وإذا الموؤودة سئلت...(8) / د.إلياس عطا الله

-

وإذا الموؤودة سئلت...(8) / د.إلياس عطا الله

ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا


بين ابن جنّي وأبناء الجنّيّة


منذ أن "ضرب زيدًا عمرٌو" في كتاب سيبويه( 175 هـ.)، كظمها زيدٌ أو من  جاء من نسله أو ضِئْضِئِهِ ( צאצאיו)، وتحيّنوا الفرصة لردّ المهانة بعد مائة وعشر سنوات، حيث أفادنا المبرّد ( 285 هـ.) في المقتضب أنّ القوم قاموا بالردّ: " ضرب زيدٌ عمرا"، وظلّ الاثنان يتضاربان، حتى اغتاظ ابن جنّي ( 392 هـ.) فأدّبهما في خصائصه، حيث قال:" ضربتُ زيدًا وعمرًا"، ويظهر أنّ ابن جنّي ما حسم الأمور وما أنهى خلافا، فمنذ سيبويه والمبرّد، ما زال زيد وعمرو يتضاربان، وما انفكّ العرب في اقتتال واحتراب، إلى أن جاء أبناء الجنّيّة ليضربوا زيدا وعمرا معا، ورغم هذا، ظلّ أبناء زيد وعمرو يتضاربون، في كل مكان وفي كلّ زمان، بلا سبب، أو لأيّ سبب كان.


 


لا أعرف لِمَ راودتني نفسي بأن أجعل ما أوردته أعلاه بعنوان قصّة تاريخيّة رقميّة  قصيرة جدّا- وهذا جنس أدبي أو جانر جديد لم تسمعوا عنه-، أو بعنوان ملحمة... كلّ ما أعرفه أنّني رددت النفس عن غيّها، وبرّدت أعصابها، وقمعت ما فيها من " غضبة مُضَرِيّة تهتكُ حجابَ الشّمس"، مستعينا بواحد من عمالقة العربيّة في عصر نهضتنا، أحمد فارس الشدياق، والشدياق هذا خفيف ظلّ من الطراز الخاصّ جدّا، بذيء بشكل أخلاقيّ جدّا، - وكانوا زندقوه وهَرْطَقُوه وبَدَّعُوه ومَرَّقوه-1-، فلم تشفع له مارونيّته ولا إسلامه- كان يعرف العربيّة إلى درجة الانفزار ( شيء ما أكثر من متضلّع من... التي يكثر المتأدّبون من استعمال "ضليع" بدلا منها، جاعلين، دون قصد، من الخبير بغلا أو حمارا ثخين الأضلاع)، ففكَّ السّاق عن السّاق، وقال، لا فضّ فوه، من باب ما عنوَنَهُ بـ " جوع دَيْقُوعٌ دَهْقُوع"-2-:


ليت شعري ماذا يفيد البيان            مع خواء البطون، والتبيان


وفنون البديع من غير أكل              تستشيط اللهى بها واللسان


أيّها المعربون هبّوا فما من              "ضرب زيد عمرا" يُرَصّ الخوان


أين أين الكباب والرزّ والبُرْ            غُلُ تصغو من فيضهنّ الجفان


ذهبت دولة الطبيخ وجاءت            نوبة الجوع أمّها لبنان


 


ونترك الشدياق الجائع في حنينه إلى دولة الطبيخ، لنبقى مع الضرب وأفعاله، وما أكثر أفعال الضرب في  العربيّة! وما أثرى العربيّة في التعبير في هذا المجال الدلاليّ وغيره! فهنالك ثروة من أفعال الضرب في المعجمات العربيّة، من ثلاثيّ ورباعيّ وخماسيّ، إضافة إلى المزيد فيها، بتفصيل لا إخال لغة تعرفه، فأفعالٌ للضرب مأخوذةٌ من آلات الضرب، نحو: عَصَوْتُ فلانا أي ضربته بالعصا، وهَرَوْتُه أي ضربته بالهراوة، وسُطْتُه أو سَوَّطْتُه أي ضربته بالسّوط، وأخرى من مواقع الضرب، وثالثة من تفاوته من حيث الأذى، ورابعة مشتقة من أعضاء الجسم، نحو: رأستُهُ، دمغتُهُ، صدغتُهُ، أنَفْتُهُ، نحرتُهُ،، أي ضربته على الرأس، الدّماغ، الصّدغ، الأنف، النّحر... وخامسة لتبيان اتّساع الجرح أو ضيقه، وسادسة لتفصيل كلّ نوع من الأنواع المذكورة، ولست بصدد ما يرد في لغتنا الفصيحة، إذ سأعنى فقط بما نسمعه على لسان أهلنا- وهم حربجيّون وجدعان-3- أيضا- في محكيّتهم، ففيها أيضا تتغيّر الأفعال وفقا للعضو المصاب، وعليه تسمع التراكيب التالية: فَغَصْ في بطنه أو فَزَرُهْ، هرِّ لْهُ سْنانُه أو كَتِّ لُهْ سنانه، فَلَخْ لُه/ فلّخ له نيعه، خلَعْ لُه حنَكُه، شَلَعْ لْهُ كتفه أو دانه، مَلَصْ لُه رقبته، نَحَتُه قَتْلِه، أو نَجَرُه بَدَن، كَوَّعُه، لَقُّه... والأفعال لا تُعدّ، ولا يجوز أن تُحِلّ فعلا في موضع الآخر فترتكب إثما، فلا يُقال فَغَصْ في كتفه مثلا، فللضرب أصولٌ وآدابٌ وأخلاق، والمواءمة بين الفعل والمفعول به واجبةٌ، وإلاّ دخلتَ في جريرة اللّحْن! وغالبا ما نسمع هذه الأفعال في باب التهديد: إسّا بفغص في بطنك، إسا بكتّ لك اسنانك... أو في باب التربية، وهي أسلوبيّة محبّبة عند بعض الأمّهات من الجيل العتيق، يقلنه دون قصد دلاليّ، وذلك بعد أن يفقدن الحيلة مع أحد الأبناء العفاريت: والله لأشلعلك دانك، أو: استنّى ليرجع أبوك ليشلّت دينيك... يطبّشك، يكسّر راسك، وما إلى ذلك من أفعال منزوع منها الفعل. وللتذكير فحسب، الأفعال: فلخ وفلّخ، وخلع، وشلع، وملص-4-، ونحت، ونجر-5-، وكوّع-6-، ولقّ-7-، أفعال فصيحة، وإن كانت شلع من أصل ساميّ فيه دلالة الاستئصال، وهي قريبة دلالة وأصلا(؟) من قلع العربيّة، ولعلّ فغص من فعصَ التي تعني فتق وفتح، أمّا هرّ الأسنان وكتّها، فيحتاجان إلى شرح طويل ليس هذا مقامه.


 


وتبقى حكمة أهلنا الراسخة في موطن آخر غير التوليف بين الفعل والمفعول به...  فأهلنا، منذ تضارَبَ عمرو وزيد، وكان كلاهما فاعلا ومفعولا به، جمعوا - والقضيّة أعمق من علم الصرف- بين اسمي الفاعل والمفعول دلالة وحكما، فكل واحد منهما      " ضارب" أو  " مضروب"... دون فعل من الأفعال المذكورة... والأمر هذا من مباحث علم اللغة النفسيّ، ولذا أتركه للمختصّين بالضاربين المضروبين بمفهوم أهلنا.


 


من المفارقة، أنّنا صرنا نَحِنُّ إلى هذه الأفعال، على قسوتها، لا لأنّنا "ضاربين" أو   " مضروبين" في عقلنا – أو ربّما لهذا السبب- فحسب... بل لأنّنا تحضّرنا وتأمركنا، وتجاوزنا هذه المرحلة المعتمة من تاريخنا وتخلّفنا، وتجاوزنا أفعالها وآلاتها البدائيّة، وصرنا نمارس أفعالا جديدة بآلات عصريّة أكثر إحكاما من العصا والسّيف والرمح... تدور حول "الطخّ" والرشّ... فعلامَ التعب، ورصاصة واحدة تختصر كلّ هذه الثرثرة؟


 


علماء الاجتماع الجدد


 


 إذا لبستْ إحداهنّ الثيابَ الشرعيّة، وخاصّة إذا كانت صغيرةً في السنّ أو  عروسا، لا بدّ أن تُسأل، علانية أو وشوشة، إن كان هنالك إرغامٌ، أو إن كانت على قناعة من الأمر... والفرضية التي لا تصير سؤالا ولا تساؤلا هي أنّ الأهل أو الزوج موافقون على الأمر، أو أنّهم وراء هذا الإكراه... وإن لبست مَن في سنّها بشكل عصريّ صرعيّ - نسبة إلى الصرعة- وكشفت عن مساحة أو مساحات من صدرها أو بطنها أو فخذيها، أو كان ثوبها مقوّرا/ "مأوّر" -8- عند ظهرها، يغيب السؤال عن القناعة أو إن كانت تعرّضت لضغط، وتغيب معه الفرضيّة أيضا... ولا تُسأل صاحبة الشأن في هذه الحالة مباشرة، بل قد يثار الموضوع، قبولا أو انتقاصا منها ومن أهلها، بشكل اغتيابيّ بُهتانيّ أو غيباني بلغة أهلنا... شيء عجيب، وكأن الفرضيّة التي تبلغ حدّ القناعة هي أنّنا متحررون أو متخلّفون بالطبع، أو أنّنا صرحاء أو جبناء بالطبع...، وحيث إنّ النزعة التحقيقيّة البوليسية هذه لا تكون إلا مع الفتاة المسلمة، إذ يخيّل إليّ، إن خطأ وإن صوابا، أنّ السؤال لا يوجّهُ إلى لِداتها من العربيّات المسيحيّات أو الدّرزيّات... لا أعرف ماذا يقول ابن خلدون في هذا "الطبع" المنفصم، لا عند الشّرعة ولا عند الصّرعة، ولا عند ما ترتّب عن الخمينيّة... بل عند تقريريّة وانتقائيّة السائلين والسّائلات من علماء المجتمعيّة الجدد من المتحذلقين و المتحذلقات... إشي بمخوِلْ! -9-. 


 


-1- كلّها بمعنى عَدُّوهُ كافرا ملحدا، وهي مأخوذة على التوالي من: الزّندقة والهرطقة والبِدعة والمروق.


-2- الجوع الشديد الذي يضرب بالرأس كالسّيف أو الفأس.


-3- وأراها مأخوذة من جذع، والجذع من الحيوان: الفتيّ غير المدرك، وتجمع على جِذعان وجُذعان.


-4- وفي استعمالها توظيف بلاغي، فالأصل في الملص هو الإفلات من اليدين أو الكفّ، أو الانزلاق، فملص الشيء وتملّص وانملص: أفلت، وكأنّ الرقبة بعد إزالتها من موضعها كالشيء يملص من بين يديك. ومنه يقال أملصت المرأة بولدها/ جنينها أي أسقطته، وجميل أن نذكّر بأنّ العرب استعملوا الإجهاض مع الحيوان وبخاصّة النّاقة، وخصّوا الإسقاط بالنساء، ولا أعرف لِمَ يصرّ بعضُ الكتبة والأطبّاء على " تنويق" المرأة.


-5- ونستعملها بمعنى الضرب العام على الجسم، وأصلها: نَجَرَ باليد: وهو أن تضمّ كفّك ثم تخرج برجمة الإصبع الوسطى تمّ تضرب بها الرأس.


-6- ضربه حتى صيّره معوجّ الكوع.


-7- اللّقّ هو ضرب العّين.


-8- ونستعمل التقوير وصفا لثوب قُصّ بشكل دائرة، والفعل فصيح: قار الشيءَ وقوّره: قطعه من وسطه بشكل مستدير، وهو في القماش والجلد وغيرهما.


-9- يبعث على الحيرة أو الجنون أو الاكتئاب، أو " بطيّر ضبان العقل" بلغة الحلقة الماضية، والفعل ليس عربيّا ممعجما، فهو من الدّخيل، وأراه من اسم الملنخوليا الوارد في بعض المعاجم، والكلمة يونانيّة- melancholia- وتعني المِرّة السّوداء، ويقابله بالعربيّة السّويداء أو السّوداويّة والاكتئاب، والمصاب به يعاني من الاضراب العقلي والتخليط.


 


ووقاكم الله من المخولة وأسبابها وأعراضها... ونلتقي، بإذنه، مع "كفاية" المصريّة، بين عبد الحليم حافظ... ومبارك، آملا ألاّ نتمخول ثانية.


 

التعليقات