08/03/2024 - 11:41

لِمَ يحظ عنف إسرائيل بالكثير من الاهتمام الإعلاميّ؟

على الرغم من أحلام اليمين الإسرائيلي، فإن حل «اطردهم، أو اقتلهم جميعًا» (على الأرجح) لم يعد متاحًا. ولكن من الصعب للغاية أيضًا أن نتصور نتيجة جنوب إفريقيا، حيث يقبل الإسرائيليون اليهود بأن يصبحوا أقلية...

لِمَ يحظ عنف إسرائيل بالكثير من الاهتمام الإعلاميّ؟

آثار القصف الإسرائيليّ المتواصل في غزّة (Getty)

يتساءل مؤيدو إسرائيل كثيرًا: لماذا يولي العالم كل هذا القدر من الاهتمام لما يحدث في غزة (والضفة الغربية) مقارنة بفظائع وجرائم أخرى في هذا الكوكب الممتلئ بالحرب والمجاعة والقسوة؟ الجواب الضمني أو الصريح هو أن هذا يجب أن يكون بسبب اللّاسامية.

عاد هذا السؤال بعزمٍ أكبر خلال الهجمات الإسرائيلية السابقة على قِطاع غزة، على سبيل المثال، خلال عملية الرصاص المصبوب (2008–2009)، وعملية عمود السحاب (2012)، وعملية الجرف الصامد (2014)، عندما كانت الخسائر الفلسطينية الآلاف، وليست بعشرات الآلاف. أما الحرب الحالية، أو كما تسمى «عملية السيوف الحديدية»، فهي من أكثر الحروب قتامة التي تحدث حاليًا في كوكب الأرض.

وهذا هو الأمر الأساسي طبعًا، وتقف إسرائيل الآن أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية. والأميركيون لديهم سبب واضح للتركيز على تصرفاتها، خاصة وأن هذه التحركات لا يمكن أن تحدث من دون دعمنا المالي والدبلوماسي. ولكن ما الذي يفسر الاهتمام الشديد من جانب الجميع، ليس فقط في الوقت الحاضر، بل على مدى العقود الماضية والهجمات العسكرية التي سبقتها؟ الإجابة واضحة ومن المهم أن نفهمها: يشعر الناس في مختلف أنحاء العالم بالفزع الشديد إزاء العنف الذي تمارسه إسرائيل؛ لأنه يمثل مظهرًا ورمزًا للاستعمار الأوروبي، وهو الإيديولوجية الأكثر رعبًا وتدميرًا في تاريخ البشرية.

ويصعب على معظم الأميركيين والأوروبيين، وخاصة البيض منهم، أن يستوعبوه، وهذا متوقع. في البداية، خصوصًا وأن كثيراً من وسائل الإعلام الأميركية الرئيسة بذلت جهودًا كبيرة لإنكار أن إسرائيل لها علاقة كبيرة بالاستعمار الأوروبي في المقام الأول. وهذا إنكار غريب للغاية للواقع ويمكن تجاهله. لقد أعلن مؤسسو الصهيونية وإسرائيل، من ثيودور هرتزل، مرورًا بزئيف جابوتنسكي ووصولًا إلى ديفيد بن غوريون، بوضوح أنهم يمارسون الاستعمار الاستيطاني. هذا شكل محدد من أشكال الاستعمار حيث يهاجر المستوطنون إلى منطقة ما، ويحاولون الاستيلاء على الأرض بشكل دائم من ساكنيها الحاليين، مثل حالة الولايات المتحدة الأميركية.

آثار القصف الإسرائيليّ المتواصل في غزّة (Getty)

يعدُّ الاستعمار الأوروبي أهم حقيقة سياسية في مدى الخمسمئة عام الماضية. وصل كريستوفر كولومبوس إلى نصف الكرة الغربي عام 1492. ومع بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914، كانت أوروبا والولايات المتحدة تسيطران على 85% من مساحة اليابسة في العالم. وقد تطلب ذلك ارتكاب فظائع وهمجية في جميع أنحاء الكوكب على نطاق مرعب. واستعبدت إسبانيا ما يصل إلى 8 ملايين من السكان الأصليين، واستعبدت الأفارقة حتى الموت في استخراج الفضة من أحد الجبال بالقرب من مدينة بوتوسي البوليفية. وشنت بلجيكا، التي تبدو اليوم وكأنها أرض صغيرة مسالمة تتكون من راكبي الدراجات الموهوبين، حملة استعمارية قاتلة أدت إلى مقتل ما يربو عن عشرة ملايين إنسان في الكونغو. وفرضت المملكة المتحدة خلال القرن التاسع عشر شروطًا على الهند أدت إلى مقتل ما بين 30 إلى 60 مليون شخص عن طريق المجاعة.

وهذا ليس إلا نزرًا يسيرًا من تاريخ أوروبا العنيف والدموي، والذي كان على الدوام ممزوجًا بمبررات ذاتية مثيرة للضحك. على سبيل المثال، كان الختم الأول لمستعمرة خليج ماساتشوستس يصور هنديًا أميركيًا يتوسل «تعالوا وساعدونا». وصف الكاتب الفرنسي هيلير بيلوك الحقائق الأساسية لغزو أوروبا للعالم من خلال وضعها على لسان شخصية اسمها الدم:

فهم الدم العقل الأصلي.

قال: «يجب أن نكون حازمين ولطيفين».

ووقف على تلة صغيرة،

ألقى عينيه الخاملتين حوله،

وقال بصوت خفيض:

«مهما حدث، لدينا رشّاش مكسيم،

أمَّا هم، فلا رشّاش لهم»

كان رشّاش مكسيم أول مدفع رشاش أوتوماتيكي بالكامل. يتذكر بقية العالم هذه الحقيقة، حتى لو لم يتذكرها أحفاد مرتكبي الجرائم. وكما قال صامويل هنتنغتون، أستاذ العلوم السياسية المحافظ الراحل في جامعة هارفارد، ذات مرة: «لم يتفوّق الغرب على العالم بأفكار أو قيمة أو دينه (التي اعتنقها عدد قليل من أبناء الحضارات الأخرى)، بل بقدرته على ممارسة العنف المنظم، وكثيرًا ما ينسى الغربيون هذه الحقيقة، أم غير الغربيين، فلا ينسونها إطلاقًا».

وعلى الجميع أن يواجهوا هذه الحقيقة، أن حل مسألة إسرائيل مقترن بقدرة الاستعمار الأوروبي على صناعة السلّام مع بقية العالم دون محوه. ولفهم ما يعنيه الاستعمار لبقية العالم، يجب على الأميركيين البيض والأوروبيين أن يأخذوا في الاعتبار أن فاشية القرن العشرين، بما في ذلك الهولوكوست، كانت بالمعنى العميق وليدة الاستعمار. وإذا كنت تحب أن تطالع تاريخك المرعب في صيغة ترفيهية، فيمكنك مشاهدة السلسلة الوثائقية لعام 2021 على شبكة HBO بعنوان «أبيدوا كل الهمج Exterminate All the Brutes».

هذا المنظور ليس نتاجًا لأفكار بعض أساتذة جامعة هارفارد الذين دفعتهم اليقظة إلى الجنون، بل اسألوا أدولف هتلر عنه، إذ قال عشية غزو ألمانيا للاتحاد السوفييتي في عام 1941 لمجموعة صغيرة من رفاقه: «سوف ننزع عنها طابع السهوب الآسيوية، وسنجعلها أوروبية… سوف يستقر مستعمرونا… لدينا مسؤولية واحدة فقط… وهو أن ننظر إلى السكان الأصليين كما نُظِر إلى الهنود الحمر». وقد رحب هتلر بمشاركة الأشخاص البيض بشكل عام، وليس الألمان فقط، وقال: «يمكن لكل أصحاب المشاعر الأوروبية الجياشة، أن ينضموا إلينا». وفي نفس اللحظة في الولايات المتحدة، كان جدي لويس هانكي، وهو مؤرخ الاستعمار الإسباني للأميركتين، يرى أيضًا أن مشروع ألمانيا يمكن مقارنته بالاستعمار الأوروبي، إلا أنه كان يعتقد أن هذه فكرة سيئة. كتب أحد طلابه لاحقًا: «عندما عبّر هتلر عن تطرف العنصرية، وجد هانك مواقف مماثلة في الروايات التاريخية للاستعمار، مما جعله يدرك أوجه التشابه».

وجاءت الحركات الاستعمارية الأوروبية بنكهات مختلفة، وكانت الصهيونية فريدة من نوعها من حيث إن أعضاءها، بعد الحرب العالمية الثانية بالتأكيد، كانوا يفرون ليس فقط من الاضطهاد، بل وأيضًا من الإبادة. ومع ذلك، فقد كان ذلك ضرورة نفسية تخللتها العنصرية الإيديولوجية الاستعمارية المعيارية. وكان رودولف سونيبورن، وهو أميركي سيحقق ثروة من تجارة النفط، سكرتيرًا للجنة الصهيونية في فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى. وقد ذكر أن «إن العربي العادي أدنى شأنًا حتى من الزنجي العادي... أعتقد أن هناك القليل مما يمكن أن نخشاه منهم. علاوة على ذلك، فهم جنس جبان».

وكان هذا صحيحًا أيضًا بالنسبة للصهاينة المسيحيين. تبنى جورج بيدل، صديق فرانكلين روزفلت وسليل المستوطنين الأصليين على سفينة ماي فلاور، وجهة النظر هذه في مقال نشر في مجلة ذي أتلانتيك بعد زيارته لإسرائيل بعد وقت قصير من تأسيسها عام 1948. كان بيدل بالمقام الأول متحمسًا حول الكيفية التي ستخدم بها إسرائيل المصالح الغربية. ثم أوضح أن العرب «كريهون، مريضون، ذوو رائحة كريهة، متعفنون، ملوثون بالآفات والفساد». ولحسن الحظ، فإنهم «كانوا لا يقلون خطورة عن العديد من هنود أميركا الشمالية في الحرب الآلية الحديثة».

إن حقيقة أن يهود أوروبا كانوا أكبر ضحايا العنصرية التي كانت مركزية في هذه النظرة العالمية، والتي تبنتها الصهيونية (بشكل أقل شراسة)، هي واحدة من أكثر التقلبات غرابة في تاريخ البشرية.

في كل الأحوال، لابد وأن يوضح عهد القرصنة والموت الجماعي الذي دام قرونًا من الزمن في أوروبا لماذا ينظر الناس في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الأماكن النائية والمذهلة مثل كوريا الجنوبية وبيرو، إلى التصرفات الإسرائيلية في غزة باهتمام خاص. وليس من قبيل الصدفة أن قضية الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية في لاهاي رفعتها جنوب إفريقيا بمشاركة محامين إيرلنديين.

ولكن ماذا يحدث الآن؟ لا أحد يعرف.

يعد تأسيس إسرائيل، إلى حد ما، مبكراً للغاية ومتأخرٌ للغاية في الوقت نفسه. فلو أنها أُسّست في وقت سابق، لكان من الممكن أن ترتكب مذبحة ضد السكان العرب بالكامل، تمامًا كما قتلت الولايات المتحدة معظم الأميركيين الأصليين، وكما قضت أستراليا على أرقام مهولة من السكان الأصليين في البلاد. وحينها لن يبقى أي فلسطيني ليقلق العالم بشأنه. ومن ناحية أخرى، لو حدث ذلك لاحقًا، لكان من الممكن أن يعتقد الصهاينة أنه يجب عليهم توحيد قواهم مع حركات إنهاء الاستعمار في جميع أنحاء الشرق الأوسط والعالم في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. ولكن وفي عالمنا، فقد تواصل قوميُّ عربي مع بن غوريون حول قتال القوات الاستعمارية البريطانية معًا عندما كانت فلسطين ما تزال تحت الانتداب البريطاني، وأبلغ بن غوريون البريطانيين بذلك.

دبّابة إسرائيليّة في قطاع غزّة (Getty)

على أية حال، وعلى الرغم من أحلام اليمين الإسرائيلي، فإن حل «اطردهم، أو اقتلهم جميعًا» (على الأرجح) لم يعد متاحًا. ولكن من الصعب للغاية أيضًا أن نتصور نتيجة جنوب إفريقيا، حيث يقبل الإسرائيليون اليهود بأن يصبحوا أقلية في دولة فلسطين ذات الشخص الواحد والصوت الواحد.

ومن ناحية أخرى، تتخيل بعض أجزاء العالم العربي تشبيهًا بالجزائر، حيث يعود المستعمرون (بعد إراقة دماء هائلة) إلى حيث أتوا. وقد ادعى حسن نصر الله، زعيم حزب الله، مؤخرًا أن كل يهودي إسرائيلي «يحمل جنسية ثانية وحقيبته جاهزة». وهذا أمر خاطئ في الواقع وأحمق للغاية. لن يذهب الإسرائيليون إلى أي مكان، مثلهم مثل الأميركيين أو الأستراليين.

وهذا يجعل الحل الوحيد المتاح أمامنا هو حل الدولتين، واحدة إسرائيلية والأخرى فلسطينية. والمشكلة هنا هي أن الحكومة الإسرائيلية، مع استثناءات نادرة، لم تكن مستعدة قط لقبول ذلك. وقد كرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هذا الموقف للتو هذا الأسبوع. ولكن إذا أظهرت هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول أي شيء، فهو أنه سيكون من الصعب على إسرائيل أن تستمر ببساطة في مسارها الحالي. إذا لم تنته الوحشية في غزة بمستقبل مليء بالأمل للفلسطينيين، فسوف يكون هناك عاجلًا أو آجلًا المزيد من أحداث المشابهة للسابع من أكتوبر، التي يقوم بها الفلسطينيون أو غيرهم، على نطاق أوسع. وسيكون الانتقام الإسرائيلي أعظم. وبالتالي فإن البلاد في طريقها إلى تدميرها، إلى جانب تدمير جزء كبير من بقية العالم. ونظرًا للزخم الذي خلفه الاستعمار الأوروبي، فإن هذا أمر لا مفر منه، وبالتالي فإن الكثير منا محكوم عليهم بالهلاك.

التاريخ ليس محتوما. ولا يزال من الممكن أن نتصور مستقبلًا تتصالح فيه النسخة الإسرائيلية من الاستعمار الأوروبي مع نفسها، وتتعايش مع بقية البشرية. وهذا بدوره يمكن أن يمهد الطريق نحو مصالحات أخرى تشتد الحاجة إليها في جميع أنحاء العالم. مثل هذا المستقبل لن يجعل أي طرف سعيدا. على العكس تماما. لكنه أفضل بكثير من البديل. وكما أوضح الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز ذات مرة:

«يمكن حل المآسي بإحدى طريقتين: الحل الشكسبيري والحل التشيخوفي. في نهاية كل مأساة شكسبيرية، يمتلئ المسرح بالجثث، وربما تحقق بعض العدالة معنويًا. من ناحية أخرى، تنتهي المأساة التشيخوفية بشعور الجميع بخيبة الأمل، والمرارة، والحزن، والتحطم التام، ولكن تكون الشخصيات على قيد الحياة. وأنا أريد حلًا تشيخوفيًا، وليس شكسبيريًا، للمأساة الإسرائيلية الفلسطينية».

التعليقات