العلاقة بين العبثية والابداع

-

العلاقة بين العبثية والابداع
قبل أكثر من ست سنوات قرأت رواية الروائي الالماني النمساوي الحائز على جائزة نوبل "هيرمان هيسه" المسمّاة "كنولب"، باللغة العربية مترجمة بواسطة دائرة الشؤون الثقافية، طيبة الذكر. و"كنولب" هو اسم الشخصية المحورية في الرواية التي تحمل اسمه، و تقوم الرواية بتصوير نمط حياته وطبيعة شخصيته وفرادتها، كما انها تتعقب رحلاته "العبثية"، (سنرى لاحقا فيما إذا كان حصر هذه الكلمة بين قويسات ذا دلالة) حتى رحيله الى العالم الآخر، بعد أن يتقدم به السن، ويمرض ويفقد رغبته في الحياة. وفي رحلته في جنوب البلاد (المانيا) يلتقي كنولب بأصدقائه وزملاء دراسته في مدرسة اللغة اللاتينية والذين سنلاحظ انهم يعيشون حياةً (طبيعية)، فجميعهم له مهنة تدر عليه هذا القدر أو ذاك من الدخل، وهم متزوجون وقد كوّنوا أسرا ويتمتعون(بنعمة) الاستقرار، أي النقيض المباشر لشخصية (كنولب) العابث الجوّال، والذي رغم ذلك كانوا جميعا يستضيفونه أو يقدمون له المساعدة عن طيب خاطر.


* * * *

في أواخر العام 2000 غادرت العراق لكي أقيم في المانيا حاملا معي افكارا غير قليلة عن الفن التشكيلي والادب الالماني، وفي مطلع العام 2001 أي بعد ذلك بشهور قليلة أنتقلت الى العاصمة الالمانية برلين لكي أقيم أولا في بيت جماعي يسكن فيه آخرون، مصورة فوتوغرافية معروفة ومخرج سينمائي شاب من النمسا، وجدت فيما بعد انه هو حفيد الكاتب "هيرمان هيسه". كان البيت الذي نسكن فيه قد أصبح ما يشبه النادي الثقافي، ففيه كان يُستضاف فنانون شباب من العديد من الدول الاوربية عندما يقومون بزيارة برلين، يقيمون فيه وينامون ويأكلون ويتناقشون، وكانت تعرض فيه، في بعض الاحيان، أفلام تجريبية لغرض التقييم والنقاش والنقد، وتزار العديد من المعارض، وتناقش منتجات الادب الالماني والاوربي، واحيانا، بالطبع، اعمال هيرمان هسه كواحد من أبرز ممثلي الادب الالماني، لكن لا حفيد هيرمان هسه و لا الآخرون كانوا قد سمعوا برواية (كنولب) على الرغم من أن الكثير منهم قد قرأ العديد من اعمال هذا الكاتب، مثل (سدهارتا) و(لعبة الكرات الزجاجية) ، حتى راودني الشك في اني ربما أكون مخطئا، ربما تكون الرواية قد كتبت من قبل روائي آخر، وإن ذاكرتي قد خانتني فعلا.

* * *
(كوت بوسر تور) احدى أشهر مناطق برلين والتابعة لـمقاطعة (كرويتس بيرغ) الشهيرة، وهي محط رحال الفنانين والأدباء والطلبة والعبثيين والمتصعلكين، ويسكنها العديد من غير الالمان، هناك حيث الشوارع مزروعة بالعشرات من المطاعم الصغيرة والكبيرة من كل صنف ولون وجنسية، تقع احدى المكتبات الكثيرة العائدة للدولة والمسماة على اسم الثوري الالماني الشهير (كارل ليبكنخت) والذي قاد مع زميلته روزا لوكسمبورغ ثورة 1918. الى هذه المكتبة كنت أختلف حيث أقرأ العديد من الكتب والصحف العربية.

في أحدى هذه الزيارات سألت في المكتبة عن رواية إسمها (كنولب) قالت أمينة المكتبة إنها، أي الرواية، قيد الاستعارة الخارجية . " ـ ولكنها موجودة ! أي أن هناك فعلا رواية لـ (هيرمان هيسه) اسمها كنولب ؟ ". " بالطبع " قالت أمينة المكتبة، " عُد بعد أيام وستجدها " !
كنت دائما نافذ الصبر إزاء الصبر والتروي الالماني ذائع الصيت، فالاستعارة الخارجية قد تدوم 30 يوما قابلة للتمديد اسبوعين آخرين.

* * * *
ترسم كاتيا برنكمان بطريقة تثير إعجابي وتستخدم برامج الكومبيوتر بطريقة خلاقة لانتاج لوحات ذات توازنات مدهشة وهي، إضافة الى كونها رسامة جيدة، مثقفة ثقافة جيدة ومطلعة على الادب الالماني، مما يكاد يكون امرا نادر في أوربا بلد التخصص الضيق الذي لايترك مجالا كبيرا للمزيد من الاطلاع خارج التخصص،، حين رويت لها القصة وكيف أن عليّ أن اصبر طويلا انتظارا لاعادة الكتاب لكي أقوم باستعارته ، قالت بانني لست بحاجة الى الصبر أوالذهاب الى المكتبة لان الرواية موجودة لديها، وانها ستجلبها لي في اليوم التالي، وفي اليوم التالي كانت الرواية بين يديّ مع ملاحظة قالتها : ما الذي أعجبك في هذه الرواية ؟ لقد قرأتها ولم تثر إعجابي. هذا ما قالته كاتيا.

وهكذا وجدت نفسي امام الوضع التالي : ان الاغلبية من الجيل الجديد الالماني حتى من المطلعين على أعمال هسه لايعرفون (كنولب) وان القلة التي قرأت الرواية غير معجبة بها ! فما الذي يجعل اذن الذهنية الالمانية غير معجبة بـ (كنولب) أو جاهلة بوجوده ؟ أكملت قراءة الرواية للمرة الثالثة باللغة الاصلية، ووصلت الى ما اعتبرته سببا.

* * * *

كانت رحلة الشخصية الرئيسية كنولب التي تغطيها الرواية، والتي استعرضنا جزءا منها فيما سبق، عبر المكان، مزروعة بلقاءات مع أصدقاء وزملاء تفرقت بهم السبل، وتوزعوا على خارطة المكان، وكان مصائرهم المعروضة في الرواية بمثابة محاولة لابراز مصير الشخصية المحورية (كنولب) من حيث أن هذه الشخصيات، رغم انها في الغالب، تشترك معه في نقطة الانطلاق، في مدرسة اللغة اللاتينية، قد آل بها الحال الى مصائر لم يكن بوسعه هو ان يحظى بها، أو من الادق لم يكن ليرضى بها، بما جعل هذه الشخصيات النقيض المباشر له، هنا كان "هيسه" يسعى الى ابراز مفهوم أو فلسفة كنولب في الحياة من خلال التناقض والتعارض مع فلسفة وطرائق حياة الآخرين من زملائه ورفاق دربه الطويل، والذين ينسجمون بسلوكهم وطرائق حياتهم مع طرائق تفكير وسلوك الاغلبية الساحقة من الناس.

فمن خلال لقائه الاول مع الدباغ (روثفوس)، نجد أن (روثفوس) هذا يسكن بيتا يقع فوق الورشة التي يمارس عمله فيها، وانه متزوج من امرأة جميلة، وهو يجهد بان يطور عمله، وحين يلتقي زميل دراسته الدكتور (ماخولد) نجد ان هذا الاخيرقد أصبح، إضافة الى كونه طبيبا ناجحا، صاحبَ مزرعةٍ وخيول و ذا مهنة ومركز اجتماعي وهذا ما يمكن أن يقال عن قس المدينة وقاطع احجار البناء...الخ . وهؤلاء إستطاعوا، كما تقول العبارة المستهلكة جدا، أن يشقوا طريقهم في الحياة، تلك الحياة الرتيبة التي ستكون لدى الكثيرين من أمثال كنولب ليست بأفضل من الموت.

لم يكن التشرد الذي آثره كنولب على حياة الاستقرار الاثيرة لدى أصدقائه سابقي الذكر، ليؤثر على ما يعتبره موقفا مبدأيا وأخلاقيا، فقد تملص بأدب من مغازلة زوجة صديقه الدباغ، والمعجبة بأناقته ونبله، وفاءا للصداقة، ولكنه لم يتردد في مغازلة الآنسة (باربارا فلِك) الخادمة التي تعمل في البيت المقابل والتي تشعر بالغربة، بعد أن غادرت عائلتها ومدينتها لكي تجد لها عملا، كما انها لم تتعارض مع إصراره على البقاء أنيقا وحليقا، وحريصا على سلوكه الرفيع والمؤدب، لقد أراد هيرمان هيسة بهذا ان يقول ان الميول الى الصعلكة والميول العبثية ليست ذات صلة بالانحطاط الخلقي والافتقار الى القيم، كما انها لاتتعارض مع السلوك النبيل وقواعد الادب كما يميل التقييم المبتذل الى تصويرها. انها موقف من الحياة وطريقة من طرائقها.

* * * *

منذ القرن التاسع عشر وحتى اواسط القرن العشرين بل وربما حتى نهايته ازدهرت الحياة الفكرية، والفن التشكيلي في فرنسا، وكان نشوء المدرسة الانطباعية هناك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الحدث الاكثر أهمية في تاريخ الفن التشكيلي العالمي، كانت مقدماته كامنة في المدارس الفنية السابقة لها الرومانسية، الكلاسيكية الجديدة، ومدرسة الباربيزون... الخ، وكانت موازية لنشوء العديد من مدارس الادب والفلسفة والتي ازدهرت بدورها في هذه الحقبة. اما نتائجها اللاحقة فانها اسست لفن القرن اللاحق، القرن العشرين. وقد حاول الكثير من النقاد ومؤرخو الفن متابعة وكشف اسرار هذه الظاهرة بالجواب على السؤال التالي : لماذا ازدهر الفن التشكيلي والحياة الفكرية عموما في فرنسا في هذه الحقبة، ولماذا انتقل مركز الريادة الفنية من ايطاليا واسبانيا الى فرنسا؟

ولقد وجد العديد من نقاد الفن ان الجواب يكمن في طبيعة المجتمع الفرنسي آنذاك، والذي يوفر امكانية للعيش على هامش المجتمع دون الانخراط بالعملية الانتاجية للعديد من الناس الذين يستطيعون مع ذلك ان يستمروا على قيد الحياة. ان هذه الامكانية، والتي ليس من مهمة هذا الموضوع التصدي الى مسبباتها الاجتماعية والاقتصادية، تساعد على إنعاش الحياة الثقافية والفكرية، ان ذلك لايعني، بطبيعة الحال، ان كل الهامشيين والمشردين هم من الفنانين والمبدعين، ولكن هذا النمط من الحياة يخلق امكانية نشوء العديد من العاملين في المجال الابداعي والفني. فقد عاش فان كوخ وأبدع في ومضة عمره القصير المتألق على حافة الفقر والجوع وعلى المساعدات التي كان يقدمها له اخوه ثيو، وكان يكرس جل المبلغ المرسل اليه لشراء أنابيب الزيت بدلا من إشباع بطنه، وترك غوغان عمله المربح في العقار لكي يعيش حياة تشرد كرسها للرسم في جزر هاواي القصية، وكانت حياة رامبو الجوال ليست بأفضل حالا. ولكن من الثابت أن حياة هولاء الناس كانت اكثر مغزى من حيوات الالوف من الذين عاشوا حياة دعة واستقرار دون ان يتركوا أي أثر يذكر. وقد اصبحت باريس محط رحال الفنانين من مختلف دول العالم، ذلك انهم كانوا يرون ان فرص نجاحهم لا يمكن أن تتحقق الا ضمن المناخ الابداعي الباريسي.

ان هذه الشريحة الاجتماعية، اذا جازت هذه التسمية، كانت وستكون موجودة في كل المجتمعات ولكن درجة إتساعها وفاعليتها، والاهم الموقف الجمعي منها، مرتبط بعوامل كثيرة. انها مرتبطة بدرجة الرفاه الاقتصادي والموارد التي يتلقاها المجتمع والتي تسمح بشكل من أشكال إعادة توزيع الدخل لأناس ليس لديهم علاقة مباشرة بعملية الانتاج و لايمارسون أي عمل، فقد إزدهرت هذه (الطبقة) بشكل خاص في زمن العباسيين وفي المركز ـ بغداد ـ على وجه الخصوص نتيجة الموارد الهائلة القادمة من الاطراف نحو المركز، متمثلة فيما يسمى بـ (الطفيليين) وهذه التسمية التي تثير الاعجاب هي من الدقة فيما ليس له مقابل في اللغات الاوربية. وكان من ضمن الاسماء الشهيرة لممثلي هذه المجموعة (أشعب) الذي ضربت بظرفه وعبثيته الامثال حين كان ورفاقه يتسقطون أخبار الولائم والاعراس، وكانت الطُرف التي تروى عنهم تعكس فلسفةً وجنساً أدبياً مميزا يعتمد الطرفة والعبثية.

وفي أوربا جسدت رواية الكاتب كولن ولسون (ضياع في سوهو) صورة متخيلة ولكنها واقعية الى أقصى حد ممكن، لمجاميع من الفنانين والكتاب الذي يؤسسون لـ (مستعمرة) ويقومون بالسكن في بيت كبير مهجور بعد أن يقوموا باصلاحه ، مما يشكل لدى الكثير من الفنانين الذين يشتكون في الوقت الحالي من انحسار هذا الهامش، حلما وفردوسا متخيلا، ولكن ما كتبه كولن ولسون كان شكلا روائيا لما فكر به فان كوخ وزملاء له في تللك الحقبة من تأسيس كومونات للفنانين في الوقت الذي كانت أفكارالاشتراكية ا لوليدة وتجربة (كومونة باريس) طرية في الاذهان .

* * * *

يحظى النموذج الهامشي المتطفل، كـ (اشعب) و (كنولب) بتعاطف أوساط من الناس (الطبعيين) أو الذين يحظون بحياة إجتماعية مستقرة، كتعبير لديهم عن ميل كامن للتطفل والصعلكة غيرقابل للتحقيق، يُنظر اليه باعتباره شكلا من أشكال الحرية، بعيدة المنال وباهظة الثمن، هذا ما يجعل هذه النماذج الاجتماعية قادرة في كل الاحوال على الاستمرار في الوجود، ولكن التطورات الاخيرة في المجتمعات الصناعية في أوربا والتنافس وهيمنة المؤسسات العولمية العملاقة قد أدى الى شحد وتوتير كل القوى من أجل الاحتفاظ بالمواقع المتحققة، وفي المانيا، حيث العمل يكاد يكون المصدر الوحيد للثروة الاجتماعية، يشكل الموقف من العمل موقفا أخلاقيا، لقد أدى هذا الى تقليص حيز الاوساط الاجتماعية الهامشية الطوعية، وترتب تبعا لذلك موقف فكري حازم من غير الراغبين بالعمل ولقد تقلصت الى أقصى الحدود فرص أمثال (كنولب) وغوغان وفان كوخ .

أن التوتر الاجتماعي واستنفار كل القوى من أجل العمل، ونبذ الهامشيين، قد تحول الى قيمة أخلاقية، ويتستر العاطلون عن العمل، ويتظاهرون أو يدعون بانهم يمارسون عملا، وتتفاقم أزمتهم الذاتية مما يجعلهم غير قادرين على العودة الى سوق العمل مرة أخرى، بالرغم من أن وجود هامش من العاطلين، يقوم بتغذية سوق العمل بالعمالة هو لازمة لا مفر منها في المجتمع الرأسمالي.

أن رواية (كنولب) لـ (هيرمان هيسه) أما انها منسية أو انها لاتثير الاعجاب لانها لم تعد تتماشى مع الذهنية الجديدة السائدة، فليس بوسع هذا المتشرد الذي حظي حينذاك بالتعاطف والمساعدة، الا ان يكون منبوذا فاشلا، أن بوسعه، بطبيعة الحال، أن يحضى بالمساعدة الاجتماعية، التي تكفلها القوانين و التي توفر له مستوى من المعيشة بافضل مما حصل عليه (كنولب) بطل رواية (هيسه) ولكنه سيبقى منبوذا وحيدا شاعرا بالذنب ذلك أنه يعيش على عمل الآخرين، بدلا من أن يكون عائشا على كرم الاخرين وعطفهم وتفهمهم. ولكن عمل (هيسه) هذا سيبقى عظيم القيمة ما دام مقروئا ومفهوما ضمن إطاره التاريخي، وليس ضحية لإسقاط قيم معاصِرة، آيلة الى الزوال بدورها، على نماذج اجتماعية تنتمي الى عصر آخر.




"منير العبيدي"

التعليقات