دور العائلة في تذويت الهويّة القوميّة من خلال المحافظة على اللغة العربيّة / مها بدر*

أنا لا أفترض بهذه السطور أنّ ما المسألة سوى "العائلة" فإن كانت كذلك لما كانت مخطّطات الصهيونيّة تطلق بسهامها نحو شبابنا اليوم بل لكانت تقصّدت العائلة بذاتها، ولكنّ عدم وعينا لأهميّة اللغة وعدم اتخاذنا خطوات جديّة للمحافظة عليها ساعد في خلق ثغرة وفي ضعضعة تمسّكتا في العربيّة والعربيّ ما من شأنه أن يخلق في الشاب العربي ميلا لتقبّل التأثير اليهودي الذي يهدف إلى أسرلة أبناءنا.

دور العائلة في تذويت الهويّة القوميّة من خلال المحافظة على اللغة العربيّة / مها بدر*

 - مها بدر -

 لكلّ عربيّ في هذه البلاد نصيبه من الاضطهاد والقمع والتمييز ضدّه، وعلى هذا، فلكلّ واحد منّا أيضا دوره الذي يجب أن يكون فاعلا فيه لردع العنصريّة وللعيش بكرامة، حيث أنّ هذا الدور لا يقتصر فقط على قيادات شعبيّة أو سياسيّة، أو نخب أكاديميّة، إنما هي وظيفة كل ضحيّة لردّ الأذى عنها، أو على أقل تقدير عدم الاستسلام والرضوخ له، وبالتالي تذويته.
 
ليس بجديد كون أحد أهمّ مشاريع الصهيونيّة للحفاظ على أمنها وسيادتها، يتمثّل في سلخنا نحن الأقليّة العربيّة في إسرائيل عن عالمنا العربي وهويّتنا القوميّة، فكرّست لذلك الهدف خططا ومشاريع لا متناهية -كالخدمة المدنيّة مثلا- لا زلنا نحاول ونعمل على التصدّي لها يوما بيوم. وإنّه لمن أهمّ مكوّنات الهويّة الفرديّة والجماعيّة والأكثر فعاليّة، هي اللغة.. فعلاقة اللغة مع أصحابها هي علاقة ثنائيّة الأطراف، تفاعليّة،  ينتج عنها التماهي بينهما، فكلّما ارتقت العربيّة، ارتقت بأهلها، وكلما تدنّت مرتبتها تتذوّت في أفرادها دونيّتها، وبالتالي التخلّي والبحث عن البديل للهويّة العربيّة، ومن ثمّ اندثار اللغة. ومن هنا ينتج أنّ حفاظنا على لغتنا العربيّة وارتقاءنا بها هو مشروع مقاوم بالدرجة الأولى للمشروع الصهيوني، وبالتالي فإنّ المسؤوليّة تقع على كلّ ناطق بالعربيّة، وكلّ منتم للحضارة العربيّة، للحفاظ على هويّته والحفاظ على بقائه.
 
وبفعل الطبيعة، فإنّ المكان الأول لنشوء واكتساب اللغة عند الأفراد هو العائلة، ذلك لأنّ السنوات الأولى من حياة الطفل تعتبر مرحلة حرجة لاكتساب اللغة، يستحيل بعدها تعلّمها، وبهذا تقع على كاهل الأهل المسؤوليّة الأكبر في إكساب الطفل لغة عربيّة سليمة، لا تشوبها المصطلحات الدخيلة، لتخلق بالتالي منظومة متكاملة من القيم التي لا بدّ أن نحرص على عدم التناقض فيما بينها، ما يساعده على تحديد هويّته بشكل سليم، وبوقت غير متأخّر.
 
ولا تكمن أهميّة الحفاظ على الهويّة العربيّة من منطلق سياسيّ فقط، وإنما على المستوى الاجتماعيّ كذلك، فعندما يعرّف الفرد نفسه عربيّا، فهو إذن يشعر بالانتماء إلى مجتمع عربي بعاداته وتقاليده، وعندما يجد الفرد نفسه تائها بين لغتين، يمتدّ هذا التيه بلا شك ليصل إلى انتمائه لمجتمع إمّا عربي أو اسرائيلي، وهنا يكمن الخطر اجتماعيّا وسياسيّا كذلك.
 
حرصت حتى الآن على تصوير تتالي المؤثّرات كما أراها، وكذلك عرض النتائج المترتّبة عليها. ينظر الكثيرون إلى رأيي هذا بأنني أبالغ، فيواجهونني بقولهم " لكأننا إن حرصنا على التكلّم بالعربيّة صافية سنحلّ القضيّة"، أو "لكأننا إن  تكلّمنا العربيّة مشوبة بالعبريّة في البيت، فإنّ شبابنا ستنحرف اجتماعيّا وتنسى كوننا نكوّن مجتمعا له خاصيّته". وبرأيي أنّ كل من يتلفّظ بهذه المقولات ما هو إلى قصير نظر لا أكثر، وإنّ هذه الادعاءات صحيحة،  فمن المنظور النفسي، إنّ التأخّر في تحديد الهويّة الفرديّة من شأنه -ومن المحتمل جدا كذلك- أن يجعل الفرد ينحرف بحثا عمّا يرضيه وما يملأ هذا الفراغ الذي يخلّفه التيه، هذا إن لم تحلّ قضيّة الهويّة الفرديّة في الفترة الزمنيّة المناسبة (فترة المراهقة)، وأما إن تمّ حل القضيّة الفرديّة نحو الانتماء إلى المجتمع الاسرائيلي، وأصبح ذلك نهجا يتخذه كل عربي، فنكون بذلك في طريق الهاوية، نحو تشرذم هويّتنا الجماعيّة، وبالتالي تحقيق المشروع الصهيوني بدون أي وعي أو إدراك.
 
أنا لا أفترض بهذه السطور أنّ ما المسألة سوى "العائلة"، فإن كانت كذلك لما كانت مخطّطات الصهيونيّة تطلق بسهامها نحو شبابنا اليوم، بل لكانت تقصّدت العائلة بذاتها، ولكنّ عدم وعينا لأهميّة اللغة وعدم اتخاذنا خطوات جديّة للمحافظة عليها، ساعد في خلق ثغرة وفي ضعضعة تمسّكنا بالعربيّة والعربيّ، ما من شأنه أن يخلق في الشاب العربي ميلا لتقبّل تأثير الآخر الذي يهدف إلى أسرلة أبنائنا.
 
وأخيرا، أعتقد أنّ الطريق تبدأ باقتناعنا بما أشرت إليه، ثمّ بإيماننا به حدّ أن يصبح قناعة داخليّة تلقائيّة، أمّا الخطوات التي علينا اتخاذها فهي سهلة إن قرّرنا بداخلنا تطبيقها، فلندفع أطفالنا لمشاهدة برامج الأطفال الناطقة بالفصحى السليمة، ولنحرص على حثّهم لقراءة الكتب المناسبة لجيلهم ذات الرقابة اللغويّة السليمة، ولنبحث عن جماليّات حضارتنا العربيّة ونزرعها في أذهان أبنائنا ليرفعوا رؤوسهم بعروبتهم!! وأخيرا، لنصنع جهدنا، لنتكلّم العربيّة الصافية، وإن "استغربنا" من ذواتنا في بادىء الأمر. وبهذا نكون بلا شكّ، نذوّت هويّتنا العربيّة في أبنائنا ونسمو بلغتنا عاليا لتسمو بنا كذلك.


* طالبة لغة عربية وعلم نفس في جامعة حيفا.

التعليقات