لو كنتُ يهوديًا/ مصطفى عبد الرازق

-

لو كنتُ يهوديًا/ مصطفى عبد الرازق
مؤلف هذا الكتاب هو الكاتب الفلسطيني نصري الصايغ، الذي أثرى المكتبة العربية من قبل بالعديد من الكتب، منها: «الطائفية على ضوء تاريخها ونتائجها” و”حواش على القيود” و”الخراب ـ يوميات شاعر في بيروت”، وأخيرًا كتابه «بولينغ في بغداد".

ويقدم الصايغ من خلال كتابه «لو كنت يهوديا” تجربة جديدة يحاول من خلالها أن يعيش مع اليهودي هواجسه ويعاين جراحه، ليتلمس يأسه ويفهم أسئلته الوجوديه ليقنع بقلقه ويفتش له عن مخرج. وبحسب كلمات المؤلف: إنه يريد من خلال هذه الحالة أن يعرف إن كانت مأساته حقيقية، وأن يقرأ الاسئلة التي طرحتها عليه الانتفاضة الثانية، وأن يحدثه عن الرغبة في السلام والقتل معا، عن الدافع الى الاستيطان، وعن العجز عن التقدم خطوة نحو المصالحة مع الذات والعالم. إنه يريد أن يتعرف اليه إنسانا ولماذا هو مختلف واختلافه ميزته وأزمته.

وقبل أن يبحر في غمار موضوعه ينتبه الصايغ ليدرك أن عذاب اليهودي من صناعة لا سامية عنصرية أوروبية، بينما عذابات الفلسطيني من تأليف اليهودي في إسرائيل وفي الشتات، فكيف يكونون مع المظلومين في العالم ويؤيدون الظالمين في اسرائيل، بل وينتسبون اليهم ويتبنون ظلمهم ولو استطاعوا لقتلوا أكثر- ويسمون ذلك حضارة في مواجهة البربرية؟

وفي سياق عملية الإنتقال يبدي الصايغ دهشته لهذه الكوكبة الفكرية التي راحت تتبنى مبادئ إنسانية عالمية سامية وتدافع عن الضعفاء والمظلومين والمستعبدين والمحتلين، وتقف دائما ضد الظلم والطغيان والديكتاتورية والاستعمار والاستبداد والاستلاب. وعندما تصل الى اسرائيل تضع إشارات عسكرية وتتحول الى جنرالات وتصير كلماتهم رصاصا وجملها جحافل، كأنها ولدت للتو من الترسانة العسكرية!

فيوجين يونسكو ليس متعاطفا مع إسرائيل بل إنه يقطر تعصبا لها، ومقتا للفلسطيني والعربي، وسارتر يقبل دكتوراه فخرية من جامعة إسرائيلية، فيما يرفض جائزة نوبل للآداب! أما بورخيس فقد راح يقدم قصائد وأناشيد حماسية تبرع بها للجيش الإسرائيلي في حروبه العدوانية ضد العرب والفلسطينيين، وعلى هذا ينتهي المؤلف الى عدم تبرئة هذه النخبة؛ فهي ليست محايدة بل متورطة بتبني عقيدة أفضت الى تنصيب شعب في أرض عاش فيها شعب آخر، عقيدة يقتضي نجاحها أن تقوم بطرد السكان الأصليين ظلما ومصادرة أراضيهم ومنع عودتهم وتشريدهم على مدى نصف قرن ونيف.

يشير الصايغ الى أنه لكي يحقق هدفه في أن يصير يهوديا فقد كان عليه أن يتجرد من المشاعر والإنفعالات والحماسة والغضب والأحزان.. كان عليه أن يتخلي عن التطلع عميقا في الجرح الممتد من أول المستوطنات الى اغتيال جنين ورفح ومحاصرة المدن والبلدان الفلسطينية، الى أخر تلك المشاهد التي من الصعب على المرء أن يكون محايدا تجاهها. وفي ولوجه الى "يهوديته" استبعد تحقيق ذلك عن طريق الدين ومن هنا كان دخوله من السياسة، باعتبار أن صراعه ليس مع دين اليهود ولا مع أية حضارة، وإنما صراعه حول حقوق ونقطة دم على السطر.

في بداية رحلته إن صح التعبير راح يطرح على نفسه أسئلة اليهودي على شاكلة: متى ينتهي هذا الصراع؟ وكيف يمكن أن ينتهى؟ وفي إجابته حاول أن يكون أمينا دقيقا. لقد حاول أنسنة السياسة. وفي هذا الصدد يقرر أن اليهودي يشك في أن يكون لأسئلته أجوبة. فهو لا يعرف اذا كانت اسرائيل ستبقى يهودية؟ ولا يعرف اذا كانت اسرائيل كيفما كانت ستبقى، ولا يعرف اذا ما كان السلام ممكنا وما الثمن؟ وكيف ستكون علاقته بالفلسطيني وبأرضه وبالشعوب العربية الأخرى؟ إنه كائن معلق، يؤمن بالعنف خبزه كفاف يومه.. وليس كفافه مصيره، ودون أن نستبق النتائج نشير الى أن الصايغ الذي ذهب يهوديا بإرادته عاد الى الفلسطيني أكثر وثوقا.. وبحسبه فإنك عندما تتعرف على مآزقك الكثيرة تتنبه الى أنك على أرض صلبة فيما أفكار الأرض والدولة والمجتمع والبقاء تميد تحت إيقاع الحدث الفلسطيني.

في القسم الأول والذي يأتي تحت عنوان "القبور المتبادلة" تصيبك مع المؤلف الدهشة من كيفية تحول أرض الوعد الى أرض القبر؟ ويأخذك الصايغ في رحلة تأملية يحاول من خلالها أن يفسر لك لماذا أصبح اليهودي يحمل هناك قبره في جسده؟ فاليهودي كان قد وعد بوطن يعيش فيه كيهودي ولكن اذا الأمر ينتهي به الى أن يصبح في وطن يكون هو فيه وليمة للموت.

لقد أصبحت اسرائيل دولة الخائفين على مصيرهم ووجودهم فيما هي تخيف الآخرين كثيرا. إن الصايغ يحاول أن ينقل لنا بدقة أحاسيس اليهودي الذي أصبح يخشى أن يستيقظ فيجد جسده مبعثرًا من شباك حافلة محترقة معدنها ممزق كورقة ممسوسة. وينقل لنا الصايغ بعبارات بليغة مشاعر وأحاسيس اليهودي الذي كانه فيقول: "لا أرغب أبدا في أن أتبعثر في ملاءات تحمل الى مستشفى مختص بإلباس الجثث العلم الإسرائيلي الفضفاض، إننى مستعد لأن أبيعكم أشيائي الجميلة كلها، مقابل أن أموت كما يجب أن أموت: بعد اكتمال الثمانين... وأن يصلني الموت كقبلة أصيبت بإغماءة الشفتين"؛ إنه يريد الموت جميلا أنيقا فاخرا ولائقا ولا يريد أن يقتله البرابرة الأن أو بعد قليل! يتساءل اليهودي الذي يتلبس الصايغ:

"متى يحل السلام؟ متى أشرب القهوة المرة على الرصيف بلذة ونهم؟ وأتحول الى سائح أجول في بلادي من الجليل الى النقب؟ متى أشعر بأن الذي جئت من أجله قد تحقق وأنّ جسدي ليس مباحا لأنه يهودي.. يا إلهي"! متسائلا: من أباح هذه البلاد النبوية للدم القاتم؟

إن يهودي الصايغ يسيطر عليه الخوف من رؤية كازانتزاكي التي يذهب فيها الى أن: "الشتات هو وطنكم لا جدوى من الهرب من قدركم والبحث عن السعادة والأمن في هذا البلد الثاني. آمل لأنني أحب اليهود، أن يتمكن الرب، عاجلا أم آجلا، من طردكم من هنا وأن يعيدوا تشتيتكم في العالم"، فهل هذا هو مصير اليهودي؟

إما أن يعيش في ذل الشتات أو يجتمع في غيتو كبير محصن بالجدران الأسمنتية والسماء العابس والحدود الشائكة والكراهية المتوارثة كي يعيش حياة مهددة بالموت؟ إن يهودي الصايغ في حيرة من أمره حتى أصبح يتساءل عما اذا كان عليه أن يقبل بما قاله البعض ـهنريش هاسينـ عن اليهود من أنه "ليس فألا حسنا أن تولد يهوديا ولكن ألا تكون يهوديا، أي أن تتخلى عن يهوديتك، فهو من أعظم الشرور" ولا علاج له؟ لقد أصبح اليهودي لا يعرف.

إنه يشعر أنه في قاع الضياع، لم يعد يدرك شيئا، لا يهمه اليمين أو اليسار والوسط ومدعي السلام؛ إنه لا يطلب سوى المساعدة- فهو أمام مشكلة أخلاقية، أمام سيزيف يتقمص اليهودي في طوافه العالمي وفي ملجئه الإسرائيلي، ويصل في حيرته الى حد التساؤل عن عدم جدوى اتباع نصيحة سبينوزا عندما بشر بفضيلة الذوبان والتفاعل مع الآخرين؟ فليس مطلوبا ألا تكون يهوديا، بل أن تعيش يهوديتك بينك وبين ربك بطريقة فريدة بفرادتها وفرديتها!

ورغم ما يراه يهودي الصايغ من أنه قد يكون في هذه النظرة فقدان وزوال الشعب اليهودي إلا أنه يذهب الى أنها في الوقت ذاته ربما كانت تمثل بالنسبة له الخلاص. فقد جاء اليهود بمهمة نجاح ووظيفة مثالية وإنسانية وها هم بنوا دولة مسلحة حتى أسنانها وأخمص قدمها، وها هم عاجزون عن استعمال ترسانتهم ويخشون عالما ذريًا يدعى فعنونو لأنه كشف أسرارهم المعلنة والمعروفة والمتداولة؛ فاليهود أقوياء وخائفون! يحبون الحياة ويقتلون(بضم الياء) مثاليون ويقتلون (بفتح الياء)، فماذا بقي منهم ومن أحلامهم ومن مشروعهم الإنساني الكبير؟

ورغم ما يبدو له من عبث، يُصرّ اليهودي الذي كأنه الصايغ على أن يستمع الى شهادات السياسيين عله يصل الى بصيص أمل يخرجه من مأزقه، من محدودية الاختيار بين حياة مستحيلة وحياة معدومة، علّه يجد بصيص أمل في مكان ما. في عروجه على أفرهام بورج يصدمه اعترافه هو الآخر بالفشل، وإذا به يقول: كان من المفترض أن نكون ضوءًا يشعّ على أمم العالم، لقد فشلنا في ذلك. لقد تبين أنّ صراع البقاء الذي خاضه اليهود خاصة طوال ألفي عام لم يثمر سوى دولة مستوطنات تديرها مجموعة لا اخلاقية من منتهكي القانون الفاسدين الذين يصمون آذانهم عن أصوات شعبهم وأعدائهم على السواء.

إن دولة تفتقر الى العدالة عاجزة عن الاستمرار، "وبعد رحلة شعر خلالها بالتعب من تجواله مع ساسة إسرائيل ومفكري النخبة اليهودية يقرر "اليهودي" أن يدرس كيف سقطت غرناطة العرب فهجروها -العرب واليهود- معًا، مقررا أنه سيقرأ كيف اندحر الصليبيون حملة حملة وعادوا. فاليهود لن يقووا على المقاومة الى الأبد، ولن يُوفقوا في طرد الفلسطيني، ولن يصدق العالم أنهم ضحية كانوا وضحية سيصيرون، إنه يطلب السماح، فسيذهب الى ملاقاة أصدقاء له مارس معهم القتال ذات يوم قتالا مريرا دفاعا عن بقاء إسرائيل ليقول لهم: لقد خسرنا كل شيء، يوم كنا ننتصر دائما. إن الأمر يستلزم إعادة انتماء اليهود الى العالم، كل العالم، وهذا الكوكب يتسع للجميع وفلسطين لا تتسع إلا.. وهنا استعاد "يهودي الصايغ" اسمه وجسده وعقله وقرر أن يصير مواطنا بلا حدود -بالمخيلة على الأقل- خير من التشبث بالجحيم.

ولكن الصايغ بعد كل هذه الرحلة يدرك أنه فلسطيني، فيحدثنا في القسم الثاني انه كان يجب أن يولد في فلسطين ولكن ولد في مخيم اليرموك أو في خيام اللجوء في لبنان. لقد حدث ذلك لأن يهودَ جاءوا من خلف البحار وحذفوا الفلسطينيين من المكان وأقاموا فيه ومنعوهم عنه، لقد كانت طفولته متلعثمة، فكان يطلب منه أن يقوم بأعمال جدية فيما كان بوده أن يجد لعبة للتسلية. لقد كان يحب أن يعيش بشكل طبيعى لا حياة تستقر فيها الأحزان وتتوارث كأنها واجب مقدس وهدية ثمينة؟ لقد قيل لهم أن يلجأوا الى المحافل الدولية ففعلوا وحصلوا على حقائب كبيرة من القرارات المؤيدة لقضيتهم.

لقد حصلوا على حبر من ورق، بما لا طاقة لهم على قراءته ومع ذلك صدئ الحبر وبلى الورق وما زالوا يتصيدون القرارات التي لا تنفذ، لقد نصحوا بالتخلي عن البندقية والتفاوض مع الإسرائيلي ففعلوا وحصلوا على خدعة أوسلو التي اغتالتها اسرائيل! قيل لهم اذهبوا الى "واي ريفر" و"كامب ديفيد" و"طابا" فذهبوا وحصلوا على كارثة الاستيطان والجدار وورقة الطريق ومحاصرة الضفة والقطاع وإعادة احتلالها لعشرات المرات وتدمير رفح وجنين و.. و .. و مرارا وتكرارًا!

لقد تم تحريضهم على أن يغيروا قياداتهم وأن يتغيروا كشعب ويكاد أن يطلب منهم أن يصبحوا إسرائيليين فكرا وروحًا!

ولكن الصايغ لاقتناعه بمنطق دافيد بن غوريون الذي يقول فيه حرفيا: "لو كنت عربيا ذا وعي قومي وسياسي لقمت ضد هجرة من شأنها أن تسلم البلد وأهله أجمعين الى الحكم اليهودي"، يؤكد على أنه بما أنه فلسطيني جدًا وقومي جدًا وسياسي جدًا وواع جدًا فإنه سيقاوم، ولكن إلى متى؟

هنا يقرر أنه سيعتمد منطق جابوتنسكي المتمثل في تأكيده على: "إن الصراع على فلسطين تحسمه القوة للأقوى، فلا استيطان ولا دولة من دون قوة حديدية وستار حديدي"؛ فالقوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي أو إنكاره، معترفا أنه لا يملك من القوة إلا موته، غير آبه بذلك. فموته يخيف عدوه أكثر من حياته وحريته تقيم على قارعة موته، وعلى هذا يبشر الأعداء أو ينذرهم بأنه بكل فرح ذاهب الى حريته وسأتي بها.


"لو كنت يهوديًا"؛ نصري الصايغ؛ الناشر: رياض الريس للكتب والنشر؛ بيروت 2004؛ الصفحات: 280 صفحة من القطع المتوسط.

التعليقات