ما بعد "فك الارتباط"- سيناريوهات إسرائيلية

ما بعد
* تعريف- صدرت أخيرًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- "مدار"- في رام الله الورقة رقم 30 من سلسلة "أوراق إسرائيلية"، وهي بعنوان "ما بعد فك الارتباط- سيناريوهات إسرائيلية". وتضم مجموعة من السيناريوهات الإسرائيلية حول ما بعد فك الارتباط، والتي ظهرت في "النشرة الإستراتيجية" الصادرة عن "مركز يافه للدراسات الإستراتيجية" في جامعة تل أبيب.

تتناول السيناريوهات، في التحصيل الأخير، خيارات إسرائيل المقبلة وتأثير خطة الانفصال على السياسة والمجتمع الفلسطينيين وعلى المجتمع الإسرائيلي وعلى قوة الردع الإسرائيلية، وكذلك على مستقبل العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية.

قدّم للورقة أنطوان شلحت، محرر السلسلة. وهنا ما جاء في مقدمته:


داخل سيل لا ينقطع من المقالات والتحليلات الإسرائيلية خصّص "مركز يافه للدراسات الإستراتيجية" في جامعة تل أبيب "النشرة الإستراتيجية" الصادرة عنه (عدد آب/أغسطس 2005) لموضوع ما بعد خطة فك الارتباط، وذلك قبل الانتهاء من تنفيذها بوقت قليل.

واحتوت النشرة على ست مقاربات نقدّم في هذا العدد من "أوراق إسرائيلية" ترجمتها العربية الكاملة.

ومع أن المقاربات تتناول، في التحصيل الأخير، خيارات إسرائيل المقبلة وتأثير الخطة على السياسة والمجتمع الفلسطينيين وعلى المجتمع الإسرائيلي وعلى قوة الردع الإسرائيلية، وكذلك على مستقبل العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية. ومع أنها كتبت عشية تنفيذ الخطة، في أجواء عامة قد تكون مختلفة عن الأجواء التي جرى تنفيذ الخطة في خضمها، فإنه في مكنتنا قراءتها من زاوية محورين مركزيين يتواتر السجال حولهما:

الأول- محور المترتبات الإسرائيلية الداخلية للخطة المذكورة. والثاني- محور التداعيات الخارجية، وبالأساس ما هو مرتبط بالعلاقات الإسرائيلية- الأميركية.

لعلّ أكثر ما يمكنه أن يعنينا، مما تشفّ عنه هذه "النشرة" في شأن المحور الأول، أنه يكاد يكون ثمة إجماع بين أصحاب المقاربات كافة، وهم من أبرز الأكاديميين والباحثين في "مركز يافه"، على أن الفترة القريبة القادمة لن تشهد أية تطورات جوهرية تذكر، منِ شأنها أن تشي بوجهة سياسية إسرائيلية معينة. وهذا الأمر غير راجع إلى أن قباطنة الدولة الإٍسرائيلية، بمن فيهم أريئيل شارون نفسه، لا يملكون أجندة سياسية محدّدة فحسب، وإنما يرجع أيضًا إلى أن هذه الفترة كافتها ستكون برسم الانتخابات البرلمانية التي ستجري، سواء في إسرائيل أو في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، علمًا بأن هذه الانتخابات ستتأثر إلى حدّ بعيد بخطة "فك الارتباط".

في هذا الصدد يكتب الجنرال في الاحتياط شلومو غازيت، في مقاربته الاستهلالية التي تبدو لنا شديدة الأهمية ضمن سائر ما تحتويه "النشرة"، أن إخلاء المستوطنات في قطاع غزة وشمال الضفة الغربية لن يحظى بأي امتداد في غضون الفترة القريبة المنظورة، لأن الجميع يفترضون بأنه بعد الانتهاء من تنفيذ الانسحاب ستدخل الحلبة السياسية الإسرائيلية بكل زخمها مرحلة الاستعداد للانتخابات العامة، التي ستجري على ما يبدو في 2006. وبالتالي فلن تكون هذه الفترة سانحة لأية تحركات ذات طابع سياسي غير مألوف، على نسق الطابع الذي يميز خطة فك الارتباط، في قراءته. لكن ذلك لا يعني، في حال من الأحوال، أن هذه الانتخابات ستطوي صفحة الانسحاب المذكور، وإنما على العكس ستتأثر نتائجها، بصورة أكيدة، بالسجال السياسي والعمومي الذي تصاعد في السنة الأخيرة حول فك الارتباط، من جهة وبما خلفه هذا السجال من "انقسام عميق" في أوساط السكان اليهود في إسرائيل، من جهة أخرى.

وبصرف النظر عن النتائج، التي ستسفر عنها الانتخابات العامة في إسرائيل، فإن الموضوع الأساسي والأكثر أهمية الذي من المتوقع أن يكون ماثلاً أمام الإسرائيليين عمومًا في حمأة المعركة الانتخابية يتمثل، برأي غازيت وغيره، في الحاجة السياسية والوجودية إلى حسم ما يسميه بـ"الخيار الصعب". وضمن ذلك سيتعين عليهم الاختيار بين الخط السياسي العام الذي انتهج حتى الآن والذي يقف في صلبه الحفاظ على استمرار الوجود الإسرائيلي (الاحتلالي) في الضفة الغربية، وبين تبني سياسة تواصل خطوات رئيس الوزراء شارون الرامية إلى الانفصال عن الفلسطينيين، حتى وإن كانت خطوات أحادية الجانب كما هي الحال بالنسبة للخطوات التي تم اتخاذها بخصوص قطاع غزة وشمال الضفة، والتي تنطوي من حيث "الجوهر" على مفهوم يتضاد مع الخط الراسخ المشار إليه.

قبل أن نعرض إلى المزيد مما يقوله نشير إلى أن شلومو غازيت هذا هو نفسه الذي رفض "بكلّ إباء"، في سياق تقرير ظهر في شهر آب/أغسطس 2005 في "هآرتس"، بالتزامن مع ظهور "النشرة"، التحدث عن نشاط "الوحدة السرية" الإسرائيلية في قطاع غزة الذي تمحور حول غاية إخلاء القطاع من سكانه الفلسطينيين بعد احتلال 1967 ، على رغم أنه أشغل وقتئذٍ منصب المعاون الخاص لوزير الدفاع الإسرائيلي وكان على دراية بهذا النشاط. وليس هذا فحسب، بل إنه عاب على غيره الحديث في الأمر مؤكدًا عيانًا بيانًا في تسويغ هذا الرفض أنه "يجب شنق من يتحدث عن ذلك... فإسرائيل ما زالت في صراع مع العالم العربي ومع الفلسطينيين"، معرباً عن اعتقاده بأن الوقت لم يحن بعد للحديث عما كان يحدث في قطاع غزة، "نظراً لحساسية الأمر"، حسب تعبيره. وعلى الأصح درءًا لما قد يحيل حديث كهذا إليه، من فشل ذريع للمخططات الإسرائيلية المتعلقة بقطاع غزة التي لا تسقط الحاجة إلى عدم طيّ صفحتها بمجرّد انسحاب الاحتلال العسكري والاستيطاني منه.

ما الذي يستدعي هذه الملاحظة الأخيرة، في سياق حديث عن قراءة لما بعد فك الارتباط؟.

لا يواري غازيت، في مقاربته ضمن نشرة "مركز يافه"، أن النوايا المعلنة لشارون من وراء الخطة إياها، والتي تصب جميعها في مصب "حماية مستقبل الدولة اليهودية" من الخطر الديمغرافي العربي الداهم، تشكّل أرضية كافية يمكن الركون إليها لتزكية الخطة، من طرفه.
لكن في الوقت ذاته من شأن الملاحظة المستحضرة من نطاق آخر أن تؤشر إلى ما يواريه الكاتب من دوافع أخرى كامنة خلف الخطة، ليس أبسطها أن أية خطوات أحادية الجانب لا يمكنها أن لا تتأثر بما حصل ويحصل لدى الطرف الآخر، المقابل، وعلى المستويين الإقليمي والعالمي. وإن عدم النظر إلى هذه الدوافع يعني، ببسيط العبارة، التسليم بالدوافع الإسرائيلية فقط.

مع ذلك يبقى السؤال المطروح: ماذا بعد فك الارتباط؟

إذا عدنا إلى مقاربة غازيت فإنه ستقف في مركز السياسة الإسرائيلية في المدى القصير، وفق قراءته، الرغبة العارمة في عدم إلحاق شروخ إضافية بالنسيج الاجتماعي الإسرائيلي، الذي تخلخل كثيرًا "تحت وطأة الانسحاب من غزة، وإخلاء المستوطنات في القطاع وشمال الضفة الغربية". ولذا فمن المتوقع أن تنتهج إسرائيل، في مرحلة ما بعد فك الارتباط، سياسة عامة غايتها أن تمتنع بوضوح عن اتخاذ أية خطوات انفصال إضافية عن الضفة الغربية. وستكون الأعمدة الرئيسية لهذه السياسة هي: استكمال بناء الجدار الأمني، الذي سيستحيل إلى جدار فاصل وإلى خط حدودي غير مباشر. وفي موازاة ذلك تتواصل أعمال الاستيطان في غالبية المناطق الواقعة خلف الجدار.

غير أن من شأن سياسة كهذه أن تترتب عليها في العموم ثلاثة أمور بارزة:

(*) الأول- هذه السياسة ستجرّ، عاجلاً أم آجلاً، إلى تجدّد الكفاح العنيف من جانب الفلسطينيين.
(*) الثاني- ستعيد هذه السياسة إسرائيل إلى مكانتها الدولية المهتزة، التي كانت واستشرت قبل إطلاق خطة فك الارتباط، من قبل رئيس الوزراء أريئيل شارون.
(*) الثالث- يتطلب إتباع هذه السياسة أثمانًا باهظة، سياسية واقتصادية. وهذه الأثمان تتعلق، أساسًا، بتعزيز الاستيطان وضمان أمنه.

وهكذا فإن ما يقوله غازيت، في العمق، أن الأحادية ليست وصفة مضمونة لأي شيء. وهي بكل تأكيد ليست وصفة مضمونة لسهولة الطريق أمام المخططات الإسرائيلية.

وإذا أخذنا "خطة فك الارتباط عن غزة" كنموذج، فإن أكثر ما يسترعي الاهتمام في المقاربة هو اعتراف غازيت بأن نجاحها غير متوقف فقط على خطوات إسرائيل الأحادية الجانب، وإنما هو منوط أساسًا بإنجاز أمرين متصلين، يوجزهما على النحو التالي:

(*) الأول- أن يحمل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع طابع الانسحاب الكامل والتام إلى خطوط 4 حزيران/ يونيو 1967.
(*) الثاني- أن يسفر هذا الانسحاب عن الإنهاء المطلق لسيادة إسرائيل على هذه المناطق.

ومع أن الكاتب يشدّد على أن خطوط الرابع من حزيران من وجهة النظر الإسرائيلية ليست موضع خلاف فيما يختص بقطاع غزة، خلافًا لما هي الحال عليه بالنسبة للضفة الغربية، فإنه لا يمكن في الوقت نفسه، وهذا برأينا نحن، استمرار التنكر لوجود "لاعبين" آخرين في الحلبة- هؤلاء يشكلون أيضًا أطرافًا معنية بأية خطوات مستقبلية، حتى لو جزمنا بأنها ستمضي قدمًا في منحى الأحادية، على ما يؤكد غازيت وغيره من الساسة والمحللين الإسرائيليين.

في محور العلاقات الإسرائيلية- الأميركية تتمثل المقولة المركزية، التي تخرج بها السيناريوهات المنشغلة بهذا الأمر، في أن السياسة الأميركية لن تخضع لتغيير جوهري بعد فك الارتباط، وعليه فستستمر في اتجاهها السائر نحو دفع العملية السياسية بين الطرفين (الفلسطيني والإسرائيلي) على مراحل، دون أن تسقط من الحساب اعتبارات الحرب في العراق وتأثير العلاقة مع أوروبا. ويرجّح القائلون بهذا الأمر بأن تعمل الولايات المتحدة على تطبيق خريطة الطريق وما إلى ذلك.

وتبدو السيناريوهات المطروحة في أعقاب هذه المقولة، من وجهة نظرنا، غير جديدة أو سبق التطرق إليها مرات عديدة. لكن ثمة، بطبيعة الحال، بعض الاستثناءات. من ذلك مثلاً التوقع بأن تكون الإدارة الأميركية أقل تفهمًا وتسامحًا في تعاملها مع موضوع تجميد الاستيطان الإسرائيلي وإزالة البؤر الاستيطانية العشوائية، في حين أنها ستكون أكثر مرونة وسخاءً في التعامل مع مسألة "تفكيك المنظمات الإرهابية الفلسطينية". ولهذين الأمرين المتوازيين، المتناقضين، جملة من الأسباب والمسوغات، التي ترد في المقاربتين الخامسة والسادسة.

بحكم طبيعتها التقديرية والتقريبية والنسبية تطرح السيناريوهات الإسرائيلية المنشورة هنا على القارىء توقعات يظل تحققها منوطًا بوجهة تطوّر الأمور ميدانيًا، وبالتالي فإنها قد تصيب وقد تخطىء. ولا يحتاج القارىء إلى ذكاء خاص لكي يحكم على الأمر، خصوصًا وأن النشر هنا يتم بعد الانتهاء من تنفيذ فك الارتباط ودخول الحلبة السياسية الإسرائيلية دوامة الانتخابات. غير أن هذه السيناريوهات تقدّم، في الوقت ذاته، بعض الرؤى التي يمكن إدراجها في إطار القراءة الإستراتيجية لآفاق النزاع وتطورات الوضع السياسي الإسرائيلي.

من هذه الرؤى لا بدّ أن نشير إلى ما يلي:

(*) أولاً- التوكيد على استحالة الوصول إلى مصالحة حقيقية مع الفلسطينيين، بل وحتى مع العالم العربي، في المستقبل القريب. وعليه فإن وجود إسرائيل في المستقبل المنظور "يتم ضمانه فقط بنفوذ قوتها العسكرية وقدرتها على ردع الفلسطينيين عن القيام بإجراءات عسكرية، وكذلك بقدرتها حسب الحاجة على أن تهزمهم وأن تلحق بهم خلال ذلك خسائر وأضرار فادحة"، على ما يكتب شلومو غازيت.

(*) ثانيًا- في معرض التنائي عن التأثيرات المباشرة لفك الارتباط والخوض في مستقبل الحكم الإسرائيلي وهويته السياسية، ثمة أكثر من رأي يجمع على أنه لن تقوم حكومة بقيادة "اليسار الصهيوني"، أي بقيادة حزب "العمل"، بعد الانتخابات الإسرائيلية المقبلة على الأقل. أما في حالة عدم نجاح شارون في الاحتفاظ بالحكم فإن المتوقع أكثر شيء هو أن تصعد إلى سدّته حكومة أكثر يمينية يحتمل أن تكون بقيادة بنيامين نتنياهو. لكن لن تقوم حكومة في إسرائيل تتبع نهج "إيثار المستوطنات على المفاوضات" السياسية، بغض النظر عن إطارها. وإن هذا الأمر يبدو أكيدًا من ناحية الأميركيين، "وسبق أن كانت لعائلة بوش تجربة في المساعدة على إسقاط رئيس حكومة في إسرائيل على هذه الخلفية"، كما يكتب روني بيرت. ويرد هذا الحكم في سياق عدم استبعاد أن تمارس واشنطن ضغوطًا على شارون في مسألة الاستيطان حتى في غمرة موسم الانتخابات، الذي بدأ في إسرائيل فور انتهاء تنفيذ خطة فك الارتباط في أيلول/سبتمبر 2005.

التعليقات