالعجز عن امتلاك أبسط الأشياء لشعوره بالخسارة المسبقة لها، لأنه سيعود يوما إلى بلده، أحاسيس الخسارة تهاجمه حتى قبل أن يشتري أكواب الشاي، أو يقوم بزراعة الزهور، يهاجمه دائما سؤال واحد: لمن تترك ذلك؟

تقول: لم يفهم أحد من اللذين حولهما لماذا يسبب شراء أكواب شاي كل تلك الآلام لهذين المغتربين “في قصة “الصحوة” لإفتان ممتاز تعبر الكاتبة بمونولوج وجداني شفاف عن اختلاجات فتاة مراهقة، حيث تضارب في تلك المرحلة من العمر مشاعر الافتتان والحب والإعجاب. تصف الكاتبة فتاة تحصر اهتمامها في لفت انتباه معلمتها، مع أن هذه المعلمة قبيحة وغير محبوبة من سائر التلميذات، لكن بطلة القصة مفتونة بشكل أعمى بالمعلمة التي لا يزيد اهتمامها بها على الاهتمام بأي تلميذة أخرى، لكن كل هذه المشاعر المتوترة عند الفتاة بعد تقدم أحد الشبان لخطبتها، تتحول نحوه ويفتر شغفها بالمعلمة وتقول: سأتكلم عنه بفخر، سأخبرها كم هو وسيم، سأخبرها كم أحبه، وأصرّ على أن تحضر زفافي” (ص62).

إن الرؤية العامة لمجموعة القصص تجسد اختيار الكاتبات لموضوعات تطرح قضايا إنسانية مهمة، من خلال شخوص تتصارع مع الحياة والفقر والغربة، لكن دون أن يطغى البعد الاجتماعي على الواقعي أو على البعد الجمالي في المستوى السردي والتعبيري، بل لاحظنا أن النفحة الشاعرية وتحميل النصوص رؤى وأبعاد تتجاوز المظاهر الحسية، قد ظهر ذلك في معظم القصص، وبدأ ذلك أشد وضوحا عند عذراء عباس وفاهميدا رياض.

الجدير بالتنويه أن كتاب “من الأدب الباكستاني” قصص مختارة من ترجمة عامر الزهير ومراجعة شاهر عبيد.

اقرأ/ي أيضًا| عرض صامت لأطفال غزة تنديدًا بالحصار

التعليقات