"إنسان من فلسطين": سرديّات رقمّيّة لهموم شبابيّة

عدسة مجد صانوري

د. نصر جوابرة

فرضت الصورة الفوتوغرافيّة حضورًا في الفعل الثقافيّ البصريّ، فعلى الرغم من جماهيريّة فنّ الفوتوغرافيا، إلّا أن البحث الفكريّ والجماليّ في بنية الصورة الفوتوغرافيّة كخطاب بصريّ وبناء سرديّ، جعل منها لغة تعبيريّة منافسة في نتاجات الثقافة البصريّة، كما منحها قوّة حضور وفاعليّة في ميدان الفنون البصريّة المعاصرة.

في معرض 'إنسان من فلسطين' الّذي يُنظّم في إطار 'قلنديا الدوليّ' 2016، تحت شعار 'هذا البحر لي'، ثمّة إنجازات فوتوغرافيّة لنخبة من المصوّرين الفلسطينيّين الشباب من مناطق مختلفة من فلسطين التاريخيّة، اختير منهم عشرة مصوّرين لكي يترشّحوا  للجائزة التي تقدّمها 'كلّيّة دار الكلمة الجامعيّة للثقافة والفنون'، لإحياء إرث رائدة التصوير الفوتوعرافيّ النسويّ في فلسطين، الفنّانه الراحلة  كريمة عبّود.

أسرار اللّقطة

ضمّ المعرض سلسلةً من الأعمال الفوتوغرافيّة لمشاركين تنوّعت مستوياتهم بين الاحتراف والهواية والدراسة، إلّا أنّها عكست في رسالتها الجماليّة مستوًى من الاحترافيّة في معظم اللقطات المنجزة، فقد أشارت الأعمال إلى مهارة نسبيّة في التعامل مع الفوتوغرافيا كمبحث بصريّ  يجمع بين العلم والفنّ، يشترط المعرفة المسبقة بأسرار اللقطة ومكوّنات وعناصر المشهد وبنائه الجماليّ، بدءًا من اختيار الموضوع وحساسيّة وأهمّيّة الفكرة واللحظة الزمنيّة وتوزيع الإضاءة والمفردات البصريّة وغيرها، بالإضافة إلى المهارة الكافية واللازمة في التعامل مع آلة التصوير وأسرارها وإمكانيّاتها، بالإضافة إلى التقانة الرقميّة وما تقدّمه من أسرار ومعالجات قبل وأثناء وبعد إنجاز الصورة  الفوتوغرافيّة.

عدسة ميّ حرباوي

 

توازنٌ بصريّ

لقد نجح الكثير من الأعمال المرشّحة في تحقيق توازن بصريّ من خلال اختيار اللحظة الزمنيّة المناسبة لللقطة وتوزيع الإضاءة والظلال في المشهد، وكذلك فاعليّة اختيار الزاوية بما تمنحه  من عمق وتوازنات للخطوط وفاعليّتها في التلقّي الجماليّ و تجسيد إطارات افتراضيّة حاضنة من المشهد نفسه، فضلًا عن توظيف قاعدة الأثلاث وتوفّرها في الكثير من الأعمال كصيغة بصريّة مثاليّة، تمنح اللقطة الثبات والقوّة والرصانة. بالإضافة إلى المهارات التقنيّة، والتي تنوّعت بين مهاراتٍ خدمت البنية الجماليّة للصورة، وتقنياتٍ ساهمت في بناء رسالتها ومضمونها الفكريّ

على صعيد الفكرة، قدّمت الأعمال المشاركة مضامين متنوّعة، جاءت في غالبيّتها للتعبير عن القلق والهمّ الفلسطينيّ، كما حملت رسائل وبنًى سرديّة تنوّعت بين المباشرة والتقريريّة من جهة، والتأويل والإيحاء الذي يحيلنا إلى خارج الإطار - إطار الصورة -، أو إلى ثنائيّة  الأستوديوم (Studium) والبانكتوم (Punctum)، أو 'الوخز'، في فعل التلقّي الفوتوغرافيّ، وفقًا لتعبير الناقد الصوريّ واللغويّ، رولان بارت.

عدسة لؤي صبابا

 

نفيٌ مستمرّ

وفي قراءة الأعمال نجد المصوّرة مي حرباوي تحاول إبراز حياة الشقاء والبؤس التي يعيشها الإنسان الفلسطينيّ وصراعه اليوميّ/ الوجوديّ مع الاحتلال الصهيونيّ. ثلاث صور جمعت بين مشهد من المخيّم الفلسطينيّ - رمز النكبة، وصورتين لبيتين من الصفيح لعائلات شُرّدت من بيوتها مؤخّرا. وكأنّ حرباوي تريد أن تقول إنّ ممارسة النفي والإزاحة للإنسان الفلسطينيّ مستمرّة؛ فالنكبة ليست حدثًا، وتاريخًا، وذاكرة... بل هي واقع وفعل يوميّ يمارسه الاحتلال على الشعب الفلسطينيّ في جميع أنحاء فلسطين التاريخيّة.

رحلة العذاب اليوميّة

في عمل آخر، حاول المصوّر لؤي صبابا أن 'يؤبّد' لحظة معاناة العمّال الفلسطينيّين على معابر الموت التي تُهدر فيها كرامتهم الإنسانيّة من أجل لقمة العيش. جموعٌ حاشدة من العمالة الفلسطينيّة تسير عبر الأسلاك والحواجز في ممرّات أُعِدّت للقهر والإذلال.

لرُبّما نجح صبابا في إنقاذ عمله من المباشرة أو القيمة  البصريّة - الصحافيّة للصورة إن صحّ التعبير، عبر اختياره  المدروس للمشهد وزوايا اللقطة، الأمر الذي أضاف إليها قيمًا جماليّة وكذلك بعدًا  دلاليًّا،  لربّما يحيلنا  إلى 'طريق الآلآم' التي  خطاها  المسيح الفلسطينيّ على هذه الأرض قبل ألفي عام،  فها هو العامل الفلسطينيّ يمشيها في رحلة عذابه اليوميّ.

عدسة محمّد شالودي

 

مشاهد مقدسيّة

أمّا المصوّر محمّد شالودي، فقد رأى في مشاهد الأسواق الشعبيّة في فلسطين مادّة غنّيّة على الصعيدين الجماليّ والتوثيقيّ، فراح يُسَجّل بعدسته لحظاتٍ ومشاهد مختلفة من تلك الأسواق، في لقطات محسوبة ومدروسة مسبقًا.

وهكذا فعل خالد زغاري حين رأى في طفل ينتظر أباه لينهي صلاة التراويح، وفي رجل طاعن في السنّ يتجوّل في حيرةٍ في أروقة المسجد الأقصى، وعجوز تبيع الخضروات على أحد أدراج مدينة القدس العتيقة، حين رأى فيها مواضيع أثارت به روح المصوّر المتعمّق بدلالات الجسد وقيم التعبير في الحركة والحضور الإنسانيّ في إطار الصورة.

شهادات سياسيّة وإنسانيّة

في حين راح المصوّر محمود الكرد يبحث في الصورة وطاقتها التعبيريّة كذلك، في الإمكانيّات الرقميّة التي تمنحها الدلالة من خلال القصّ والتركيب والحذف والإضافة والدمج وغيرها،  لتجسيد الأمل والحلم الفلسطينيّ بالعودة؛ فقدّم صورًا مركّبة لا تخلو من روح شاعريّة تؤكّد ارتباط الفلسطينيّ بأرضه ومقدّساته.

عدسة خالد زغاري

كذلك فعل الفنّان وسيم علي، حين استثمر فاعليّة الدمج واللصق والتباين والشفافية والتعتيم والتداخل وغيرها من إمكانات الآلة الرقميّة، لِيُقَدّمَ ثلاث صور جمعت بين جدار الفصل العنصريّ والطفولة والعائلة الفلسطينيّة. تحيلنا الصورة إلى الأثر الاجتماعيّ والنفسيّ لهذا الكائن الإسمنتيّ وقَسوَتهِ على الطفولة والعائلة والأمّ الفلسطينيّة تحديدًا، حيث فعل العزل والحرمان والنفي داخل الوطن. لا يقدّم الفنّان علي عبر هذه الصور الثلاث شهادات اجتماعيّة لحميميّة العائلة من خلال  فعل الستوديوم (Studium)، فهو لا يبحث عن إعجاب المتلقّي السريع والزائل بصورة احترافيّة التقطها للعائلة الفلسطينيّة، بل يحاول أن يقدّم شهادات سياسيّة وإنسانيّة يُحْدِثُ من خلالها فعل الوخز (Punctum) للمتلقّي، ويترك فيه أثرًا للتفكير والتعاطف والرفض، ولربّما الصّراخ.

سؤال الهويّة/ سؤال العدالة

قدّم الفنّانان علاء أبو أسعد ومجد صانوري مشروعين بالأسود والأبيض، تضمّن المشروع الأوّل لأبو أسعد ثلاثة بورتريهات لشباب وشابّات فلسطينيّين لم تتضمّن ملامحهم أو أزياؤهم أيّ دلالات فلسطينيّة، ربّما لتناقش من خلالها الهويّة، هويّة الإنسان الفلسطينيّ، من منظور  إنسانيّ لا وطنيّ محلّيّ.

عدسة علاء أبو أسعد

أمّا صانوري، فقد تضمّن مشروعها مسحة عالية من الاحترافيّة والحركات الدراماتيكيّة المُمسرحة، لبورتريهات وأجساد أنثويّة جاء أحدها بتقنّيّة 'عُمق الميدان' (Depth of field)، ما منح أعمالها قيمًا تعبيريّة ودلاليّة أوحت بها الحركة والإضاءة والزوايا المنتقاة، كذلك الشخصيّات المنتخبة للموضوع، إذ جمعت الوجوه في أعمالها ملامح الحيرة والقلق والتساؤل والفقد، حتّى بدت تلك الأعمال وكأنّها تناقش المرأة الفلسطينيّة ومفاهيم الحرّيّة والمساواة والعدالة بين الجنسين.

الفنّانة في الصّورة

في سياق مُختلف، قدّمت الفنّانة نهاية الحاجّ ثلاثة أعمال فوتوغرافيّة بعد أن التقطت صورًا ذاتيّة ووضعتها في سياقات فانتازيّة غرائبيّة، باستخدام التقنيّات الرقميّة؛ جمعت نفسها تارة مع ألعاب الحرب عند الأطفال، وتارة في سلّه المشتريات، وأخرى وهي تلوّن سكاكر الأطفال. بدت أعمالها وكأنّها نقاش وجوديّ وفلسفيّ يجمع بين نكوص الطفولة ومواجهة عنف الحرب والرأسماليّة المتوحّشة، ببراءة الطفل ولمسة الأنثى.

عمل نهاية الحاجّ

في نمط فنّيّ مخالف أيضًا، قدّمت الفنّانة ريم أبو حديد ثلاث صور وظّفت فيهنّ جسدها كوسيط للتعبير، في مقاربة واضحة لفنّ الجسد، إذ رسمت على وجهها بالماكياج وأحمر الشفاه رموزًا مختلفة؛ تارة شاربًا شبيهًا بشارب الفنّان الإسبانيّ سيلفادور دالي الشهير، وتارة، وتحت عنوان 'هذا البحر لي'، رسمت باللون الأزرق حول عينها، وتارة ثالثة رسمت علم فلسطين على وجهها. وقد تلاعبت الفنّانة بالصور من خلال البرامح الرقميّة.

حملت تلك الصور الثلاث مستويات مختلفة من التهكّم والغرابة والدهشة، ما يدفعنا إلى التفكير في مضامينها والقصد الذي أرادته أبو حديد. ولربّما تحمل تلك الأعمال رسائل ومضامين تتناول الهويّة النسويّة، إذ تعالج دور المرأة الفلسطينيّة التاريخيّ في مواجهة الاحتلال جنبًا إلى جنب مع الرجل، ولربّما تعالج الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة للمرأة، كهويّة مركّبة في مواجهة ذكوريّة الاحتلال وبربريّته.

عمل ريم أبو حديد