قسوة الواقع في حياة الفتيات

خصّت إيناس زعبي مفرِّع موقع "عرب 48" هذا اللقاء وهي عاملة اجتماعيّة في مهنتها وتحملُ خبرة نحو 10 سنوات في العمل مع الفتيات في خطر!

قسوة الواقع في حياة الفتيات

إيناس زعبي مفرِّع

ليست المرة الأولى التي ألتقي فيها مديرة ملجأ الفتيات العربيات 'البيلسان'، إيناس زعبي مفرِّع، في المرّة السابقة خلال حديثٍ عابِر كانت قد تحدثت عن قسوة المجتمع حينَ لا تملك العاملة الاجتماعيّة حماية الفتيات من الموتِ المحتوم في بعض الحالات.

هذه المرَّة خصّت إيناس زعبي مفرِّع موقع 'عرب 48' هذا اللقاء وهي عاملة اجتماعيّة في مهنتها وتحملُ خبرة نحو 10 سنوات في العمل مع الفتيات في خطر!

عن عملها في السابق قالت: 'بدأتُ العمل في المأوى قبل سنة ونصف تقريبًا علمًا أنه أقيم عام 1993'

قالت العاملة الاجتماعية إيناس زعبي مفرِّع، لـ 'عرب 48'، إنه 'كما أيِ عملٍ في بدايته تظهر الأمور بمنتهى الصعوبة؛ ولا زال الأمرُ كذلك؛ لا زلتُ أتأقلم في هذا الواقع القاسي؛ أحيانًا كثيرة ما أنجح في قراءة الاستنتاجات والسيناريوهات التي تحصل أمامي بشكلٍ سريع؛ لكن بغير تسرُع؛ وأحيانًا أقف عاجزة، أقرأ الصورة وأشخّص الأمور، بصورة واضحة، وعلى مدار سنوات؛ وهي سنوات ليست سهلة بتاتًا؛ فالعمل هُنا؛ في مجالنا ليس سهلاً؛ وليس هنالك مرحلة تأقلُم، ما يُضطرك الواقع إلى القفز في البركة دون إجادة تامة للسباحة؛ مع أو عكس التيار؛ إذ لا حلّ آخر أمامكِ؛ كي تتأقلمي بسرعة مع الواقع الجديد.

نتحدث عن مأوى قُطري وتصب فيه مشاكل المجتمع بأكمله، من أقصى الجنوب إلى أبعد منطقة في الشمال؛ مع اختلاف البيئة والحضارات؛ وكل اللواتي يصلن إلى المؤسسة يُفترض الحاجة إلى التأقلُم السريع بين الفتيات وهو أمرٌ صعب جدًا'.

هل يتطلب هذا التأقلم جهدًا خاصًا؟

'بالتأكيد من خلال دراسة الأمور بشكلٍ أكبر وأعمق، خاصةً أنّ هناك فكرة أنّ مديرة المأوى من المفترض أن تعرف كل شيء وتكون خبيرة بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة؛ ويصب لديها كل الخبرات في العلوم الاجتماعيّة؛ لكن الواقع أنه مهما كانت لدينا القدرة على التأقلُم إلا أنّ العاملة الاجتماعية بسبب ما تمرُ به من ظروفٍ صعبة على الفتيات بالأساس، وعليها كمسؤولة؛ ما يعني أنها أيضًا بحاجة لتفريغ الطاقات والتخفيف من الحِمل الذي يُنقل يوميًا إلى البيوت، وكان لديّ إرشاد خاص، استعنتُ من خلاله لمختصين في مجال الفتيات، وأيضًا في مجال يُتيح للآخرين أن يسمعوني؛ وهذا الأمر تطلّب مجهودًا خاصا، ومن يختار هذه المهنة (العلوم الاجتماعية)، يجب عليه أن يكون إنسانًا مع طاقات؛ إذ لا يمكن العمل في هذا المكان وأعصابك باردة؛ وكأنه لا شيء يحصل في مجتمعنا وأماكن عملنا وحياتنا اليومية؛ ونحنُ بحاجة للكثير من القوة مع الشعور السائد أننا نفتح يوميًا جبهات حرب، وهو شعورٌ صعب جدًا وحقيقي؛ ويكفي هذا الأمر ليستنزف منا الطاقات المخيفة'.

عن التجربة في العمل الاجتماعي

'عملت في العديد من المجالات بمهنتي؛ مع مخالفي القانون في مناطق مختلفة؛ شبانٌ مخالفون للقانون في يافا، عملت في الخضيرة، كنتُ ضابطة أحداث؛ أي عاملة اجتماعية، ألتقي المساجين وأُجري تشخيصًا لظروفهم بشكلٍ قانوني؛ وأتعامل مع السجين وأستطيع معرفة إذا كان بإمكانه ارتكاب جريمة أم لا؛ وإذا كانت هناك إمكانية لعلاج الشخص الذي يجلس أمامي أم لا. وكُنّا نقدِّم تقارير للمحاكم بهذا المضمون، ونقدّم العلاج لهذه الشريحة من المجتمع.

بعدها عملتُ مع جمعية الساحة النسائية؛ وجمعية 'إيتاخ' وهي جمعية نسويّة، تعمل من أجل حقوق المرأة والفتيات والعلاج، وركزتُ مشروع ناشطات قياديات؛ واليوم أنا موجودة في المأوى'.

حدثيني عن واقع وظروف الفتيات في المأوى؟

'لا أخفي أنّ الفتيات في المأوى مهددات بالقتل طوال الوقت؛ والعائلات تبحث عنهن، لذا فإنّ مكانهن مخفي وسري؛ والعمال الاجتماعيون يزورون الفتيات لمتابعة حالاتهن واحتياجاتهن، هؤلاء أشخاص مهنيون، لكن من المؤسِف أن نشير أنّ طاقم العاملين والعاملين الاجتماعيين يتعرضون للعنف مِن قِبل الفتيات؛ فقبل أسبوع على سبيل المثال، تعرَّضت إحدى المرشدات إلى عملية إيذاء كادت تُفقدها حياتها؛ وبالصدفة كانت لدينا عاملة اجتماعية أخرى أحضرت فتاة، ونجحت بإنقاذ العاملة الاجتماعية؛ والفتيات لا تؤمِنّ أنّ هذا المكان يحميهن، مكانٌ أشبه بسجن؛ ويتساءلن دومًا: لماذا يجب أن نكون في سجن؟ صحيح أنني ضد ما يحدث وتعمل الجمعية على التغيير ولتحسين ظروف الفتيات؛ بشكلٍ أفضل؛ وفي هذا الأمر أستطيع أن أقول أنّ الموضوع محض تقاعُس وزاري، وتقصير الشُرطة؛ والمؤسسات؛ والأمر لا يأتي من واقع أننا كعاملات اجتماعيات نريد أن نتصّل من المسؤولية عن أنفسنا؛ وإنما بسبب الشعور أنكِ تعملين لوحدك؛ يأتي الشرطي يلف في المكان ببعض الخطوات ثم ينصرِف؛ في حينه كانت إحدى الفتيات قد ضربت المرشدة ببالون الأوكسجين الذي يُستعمل في حالة الإطفاء؛ وأصيبت المرشدة بنوبة قلبية؛ تمّ نقلها إلى المستشفى واضطُررتُ للمكوث مع الفتيات؛ وكُنّ يهددني أمام الشرطة؛ وإذ به يتركني لوحدي ويخرج، ثم حضر شرطي مُسنّ قال لي: (يجب أن يروكِ ميتة؛ ودماؤك تسيل ليساعدوكِ، وأنصحكِ بعدم التوتر والضغط على أعصابك فلا شيء سيتغيّر). وما أقوله اليوم أنّنا نحنُ كعاملات اجتماعيات نتعرض للعنف؛ ليس لأنّ الفتيات عنيفات، وإنما لأنهن في ضائقة؛ ويحتجن لمن يحميهن ويقف إلى جانبهن. والسؤال الأهم: كم نحنُ قادرون على التغيير عندما نكون قلّة، ويتحول الأمر إلى شعور كبير بالألم، خاصةً أننا نحنُ المسؤولين نحتاج إلى الدعم. جدير بالذكر الاطلاع إلى شبابيك المأوى المكسَّرة بسبب العنف الممارس ضدنا، بعلم الشرطة بالأساس، يبدو أنه جاءَ ليتسلى لا أكثر'.

هل تشعرين أن هناك تغيير إيجابي في المجتمع؟

'للأسف للأسوأ، لا يوجد وعي في الموضوع؛ عُدنا بخطواتنا إلى الوراء. صحيح أنّ بعض الأمور تجملها الكاميرات والبرامج؛ ليبدو الأمر مهنيًا وجميلا، لكنّ الأمر غير حقيقي وإنما هو مجرد فقاعة؛ يصل إليّ العمل الأهم والأصعب؛ وأراه أمام عينيْ، عندما تبكي الفتاة؛ وتقول لأهلها؛ أنا مُغتصبة؛ أبي اعتدى عليّ، وحين أرى التعامل مع الموضوع؛ يخطُر ببالي اعتزال هذه المهنة، فالأمر ليس محضُ شعارات وكلمات رنانة؛ وإنما هو واقعٌ يخرج من الصميم؛ من قلب القلب؛ ويبدو لي أنني سأقف أمام الأهل وأقول 'متى ستكون الصحوة؛ متى ستتوقفون عن محاسبة الفتيات على جرمِ ذوي القربى أو غيرهم، للأسف، يتهموننا أننا نحنُ مَن نضع السيناريوهات في عقول الفتيات، وهذا نوعٌ آخر من اللوم تجاهنا نحنُ العاملات الاجتماعيات؛ ونحنُ نصمت عن جملة 'نسويات'؛ كي لا يتم تهديد الفتيات؛ أحاول تمرير رسائل لا تشكل تهديدًا لكيان الفتيات بسبب حياتهن الصعبة'.

وأضافت العاملة الاجتماعية إيناس زعبي مفرِّع: 'يبدو لي أّن هناك جذور عميقة للعنف والأذى، وهذه حقيقة لا يمكن تجميلها؛ ما يؤكد أنّ مجتمعنا يعيش واقعًا صعبًا ومؤلمًا، ونسمعُ كلماتٍ أقلُ ما يقال عنها أنها 'لا تمُت للواقع بصِلة'، صحيح أنّ هناك طبقة مثقفة متعلمة؛ تفقه في السياسة عن ظهر قلب؛ إضافة إلى التركيز على حقوق المرأة، وهناك طبقة ثالثة منتهكةُ الحقوق تعيش في الحضيض، البعض ربما لا يراها أو أنه لا يريد رؤيتها؛ فنراهم يغلقون عيونهم يدوسون على الضحية ويتركون المكان، تاركين هذه الفئة البسيطة من مجتمعنا؛ والآخذة بالانحدار عميقًا في أسفل القاع.'

من أين يأتي الحل؟!

'من خلال التربية في البيت؛ من مكاتب الشؤون الاجتماعيّة؛ دوائر الخدمات الاجتماعية؛ التي تبدو أحيانًا هشّة؛ وتحتاج أن تجمع كل القوة في المجتمع كي يتغيَّر'.

ولخِّصت أنه 'يجب أن نبدأ بالحل من خلال التعاون سواء من حيثُ الدوائر المسؤولة، البلديات والمجالس؛ وأن يكون يتم تأهيل العاملات والعاملين الاجتماعيين، بأفضل صورة؛ حتى في الأجور؛ كي يزداد الحافز للعمل والعطاء؛ إذ لا تزال هذه الدوائر مظلومة، ما يتطلب تدخُل دولة كاملة وتعزيز الجهود وتكثيفها، وإلا فمن الطبيعي أن نفشل؛ فثلاث أرباع الفتيات يخرجن من المأوى إلى بيوتهن، بوضعية أفضل صحيح؛ بالتنسيق مع الشؤون، وأحيانًا يتم تشكيل ضغط على الشؤون لإرجاع الفتيات إلى أهاليهن، ويعد مكتب الشؤون بمتابعة العلاج للفتيات والعائلات معًا؛ بعد أن يطمئنوا لزوال الخطر، لكنّ العاملة الاجتماعيّة التي تجلس ساعات طويلة؛ ويتكدّس مكتبها بالملفات الصعبة عن واقع الفتيات والمجتمع؛ ما يزيد الإحباط والضغط على العاملين الاجتماعيين؛ الذين يتقاضون رواتبًا تحت خط الفقر، فكيف سيكون للعامل أو العاملة الجهوزية التامة للعطاء والتضحية؟!'.

وترى أنّ 'الحل يكون بالتأهيل العميق للعاملات الاجتماعيات وأداء الشرطة لعملها؛ والمؤسسات والوزارة التي يجب أن تعترف بالخاصية لنا كمجتمع عربي، وما نعانيه، وهذا الأمر مغيَّب تمامًا منذ فترةٍ طويلة'.

مَن يُتابع التقارير التي يتم تجهيزها في نهاية كل حالة، أو بداية كل حالة؟

'العاملة الاجتماعية؛ حسب التقرير والتوصية تقِرر مصير الفتاة؛ وبعد التوصيّة؛ تعود العاملة الاجتماعية إلى مكتبها وأمامها نحو مئتي حالة يجب البدء بحلها، نتحدث عن عائلات يجب متابعتها بصورة يوميّة'.

اقرأ/ي أيضًا | العمالة والتسول: أطفال بين الفقر والاستغلال

وبنظرة ليست تشاؤمية، لكنها لاذعة لواقعً صعب فعلاً، قالت إن 'عملنا فعلاً صعب ومؤلِم، وهناك فتيات تُقتل، وهذا ما يؤكّد عدم جهوزية مجتمعنا للحضارة بمسمياتها وواقعها ما يتطلّب الكثير من العمل ربما يجب أن نبدأه من الصفر'.

التعليقات