حسام الخطيب: ناقد رائد كبير، ومثقف أصيل يحترم نفسه ودوره../ رشاد أبوشاور

الطموح إذا واحد من صفات الدكتور حسام، وهو طموح الذي يقبل على العلم والمعرفة لينفع، لا لينتفع، وهذه ميّزة من مزاياه الجوهرية الكثيرة التي قوّته، وأعانته على صروف الحياة، وحببت به طلاّبه، وقرّاءه، ومعارفه في كل بلاد العرب

حسام الخطيب: ناقد رائد كبير، ومثقف أصيل يحترم نفسه ودوره../  رشاد أبوشاور
بدأت صداقتي بالدكتور حسام الخطيب قبل أن ألتقيه، وأتعرّف به مباشرة.
قرأت له في وقت مبكّر من حياتي مقالات نقدية، دفعتني لجديتها لقراءة روايات وأعمال قصصية ما زلت اذكر إحداها، منها مقالة حول رواية ( وداعا يا أفاميا) للروائي السوري شكيب الجابري، والتي حظيت حين صدورها باهتمام، وترحيب، وثناء نادر، وكان الفضل لكثير من اهتمام القرّاء والنقّاد للدكتور حسام الخطيب بهذا العمل الروائي الرومانسي الجميل المكتوب ببراعة فنيّة.
 
ثمّ التقيت به بعد سنوات، وتعمقت بيننا صداقة أعتز بها، وهي قائمة على الحوار الدائم في كل شؤون حياتنا الفلسطينية بخاصة، والعربيّة بعامة، وبطبيعة الحال: بالكتابة الأدبية التي هي أساس هذه العلاقة، والتي منحها الدكتور حسام حياته، لأنه رأى فيها الخدمة المثمرة التي تحتاجها الأمة.
 
لفت انتباهي في وقت مبكّر أن الدكتور حسام لا يوحي بأنه أستاذ جامعي، فهو لا يأخذ سمة (الأكاديمي) المعتد بنفسه، ودرجته العلمية التي حققها من أعلى الجامعات في العالم ( كامبردج) البريطانية العريقة، ناهيك عن المواقع الجامعية الرفيعة في الجامعات التي عمل فيها، في أكثر من بلد عربي.
 
 ودفعني لاحترام الدكتور حسام لطفه غير المصطنع، بدليل أنه دائم لا ينقص، ولا يتغيّر بحسب الظروف، وهذا يدلل على أصالة، وهو يقترن بالتواضع والبعد عن الادعاء، فهو مصغ من طراز نادر، وهذه صفة من لا يعتبر انه ختم العلم، وأنه المرجع الوحيد، وأنه لا يرى مزيدا على نفسه.
 
ولعلّ من تعاملوا واقتربوا من الدكتور حسام لاحظوا رقّته النابعة من نفس صافية، رائقة، شفافة، أقرب ما تكون إلى نفوس الصوفيين الذين لا يطلبون الكثير من الدنيا، والناس، ويعطون أقصى ما تستطيع نفوسهم الطيبة بسخاء.
 
هو الآن يقترب من الثمانين، فهو مواليد 1932، وهو في هذا العمر المديد، والكدح في خدمة العلم والمعرفة، والتنقّل من بلد إلى بلد، ومن قارة إلى قارة، مازال يتألّق عطاءً، فهو لا يكّل ولا يمّل، وهو مع ما عاناه من عناء، لا يردد مع الشاعر العربي عوف بن محلم الخزاعي:
إن الثمانين وقد بلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
 
فبصر الدكتور وسمعه وبصيرته حديد والحمد لله، فهو يعتني بصحته، ولا يفرط في شيء، واعتداله يقوم على فلسفة مضمرة، يفصح عنها عمله، وجدّه، وجهده.
 
كلما التقيته في دمشق، أو الدوحة، أو غيرهما من بلاد العرب، أجده شاب السمات والروح، وكأنما جسده روّض على أداء مهمات انتدب نفسه لأدائها، خدمةً للثقافة العربيّة، وتنشئة جيل، بل أجيال، عربيّة، تتحمّل عبء النهوض بالأمة، بنهلها من العلم والمعرفة.
 
صفاته الإنسانية، ومكوناته الفكرية والروحية، هي سلاحه الذي أوصله إلى كامبردج ليتخرّج منها حاملاً الدكتوراه، ثمّ ليُدرّس فيها، وليعود من بعد ويؤدي دوره في خدمة أمته، إن في جامعة دمشق، أو تعز في اليمن، أو في جامعة قطر.
 
الطموح إذا واحد من صفات الدكتور حسام، وهو طموح الذي يقبل على العلم والمعرفة لينفع، لا لينتفع، وهذه ميّزة من مزاياه الجوهرية الكثيرة التي قوّته، وأعانته على صروف الحياة، وحببت به طلاّبه، وقرّاءه، ومعارفه في كل بلاد العرب.
 
ولد الدكتور حسام في مدينة طبرية العريقة ( المقدسة)، التي كما يصفها الدكتور أنيس صايغ في كتابه ( أنيس صايغ عن أنيس صايغ)، بأنها هبة بحيرة طبريا، ويطنب في وصف تضاريسها وقداستها، وشهادتها لثورة السيّد المسيح وحوارييه صيادي السمك، على انغلاق اليهودية المتعصبة.
 
في طبريا ولد الدكتور حسام، وعاش متنفسا نسيم بحيرتها، و لكنه ارتحل عنها مضطرا مع أسرته إلى دمشق ولمّا يبلغ السابعة عشرة، بسبب نكبة العرب في فلسطين عام 48، وهكذا امتزجت في فتوته المبكرة روح مكانين عريقين: طبرية و..دمشق.. الياسمين والتاريخ.
 
تساءلت كثيرا بيني وبين نفسي: ترى هل يمنح المكان جيناته اللامرئية لمن ولد على ثراه، أو يعيش قسطا من عمره في كنفه، كما هو شأن الدكتور حسام ابن البيئتين اللتين هما في الجوهر بيئة واحدة: طبرية الفلسطينية المقدسة، ودمشق عاصمة التاريخ وحاضرة الدنيا في أزمنة مجيدة؟!
 
في الدكتور حسام التقت جينات دمشق وطبرية، فمنحته صلابة الروح، ورقتها، وعنادها، وأناقتها، وشفافيتها.
 استقلالية شخصية الدكتور حسام تتجلّى في منجزه الأدبي، فهو لم يكن يوما ضمن ( شلّة) أدبيّة، ووضع نفسه حيث تستحق بثقة واحترام، عكس (نقّاد) اشتروا شهرتهم بالتبعية، والنمو والتلطي في ظل هذا الكاتب، أو ذاك، من المشهورين، روائيين، قصاصين، شعراءً.
 
منذ بدأ مطلع الستينيات وضع لنفسه هدفا كبيرا، هو خدمة الأدب العربي، والثقافة العربيّة، لا الترويج لهذا، أو ذاك، وهذا جلي في مسيرته.
 
وهو اختار موضوعا ينّم عن انفتاح عقلي، لعلّ أحد أسبابه دراسته في كامبردج، أقصد: الأدب والنقد المقارن، وذلك لحاجة النقّاد العرب، والمبدعين العرب، والدارسين والباحثين والأكاديميين المعنيين، للانفتاح على تطور النقد المقارن عالميا، والمبادرة لتطويره عربيّا.
 
لهذا عني الدكتور حسام بترجمة بعض الكتب المرجعية النقدية الهامة، ونقلها للعربيّة عن الإنكليزية، ناهيك عمّا كتب عن تطوّر الأدب الأوربي، ونشأة مذاهبه، واتجاهاته النقدية.
 
بدأب وكّد نبش الدكتور حسام، فأعاد إلى الحياة كتابا رائدا في الأدب المقارن، هو كتاب الفلسطيني روحي الخالدي ( تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب، وفيكتور هيغو)، وقدّم له تقديما مستفيضا، وأنصفه كرائد، وهنا تتضح روح البحث الجادة لدى الدكتور حسام، فهو يبحث عن الصعب، والمُكلف وقتا وجهدا.. والمثمر لأمته، وثقافتها، وأدبها.
 
يمكن القول بشيء من الإنصاف أن كتابات الدكتور حسام النقدية التطبيقية شكّلت علامات فارقة، وتبقى مرجعا للدارسين، والناقدين، وللمبدعين أنفسهم قاصين وروائيين.
 
هنا أتوقف لأذكّر بدراساته الريادية حول (القصّة في سوريا)، والرواية ( روايات تحت المجهر)، والرواية الفلسطينيّة في كتابه ( ظلال فلسطينية في التجربة).
 
أنصف الدكتور حسام القصّة القصيرة بما خصها به من عناية، وأعلى من قدر كتابها المبدعين، وما زلت أذكر بعض كتاباته التطبيقية حول القصة القصيرة السورية، ومنها دراسة بالغة العمق والجمال حول قصّة ( شمس صغيرة) للقاص العربي السوري الكبير زكريا تامر.
 
في زمن الكتابات الصحفية الخفيفة، والكتابات المجاملة، وأحيانا كثيرة ( المنافقة)، واصل الدكتور حسام شقّ طريقه بجدية، ونأى بنفسه عن طلب الشهرة الاستهلاكية الصحفيّة، واثقا أن ما يكتبه ويبدعه سيجد من يقدّره، ويستفيد منه.. وهذا هو الذي يدوم ويمكث في الأرض، وينفع الناس.
 
ذات يوم اطلعت على أوراق بعض طالباته في جامعة قطر، وكان يدرسهن ( تذوّق النص الأدبي)، ويتعاملن معه نقديا، لا بصما وحفظا بدون فهم، ولقد دهشت وأنا أقرأ لكثير من تلك الطالبات ما كتبنه حول قصص طلب منهن الدكتور حسام قراءتها نقديا، ومنها قصّة لي بعنوان ( المعلّم).
 
لعلها مناسبة أن أقّر بأن ما قرأته لطالبات الدكتور حسام قد بهرني، وأفرحني، لأنه ارتقى بهن إلى التذوّق الإبداعي، انطلاقا من أن دور الجامعة أن تخرّج متعلمين مثقفين مبدعين، وليس حملة شهادات لا يعرفون سوى بصم عدد من الكتب المقررة التي تُنسى مع أوّل يوم للتخرّج.
 
 يقيم الدكتور حسام منذ سنوات في دولة قطر حيث مارس التعليم الجامعي. ولأنه لا يتقاعد، فقد تبوأ موقع مدير( إدارة البحوث والدراسات الثقافية)، وهو المركز المعني بالترجمة.
 
من آخر ما وصلني من المنشورات التي يشرف عليها الدكتور حسام، الكتاب الذي حرره بالإنكليزية، وترجمه إلى العربيّة، الدكتور منير العكش، السوري المقيم في أميركا، وهو كتاب ( عروق القدس النازفة).. وهذا ليس صدفة، فالقدس تضيع وتهوّد تحت أنظار العرب والمسلمين.. بل والبشرية التي يفترض أنها معنية بهذه المدينة العريقة التي تضم أقدس ما يجمع مشاعر وعقائد البشر في العالم، شرقا وغربا.
 
هناك أمر أحسب أن كثيرين يجهلونه، مع إنه يكشف طبيعة نظرة الدكتور حسام لدور المثقف، والعلاقة بالسياسة، أوّد التوقف عنده قليلاً، وهو الوقع الذي شغله الدكتور حسام في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي هي بمثابة وزارة في الدول العربيّة، وفي موقع رئيس دائرة الشؤون الثقافية والتربوية، في الفترة بين 1969 - 1971 .. ولكنه استقال من المناصب إلى أهميته، أي وزير ثقافة وتربية وتعليم، يعني وزارتين، ولكنه استقال طوعا، وتخلّى عن المنصب الرفيع، وكتب تجربته في كتاب شديد الأهمية بعنوان (في التجربة الثورية الفلسطينية) عام 1972.
 
استقال الدكتور حسام في حين كانت فصائل فلسطينية تتزاحم للحصول على عضوية اللجنة التنفيذية، وقادة بارزون يتسابقون للفوز بمنصب عضو لجنة تنفيذية، وعاد للتعليم، والكتابة، والترجمة، وتعميق المعرفة بالنقد المقارن!
 
المثقف الذي يحترم نفسه رفض أن يكون تابعا، وصاحب كلمة غير مسموعة، بينما قضيته تمضي في وجهة أُخرى غير التي يبذل شعبه التضحيات من أجلها.
 
هنا اختار المثقف مفارقة السياسي الذي لا يسمع، ولا يناقش، ولا يقبل النقد لتصرفاته وممارساته، وهذا ما يليق بالمثقف الذي يحترم نفسه، وعقله، وقضيته، وناسه، واستقلاليته.
 
قلت إن الدكتور حسام لا يكف عن التطوّر، وهذا ما برهن عليه في كتابه الرائد ( الأدب والتكنولوجيا وجسر النص المفرّع: (HYPERTEXT).
كتب لي إهداء طريفا عندما التقيته في قطر عام 1999: العزيز رشاد: لا تنفر من هذا العنوان، فقد سخّر الله لنا الدواب والتكنولوجيا لخدمة الإنسان.
 
نحن نعيش في عصر التقنيات المتطورة التي تؤثّر على كل جوانب حياتنا، ومنها الثقافة الأدبية، والدكتور حسام المنفتح العقل على منجزات زمننا يستكشف في هذا الكتاب مستقبل العلاقة بين الثقافة الأدبية والتكنولوجيا، والمؤثرات التي ستفرضها التقنيات على الكتابة الأدبية بكل أجناسها.
 
الكتاب دعوة للمبدعين العرب لمغادرة كسلهم، والانتفاع بمنجزات التكنولوجيا، وتوظيفها في خدمة إبداعهم، وتطوير هذا الإبداع.
والدكتور حسام يتقدم صوب الثمانين فتي الروح، منتجا مثمرا كشجرة فروعها مثقلة بالثمار، وأغصانها لا تجف أبدا...
أقول له، كصديق محب: شكرا.. شكرا لك على كل ما أعطيت.. وستعطي في سنوات عمرك الخصب القادمة...
---------------------------
·       هذه الكلمة مشاركة في كتاب تكريمي للدكتور حسام الخطيب، سيصدر بمناسبة بلوغه الثمانين.

التعليقات