رحل الزواوي قبل وصول الحريّة بقليل../ رشاد أبوشاور

رحل الزواوي قبل أن تصل الحريّة إلى ليبيا وشعبها.. ولكن لوحاته ستكون حاضرة في ليبيا الحرة، ومع الأجيال الليبية التي ستتعرف عليه فنانا كبيرا، وموهبة نادرةً، ونفسا صافية نبيلة كبيرة.. قتلها القهر في زمن الطاغية وأبنائه الذين أحرقوا قلبه وقلوب ملايين الليبيين

رحل الزواوي قبل وصول الحريّة بقليل../ رشاد أبوشاور
في فجر 5 حزيران2011، وبعد اعتكاف في مرسمه ببيته القريب من البحر في العاصمة الليبيّة طرابلس، وجد الفنان الليبي الكبير محمد الزواوي وقد فارق الحياة.
 
هذا ما أخبرني به صديقنا المشترك زياد علي، بصوته الحزين المُتعب القادم عبر الهاتف من تونس.
 
وحيدا في مرسمه، صامتا لا يكلم أحدا، ولا يرّد على الهاتف، انزوى الزواوي مقهورا وهو يرى بلده يدمّر، وينتهك، ويخرّب، وناسه يعيشون في رعب، ودم أهله ينزف.
 
محمد الزواوي واحد من أكبر رسامي الكاريكاتور العرب، رغم أنه لم يبلغ في تعليمه سوى الصف الرابع الابتدائي في واحدة من مدارس مدينة بنغازي مسقط رأسه التي ولد فيها عام 1936.
 
 
الزواوي غادر المدرسة لشدّة فقر العائلة وحاجتها لعمله، ولكنه طوّر موهبته بجهده الخاص، فأجاد الرسم، والإخراج الصحفي، وتنقّل في العمل في عدّة صحف، ومنذ العام 1963 حين انتدب للعمل في مجلة (الإذاعة) بدأ بنشر رسومه الكاريكاتوريه التي لفتت الانتباه لموهبته اللاذعة الناقدة الساخرة.
 
كلما كنت ألتقيه في بيته، وغالبا مع زياد علي الذي عمل على التبشير بموهبته، وترويج كتبه التي ضمّت مئات الرسومات، عرفت أنه غالبا لا يغادر بيته.
 
 كنت أحتار في قدرته على السخرية من كل أوجه الحياة في ليبيا، هو الميّال للصمت، والذي ما كان يأخذ راحته في الفضفضة إلاّ مع من يثق بهم، فالحياة في الجماهيرية العظمى مفزعة مكئبة.
 
ذات فجر دوهم بيته وانتزع ابنه الصغير و..اختفت أخباره، ففي جماهيرية القذافي كان داخل السجن مفقود..لا أمل في عودته إلى الحياة!
 
كان يتجنّب الحديث عن ابنه، ويرفض أن يلتمس العفو عنه من القذافي الذي كان يعرف قدر موهبة هذا الفنان الكبير المعروف عربيّا، والذي كتب عنه الكثير.
 
لربما انتظر القذافي أن يتوسل الزواوي حريّة ابنه من ( القائد) الذي يتميّز بالقسوة واللؤم، والغيرة من أي ليبي مشهور ومعروف عربيا، أو أن يرسم له لوحات تمجدّه.
 
 
بعد أن اتصل بي زياد علي وجمت، واحترت ما الذي أعمله تجاه هذا الفنان الكبير الصديق الذي ما كنت أزور ليبيا إلاّ وأتردد على بيته وأتناول الطعام معه ومع زياد، في مرسمه، بين لوحاته المكدّسة، والملعقة على الجدران، ودائما على الستاند توجد لوحة غير مكتملة وسط أنابيب الألوان والفراشي المختلفة.
 
أخرجت مجلدا كبيرا يحمل العنوان:الوجه الآخر.. وشرعت أقلّب الصفحات العريضة، وأتأمّل اللوحات ..ووجدتني أُردد لنفسي: إذا شاء أي إنسان أن يفهم المجتمع الليبي وهمومه ومشاغله وأعماقه، طيبته ونبله وبساطته ..فإن أمامه ( عالم الاجتماع) الفنان الليبي الكبير محمد الزواوي.
 
الزواوي غوّاص في النفس الليبيّة، وهو يستخدم ريشته مبضعا به يشّق الجلد ليصل إلى حيث يحدد المرض الذي يمكن الشفاء منه، والذي يبدو دخيلاً، وطارئا.
 
الزواوي محب للإنسان الليبي، مشغول بنبله وإنسانيته وسلامة روحه وأصالته.. وهو بمبضعه يعمل على إزالة ما يشوّه نفسه وحياته.
 
الزواوي كان فنّانا عربيا كبيرا مشغولاً بهموم الإنسان العربي، فهو لم ينغلق على نفسه ليبيا.
كنت دائما أسمع صديقنا الراحل الكبير ناجي العلي وهو يتحدّث عنه بحّب وإعجاب، وقد تواعد معه على إقامة معرض مشترك.. ولكن ناجي رحل برصاص الغدر والخيانة.. فرثاه الزواوي بلوحة لا تنسى، وظلّ يتحسّر لأنهما لم يلتقيا في معرض واحد.. وعوّض الزواوي بلوحته المرثية التي كانت تعرض في في كل معارضه وفاءً لصديقه الذي لم يلتق به.
 
رحل الزواوي قبل أن تصل الحريّة إلى ليبيا وشعبها.. ولكن لوحاته ستكون حاضرة في ليبيا الحرة، ومع الأجيال الليبية التي ستتعرف عليه فنانا كبيرا، وموهبة نادرةً، ونفسا صافية نبيلة كبيرة.. قتلها القهر في زمن الطاغية وأبنائه الذين أحرقوا قلبه وقلوب ملايين الليبيين.
 

التعليقات