مُهجر ذو 99 عاما من معلول يستذكر النكبة والتهجير: لا تمحى من ذاكرتي أبدا

سالم: "في الليلة التي كنت سأهاجر فيها إلى لبنان، نظرت إلى والدي الذي تجاوز سن التسعين، ووالدتي المسكينة والمرهقة من نقل الأمتعة وقلت لهما إنني لن أهاجر إلى لبنان وسأبقى هنا إما أن نموت معا أو نعيش معا".

مُهجر ذو 99 عاما من معلول يستذكر النكبة والتهجير: لا تمحى من ذاكرتي أبدا

المهجر جاد سالم (عرب 48)

لا يزال المهجر جاد سالم (أبو سابا) من قرية معلول، يحافظ على عاداته في استقبال الضيف وإكرامه عند الملقى، ويشيعه إلى باب البيت حين المغادرة ويأبى المصافحة إلا واقفا منتصبا رغم كبر سنه، وهو الشاهد الوحيد التي ما زالت جذوره ضاربة في تاريخ قريته المهجرة التي لا تمحى من ذاكرته الطويلة وإن كانت هذه الذاكرة لا تحفظ إلا القليل من الحاضر، لكنها لا تنسى البيت والأرض والوطن الأصل.

تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"

تلك كانت أولى كلماته التي نطق بها عند استقباله لنا حين قمنا بزيارة بيته في يافة الناصرة، ويقول مراسل "عرب 48" إنه "حين دخلتُ بيته أمسك بعكازه ذو القوائم الأربعة وانتصب واقفا ليصافحني ويقول لي بأنه نسي اسمي منذ تحدثنا بالأمس، لكنه في سياق الحديث قال إنه لا ينسى ثقب إبرة وموضع حجر في معلول التي غادرها مرغما قبل أكثر من 76 عاما".

ويبلغ المهجر جاد سالم 99 عاما من العمر، ويقول إن من نعم الله عليه أنه بلغ من العمر عِتِيا، بينما لا يزال يتمتع بذاكرة حادة وعلما واسعا وحكمة بالغة ليس بسبب ما حصل عليه وإنما هي مدرسة الحياة "لقد عشنا حياة كاملة".

"بين ليلة وضحاها أصبحنا لاجئين"

وعن بلدة معلول قال في حديث لـ"عرب 48": "ولدت في معلول بلد الفلاحين التي تقع على سفح معلول، وقد مررت منذ طفولتي وحتى ريعان الشباب بكل المراحل التي يتطلبها العمل في الفلاحة، وهي المراحل التي كان يمر بها كل شاب من أبناء القرية في تلك الحقبة الزمنية حتى كبرت وترعرعت وتزوجت في سن 22 عاما، قبل أن تحل علينا النكبة ونشرّد في الأرض وتقطع أوصالنا في الوطن وخارجه وخصوصا ما بين الناصرة ويافتها وشمالا إلى لبنان. بعد عام واحد من زواجي احتل اليهود بلدتي وقتلوا من قتلوا فيها، وما بين ليلة وضحاها أصبحنا أنا وأهلي لاجئين في الناصرة".

حتى ذلك الحين كان جاد سالم يعمل في محطة سكة الحديد الشرقية في حيفا، وسيطر اليهود آنذاك على الجزء الأكبر من أراضي معلول سواء عن طريق المصادرة أو شراء الأرض من قبل المستوطنين في نهلال وجباثا "كيبوتس جفات" المجاورتين، الذين أخذوا بالتوسع تدريجيا في السيطرة على الأراضي ثم احتلال الجبال المحيطة بالقرية وإقامة التحصينات تمهيدا لاحتلال القرية.

واستذكر بالقول "في حين كان أهالي معلول يعيشون حياة بسيطة ومتواضعة للغاية، وقد نشأ شبانها على المحبة والتسامح، لم تكن البلدة مهيأة بأي شكل من الأشكال لمقاومة جيش مدجج بأحداث أنواع الأسلحة في حينه، حين استحكم عناصره في الجبال وشرعوا بمراقبة القرية وأهلها حتى جاء اليوم الذي قام خلاله عناصر الجيش من مسافة بعيدة بقنص امرأة من سكان البلدة أمام بيتها، فاستشهدت وكانت شيخة زوجة عباس العلي أو شهيدة في معلول، وثارت في حينه حالة من الذعر والخوف بين سكان القرية".

"صرت غائبا ولا أملك شيئا"

وتابع "على إثر تلك الحادثة اجتمعت لجنة مؤلفة من كبار وشيوخ القرية وأقروا بضرورة إبعاد كبار السن والأطفال والأزواج حديثي العهد خوفا من تعرض الزوجات الشابات للأذى، فيما اجتمع شبان القرية وأجمعوا على ضرورة جمع الأموال لشراء بندقية يواجهون فيها الجنود، وهكذا إلى أن هُجر سكان معلول منها بحثا عن الأمان عاجزين عن المواجهة، وبقيت معلول تعيش فيهم بينما هم غائبون عنها".

وأضاف سالم "عندما أعود بالذاكرة إلى تلك الفترة أتعجب وأتساءل، أي منطق هذا الذي أعطى الحق لمن ليس له حق على هذه الأرض؟ كنت في معلول وغادرتها إلى الناصرة، فصرت غائبا في نظرهم وأصبحوا يعتبرون أرضي وبيتي أملاك غائبين! ونحن على مسافة 10 دقائق سيرا على الأقدام منها. أنا موجود هنا، لكنني حسب الشرع الإسرائيلي فأنا لست هنا، ولا أملك شيئا.. أنا غائب!".

وعلى الرغم من مرور ما يقرب من 77 عاما على تهجيره من القرية، يقول الحاج جاد سالم "معلول لا تمحى من ذاكرتي أبدا، وحين تنطق اسم معلول أشعر بأنني عثرت على ليرة ذهبية من شدة ما كنت مولعا فيها، فقد ولدت فيها وعشت طفولتي هناك ونشأت وترعرعت فيها وكنت في سن الثامنة أنقل القمح من المرج إلى البيدر، ثم أدرس القمح وأذريه على البيدر، وكنا نزرع الخضار والبطيخ والشمام، وقد مارست كل هذا العمل من أوله إلى آخره بيدي الغضتين".

الهجرة إلى لبنان

حين هُجر سالم من قريته معلول، كانت لديه طفلة تدعى فايزة وهي أكبر أبنائه، وقد تجاوزت اليوم عامها الثمانين، وحرصا من والدته عليه وعلى زوجته وطفلته حديثة العهد، أعدت لهم المتاع من أجل الهجرة إلى لبنان؛ ويقول "كان والدي طاعنا في السن، وكنا قد وصلنا إلى بيت أسعد الداهود المجاور لبناية المسكوبية في مدينة الناصرة، على أساس أن يستقر والدي ووالدتي هناك بينما أكمل أنا وزوجتي وطفلتنا طريق الهجرة إلى لبنان، ذلك لأنني كنت الابن الوحيد للعائلة وكانت أمي تخشى أن يصيبني مكروه، لا سيما بعد أن بدأنا نسمع عن مجازر يرتكبها الاحتلال في بلدات أخرى، وكنا نأمل بأن تمر هذه الغمامة السوداء لنعود بعدها إلى بيتنا".

وتابع "في الليلة التي كنت سأهاجر فيها إلى لبنان، نظرت إلى والدي الذي تجاوز سن التسعين، ووالدتي المسكينة والمرهقة من نقل الأمتعة وقلت لهما إنني لن أهاجر إلى لبنان وسأبقى هنا إما أن نموت معا أو نعيش معا، ورفضت ركوب الجمل وبقيت إلى جانبهما".

الحياة والعادات في معلول

إن أكثر ما يحن إليه المهجر سالم هو طيب العيش والقيم والأخلاق التي كانت تسود في القرية، الأمر الذي جعل قضاة المحاكم في حينه ومنهم قضاة عرب يتذمرون لعدم تلقي أي شكوى من بلدة معلول، ويقول سالم "كان من المستحيل أن يقدم أي مواطن في معلول شكوى في الشرطة ضد ابن قريته، فقد عملت في القرية لجنة مؤلفة من خمسة أشخاص من كبار السن ورجال الدين المسلمين والمسيحيين، وكانت هذه اللجنة تعالج قضايا أهل القرية كلجنة للحل والعقد وتعطي كل صاحب حق حقه، حتى لو كان أضعفهم وتنصف الجميع وتعمل بصدق وأمانة. هكذا كانت تعيش قرية معلول وكأنها دولة لها حكومة مستقلة".

ومن بين العادات الجميلة التي سادت في القرية وتحدث عنها المهجر جاد سالم، هي أنه "في الأفراح كان يتخذ العريس شبينا له وكانا يطوفان القرية معا للدعوة إلى الفرح، وكان إذا حضر مطران العرب ’المطران الحجار’ لزيارة القرية يخرج مختار الطائفة الإسلامية قبل مختار الطائفة المسيحية على رأس وفد من كبار القرية لاستقباله عند مدخل البلدة ويحتفون به ويقيمون له أقواس النصر وما شابه من رموز القوة والعظمة".

منذ ذلك الحين لم يعد جاد سالم إلى بلدته معلول رغم محاولاته خلال 15 عاما من الحكم العسكري الذي أعقب الاحتلال، وقد نجح في بعض الأحيان مع عدد من الأصدقاء في التسلل إلى محيط القرية التي هدمت بأكملها باستثناء كنائسها التي ما زالت قائمة ومسجدها المدمّر جزئيا.

كانت معلول عام 1984 تعد من بين القرى الصغيرة الوادعة والآمنة، وكانت أقرب القرى إليها المجيدل وعيلوط، وحسب الرواية الفلسطينية فقد بلغ عدد سكانها نحو 800 نسمة، في حين يقول المهجر جاد سالم إن عددهم كان أقل من ذلك.

التعليقات