المسن أبو سابا يتحدث عن النكبة: دمروا معلول وهجّرونا والعودة حقنا وقرارنا

منذ العام 1959 يعيش جاد سالم (أبو سابا) البالغ من العمر 96 عاما، في يافة الناصرة، المجاورة لقرية معلول المهجرة والمهدمة بالكامل باستثناء كنائسها ومسجدها الذي انهار جزء منه، لكنه اليوم مهجور وآيل للسقوط ولا يصلح للصلاة.

المسن أبو سابا يتحدث عن النكبة: دمروا معلول وهجّرونا والعودة حقنا وقرارنا

جاد سالم (عرب 48)

منذ العام 1959 يعيش جاد سالم (أبو سابا) البالغ من العمر 96 عاما، في يافة الناصرة، المجاورة لقرية معلول المهجرة والمهدمة بالكامل باستثناء كنائسها ومسجدها الذي انهار جزء منه، لكنه اليوم مهجور وآيل للسقوط ولا يصلح للصلاة.

ويربط أبو سابا، سنة قدومه إلى يافة الناصرة بالنكبة، ويقول إنه "بعد 11 سنة من النكبة جئت إلى يافة الناصرة، القريبة من معلول التي ولدت فيها ونشأت وترعرعت وتزوجت فيها، وبعد عام واحد من زواجي احتل اليهود بلدتي وقتلوا من قتلوا فيها، وما بين ليلة وضحاها أصبحنا أنا وأهلي لاجئين في الناصرة، وتحديدا في منزل مصطفى عطية بالقرب من المستشفى الفرنسي".

"عرب 48" زار منزل جاد سالم في يافة الناصرة، وهو واحد من القلائل الذين عايشوا النكبة وشهدوا أحداثها، وهو مؤمن بأنه "لا يضيع حق وراؤه مُطالب"، وأن "احتلال معلول كان باطلا، والباطل لا يدوم والحق لا يزول".

يقول أبو سابا: "ولدت ونشأت في معلول، وكل كبيرة وصغيرة كنت أعرفها ولا أزال أذكرها رغم تقدمي في السن، فأنا قد أنسى أحداث اليوم والأمس، لكنني لا أنسى الماضي البعيد، لا بل أذكر التفاصيل بدقة. ما تبقى لي هو الذاكرة البعيدة، لكنني بدأت أفقد الذاكرة القصيرة (الأحداث اليومية). كنت طفلا ثم شابا ثم عاملا في مطار نهلال ‘رمات دافيد’ الذي أقيم عام 1943، بعد ثورة الـ36 والحرب العالمية الثانية. عشت فترة الحرب العالمية الثانية بأكملها، كنت في معلول وكنت أعمل في المطار وما أن اكتمل بناء المدرج بدأت الحرب العالمية تضع أوزارها، وأذكر أن طائرات أميركية حطّت على أرض المطار في نهاية الحرب وأقام الجنود الخيام في مستعمرة رمات دافيد".

وأكد في مستهل حديثه بأنه لن يتحدث ولن يذكر سوى التفاصيل التي كان شاهدا عليها لأنه شخص يبغض الكذب والمبالغة والتهويل، ويخشى أن يذكر معلومة منقولة قد تكون غير صحيحة أو محرّفة أو من مصدر غير موثوق، وأضاف أنه "بعد أن انتهينا من العمل في المطار كان لي ابن عم يعمل في سكة القطار بمنطقة حيفا، وعرض عليّ العمل معه بصفته مسؤولا في المحطة الشرقية بحيفا فوافقت، وهو بدوره أتم لي المعاملات وهناك اضطررت إلى زيادة سنوات عمري بأربع سنوات إضافية بتصريح من مختار القرية".

ومن التفاصيل البارزة التي يذكرها أبو سابا، في أثناء عمله بحيفا قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، هي لجوء أقاربه الذين كانوا يقيمون في حيفا إلى معلول، حين تعرضت حيفا للقصف بطائرات إيطالية نظرا إلى أن فلسطين كانت تقع تحت الانتداب البريطاني، فكان ميناء حيفا ومصفاة تكرير البترول هدفا للعدو. ويقول أبو سابا: "أذكر أن الجيش البريطاني كان يملأ البراميل بالمازوت ويقوم بإشعالها لكي تتشكل سحابة سوداء فوق معامل تكرير البترول لحجب المنطقة عن طائرات العدو".

"ما بضيع حق وراه مطالب" - أبو سابا (عرب 48)

"عرب 48": ماذا بعد الحرب العالمية وثورة الـ36 ووصولا إلى عام 48 وما سبقه من أحداث بين العرب واليهود، كيف كانت العلاقة بينكم وبين اليهود الذين يعيشون في المستعمرات من حولكم؟

سالم: أولا، دعنا نتحدث عن العلاقات بين أهالي معلول ببعضهم البعض، فقد كانت معلول قرية وادعة وآمنة ومطمئنة يعيش سكانها الذين يبلغ عددهم نحو 800 نسمة في تلك الحقبة الزمنية مثل عائلة واحدة، يتشاركون الأفراح والأحزان، وكانت تسود المحبة والاحترام بين الجميع، وحتى أن للقرية تقاليد خاصة في الأفراح. وكانت في القرية لجنة تعيد لكل صاحب حق حقه دون الاستعانة بالشرطة أو بأي جهاز من خارج القرية، وكانت كل مشاكلها الصغيرة والكبيرة وهي نادرة تحل داخل البلدة بالتسامح والعفو.

كانت من حولنا مستعمرة نهلال وكيبوتس ‘غفات’ الممتد على أراضي بلدة عربية كان اسمها جباثا، وكان أهل بلدنا يملكون من أراضي مرج ابن عامر مساحات هائلة تمتد من طريق الناصرة – حيفا إلى محطة تل الشمام التي هي اليوم رمات دافيد".

"عرب 48": هل كان اليهود يملكون أراض في هذه المنطقة؟

سالم: كانت أراضي نهلال كلها تقريبا ملكا للفلاحين العرب وكذلك أراضي رمات دافيد وجباثا، وكان في هذه المستعمرات سكان من اليهود جاؤوا إليها في زماني، لكن على زمن والدي كانت هذه البلدات خالصة للعرب، وكانت اسماؤها عربية كما قلت لك جباثا وتل الشمام ونهلال، وأراضيها لأهل معلول، لكن مشكلة أهالي معلول وخطأهم الكبير أنهم لم يقوموا بتطويب الأرض، على عكس سكان المجيدل ويافة الناصرة الذين سجلوا أراضيهم في الطابو.

حين استوطن اليهود هذه المستعمرات واشتروا مساحات من الأراضي وأقاموا دعوى للاستيلاء على أراضي معلول بادعاء أنها غير مسجلة بملكيتهم ولا يملكون عليها سوى حق المزارعة (أي زراعتها) وقد كلّف أهالي معلول أحد المحامين العرب لتمثيلهم في الدعوى وعلى ما أذكر - لست متأكدا – كان اسم المحامي وديع البستاني، وقد تعهد المحامي لأهالي معلول بأن يقيم دعوى باسمهم وأن يعيد لهم الأراضي مسجلة في الطابو، وحين جاء موعد المحكمة قررت المحكمة المركزية في الناصرة بأن كامل الأراضي لليهود بادعاء انهم اشتروها بأموالهم وسجلوها بأسمائهم. وحين أراد اليهود الاستيلاء على الأراضي تدخل المندوب السامي البريطاني وقال إنه رغم وجود قرار المحكمة إلا أن البلدة (معلول) يسكنها الفلاحون وهم من يفلحون الأرض فلا يجوز أن تكون معلول دون أراض، وعندها أمر المندوب السامي بمنح كل واحد من الملّاكين من أهالي معلول (مقيمو الدعوى القضائية) وعددهم 75 فلاحا، وقد تم تقسيم الأرض بين العرب واليهود، إذ حصل كل مزارع عربي على 24 دونما زراعية و24 دونما جبلية لرعاية المواشي. وكان والدي أحد هؤلاء المزارعين، وحصلنا على الأرض وواصلنا زراعتها إلى أن حلت بنا النكبة.

"عرب 48": ما هي أبرز التفاصيل التي تذكرها من النكبة؟

سالم: عندما أعود بالذاكرة إلى تلك الفترة أتعجب وأتساءل أي منطق هذا الذي أعطى الحق لمن ليس له حق على هذه الأرض؟ كنت في معلول وسافرت إلى الناصرة فصرت غائبا في نظرهم وأصبحوا يعتبرون أرضي وبيتي أملاك غائبين! ونحن على مسافة 10 دقائق سيرا على الأقدام منها. أنا موجود هنا، لكنني حسب القانون الإسرائيلي لست هنا، أنا غائب!

أذكر في سنة 1948 أنني انتقلت للعمل في سكة القطار في اللد وليس في حيفا، في ذلك الوقت بدأت الحوادث وإطلاق النار المتبادل بين العرب واليهود في مواقع متفرقة، أما الشرارة التي أشعلت الحرب على معلول، فكانت قيام اليهود باحتلال الجبل المقابل للقرية والذي يكشفها كاملة ومن فوق هذا الجبل يمكن رصد كل حركة ومشاهدة كل دجاجة في القرية، ومن فوق الجبل الذي وضع عليه اليهود استحكامات، أطلقت رصاصات باتجاه البلدة فأصيبت امرأة تدعى شيخة زوجة عباس العلي، وهي تقف أمام بيتها وكانت أول شهيدة في القرية. واجتمعت لجنة إدارة شؤون القرية وقررت أن الجيران اليهود طغوا وأعلنوا الحرب ويجب نقل كل الأطفال والنساء والمسنين من معلول إلى المناطق المجاورة. كان والدي قد تجاوز 100 عام، ووالدتي عجوز وزوجتي مرضعة لطفلتنا التي لم تتجاوز الثلاثة أشهر، وقد حملتهم بالحافلة إلى الناصرة وأقمنا في بيت مستأجر تعود ملكيته لعائلة أسعد الداهود، وفي تلك الليلة احتل اليهود البلد.

"عرب 48": عندما أخرجتم النساء والأطفال وكبار السن ماذا فعل الشبان؟

سالم: حين احتلوا البلد قتلوا ثلاثة شبان في القرية بواسطة قنبلة يدوية ألقيت باتجاههم، كما قتل ابن عمي الذي كان يعمل في دائرة الأشغال وهو في الطريق إلى مكان عمله في حيفا، ليجمع أدواته وينهي عمله هناك، فاعترضت عصابات من اليهود طريق الحافلة بالقرب من مدينة العفولة، وأطلقوا النار باتجاهها فقتلوا ابن عمي وشابا آخر كان برفقته.

"عرب 48": ألم تكن هناك مقاومة للمحتل؟

سالم: أية مقاومة هذه! حين قتل اليهود الشبان الثلاثة كان بينهم شقيق المختار يوسف المحمد، وشاب من عائلة الحايك وابن عمي، وفي نفس الليلة احتلت القرية. كان هناك ثوّار أتوا من صفورية وساعدناهم في بناء الاستقامات، ولكن تقاوم من، نحن أناس بسطاء وهم مدجّجون بالسلاح المتطور والدبابات والمدافع، كنت أحمل عصا وكان شبان القرية يخططون لشراء "بارودة صيد" للدفاع عن أنفسهم مقابل جيش مدرّب يمتلك كل الوسائل القتالية. هل تلاطم الكف المخرز؟ لا تتوفر إمكانيات للمقاومة أصلا.

"عرب 48": هل ما زال حلم العودة يراودك وأنت اليوم في السادسة والتسعين من عمرك؟

سالم: أتحدث عن معتقداتي التي تتوافق مع أمثالنا العربية بأنه "لا يضيع حق وراؤه مُطالب" حتى لو كان هذا الشخص آخر أصحاب الحق، فاليهودي تشرد خمسة آلاف سنة وهو يقول إن هذه أرض الميعاد وهي من حقه وهو يعلم بأنها ليست سوى كذبة. وفي النهاية أقول إنه لا يدوم إلا الحق، والحق يثبت مكانه، لكن الباطل قد يستمر لوقت معين، لكنه لا يثبت.

"عرب 48": ستعود معلول لأصحابها؟

سالم: نعم، أنا مقتنع بأنها ستعود، لكن ليس على زماني، وإذا استمر أهل بلدي بنقل الرواية إلى أبنائهم وأحفادهم كما هم اليوم فإن القضية ستبقى على قيد الحياة ولن تموت. وفي النهاية لا يدوم إلا الحق وغير الحق لا يدوم ولا أساس له. لست فيلسوف عصري وإنما هو واقع الحياة. هكذا هي الدنيا والدين والشرائع تقول "لا يدوم فيها إلا الحق"، ونحن أصحاب حق.

اقرأ/ي أيضًا | في ذكرى النكبة

التعليقات