المسنون وفقدان الهُويات.. / روضة غنايم

المسنون يفضلون أو يرغبون في العمل والنشاط، أفضل من التقاعد والاعتزال. حيث يفضلون مواصلة نشاطهم لأطول فترة ممكنة بعد جيل التقاعد. هم بحاجة للإنجاز حتى لو كان العمل الجديد في مراتب وظيفية أدنى من التي كانوا يشغلونها قبل التقاعد، وهذه الوظيفة تساهم في إعطاء المُسن على إبقاء هدف في حياته حيث يستمد منها القوة والإيمان في الاستمرارية

المسنون وفقدان الهُويات.. / روضة غنايم

عرفت لجنة خبراء منظمة الصحة العالمية عام 1972 سن الخامسة والستين على أنه بداية كبر السن باعتبار أن هذا السن يتفق مع سن التقاعد في معظم البلدان.

إلا أنه ليس دقيقا أن نحدد سنا للشيخوخة، حيث يختلف العمر الحيوي مع العمر السنوي، ففي حين نجد بعض الناس شيوخا عاجزين في سن الستين ونجد آخرين شبابا نسبيا في جيل الثمانين من العمر، أي أن معايير الشيخوخة ليست دقيقة علميا وواقعيا، لأن ذلك له علاقة بعدة عوامل منها جسمانية وصحية ونفسية واجتماعية، فالتعريف المُنمط للمسن لا ينطبق على كل ُمسن، حيث تتفاوت المعايير من شخص لشخص، ولمواجهة المشاكل التي يمكن أن تتعرض لها هذه الفئة من الناس اهتمت المواثيق الدولية بكبار السن، حيث تمت صياغة وثيقة ( فينا ) الدولية للشيخوخة. ومن المبادئ العامة التي نادت بها خطة فينا: تعزيز كرامة الإنسان، ضمان إنصافه بين الفئات العُمرية المُختلفة في تقاسمها موارد المجتمع وحقوقه ومسؤوليته، بحسب قدرات الأفراد، وأن يقدم لهم ما يحتاجونه، وتؤكد الوثيقة أن هُناك عدة مجالات تهم المسنين، حيث ينبغي العناية بها، وإيلاؤها اهتماما خاصا، ولعل أهم هذه المجالات الصحة والتغذية، والحماية، والإسكان، والبيئة، والأسرة، والرعاية الاجتماعية.

هاجس، سن التقاعد وفقدان الهُوية المهنية

الُمسن هو الإنسان الذي انتقل لمرحلة عُمرية جديدة، مشبعة بالحكمة والتجارب الحياتية المُختلفة، هذا الإنسان عمل لسنوات طويلة وكسب المال بمجهوده الخاص، وكرس جل وقته لتربية أولاده. في مرحلة عمرية متقدمة يتقاعدون وينتقلون لمرحلة جديدة بحياتهم، حيث يشعرون أن "صلاحيتهم المهنية انتهت "، كأن المجتمع أو الدولة تخلت عن خدماتهم، وهنا يكون الامتحان لدخول المرحلة الجديدة بنجاح وسلام، ليس من السهل على إنسان كان يعمل ويكسب المال بشكل منتظم، وتعود على هذا النمط والنهج اليومي أن يتحول بين يوم وليلة إلى مُتقاعد بدون عمل وراتب في آخر الشهر، حيث يصبح يتقاضي معاشا من التامين الوطني أقل بكثير من المعاش الذي تقاضاه نتيجة عمله.

المسنون يفضلون أو يرغبون في العمل والنشاط، أفضل من التقاعد والاعتزال. حيث يفضلون مواصلة نشاطهم لأطول فترة ممكنة بعد جيل التقاعد. هم بحاجة للإنجاز حتى لو كان العمل الجديد في مراتب وظيفية أدنى من التي كانوا يشغلونها قبل التقاعد، وهذه الوظيفة تساهم في إعطاء المُسن على إبقاء هدف في حياته حيث يستمد منها القوة والإيمان في الاستمرارية.

جيل التقاعد وفقدان الهُوية المهنية هذا لا يعني أن تنقلب حياة المسن إلى حياة كئيبة وفيها مرارة، حيث بإمكانه جعلها حياة سعيدة وفيها إنتاج، حيث تعتبر هذه المرحلة كمرحلة مُتطورة في حياة الإنسان، بحالة أنه رأى بنفسه جزءا من خلية مُهمة في المجتمع. وبالمقابل المجتمع رآه كذلك. بإمكان المُتقاعد أن يفتح مصلحة أو أن يتطوع في جسم معين، أو الكتابة... العديد من الأمور يستطيع عملها في هذا السن.

هذا الأسبوع زرت عددا من المسنين في نادي المسنين بشارع حداد، في وادي النسناس، حيث استقبلني الأستاذ سمير سلامة مدير النادي، المُتقاعد من سلك التعليم عام 99، حدثني عن تجربته الشخصية والنادي

قال: "درست في مدرسة المتنبي 35 عاما، وفي عام 99 تقاعدتُ، جلستُ في البيت مدة ستة أشهر لأتحسس ما معنى الفرصة أو الجلوس في البيت دون عمل، في هذه التجربة أو دوامة الفراغ التي دخلتها بعد التقاعد أثرت بي تأثيراً سلبياً لأن الإنسان عندما يعتاد على العمل لا يمكن له أن يعتاد على الفراغ، لذلك يجب على كل إنسان، أن يفكر جليا بما يمكنه عمله بعد جيل التقاعد مستقبلا، بعد إجازة الستة أشهر بحثت عن عمل جديد بعد قناعة تامة في استمرارية نشاطي وعطائي، حيث انخرطت في سلك الإرشاد عند البهائيين كمرشد سياحي لمدة 6 سنوات، إضافة إلى انتمائي لمجموعة من المتقاعدين عند حلاق القرية في شارع عباس، وهناك راودتني فكرة إقامة ناد لنا، ولحسن فكرتي أنها تزامنت مع مناقصة لإدارة نادي المُسنين حيث تقدمت للوظيفة وقبلت لها".

لنادي المُسنين أهمية كبيرة لدى المُسنين، هو عبارة عن مُتنفس لهم والخروج من البيت لملاقاة زملائهم لتبادل الحديث وشرب القهوة والشاي. ولعب طاولة الزهر ولعب الورق. يعتبر النادي مكانا دافئا لهم يجلسون فيه بين 4-6 ساعات يوميا،حيث يقدم لهم النادي خدمات ترفيهية من رحلات وحفلات ومحاضرات بمواضيع مُتعددة.

فقدان الهُوية الزوجية والوحدة التي يُعاني مِنها المُسن/ه

عندما يفقد الزوج زوجته بعد عقود من العشرة والمشاركة اليومية بجميع أمور الحياة، هذا الأمر ليس بالسهل على الإنسان بشكل عام، وعندما يفقدها بجيل مُتقدم في السن، فالأمر يبدو أصعب عليه، هذا الفقدان يخلق عنده شعورا بالوحدة، والروتين، وأحيانا الخوف، وجود الأبناء لا يعوض الفقدان أو تعبئة تلك الفراغ العاطفي.

عن ذلك حدثني أحد المسنين (83 عاما) الذي فقد زوجته قبل عام. حيث قال: " قبل عام كان حالي أفضل. اليوم بعد سنة حالي زفت، عشت ُ معها تسعة وخمسين عاما، كانت من أحلى الأيام، أنجبنا الأبناء وقمنا بتربيتهم معا حتى تزويجهم، سافرنا رحلات، كنا كل عام ننتظر عيد زواجنا لكي نسافر ونحتفل به، حتى في عيد العشاق في 14 شباط كنا نتسامر ونخرج ونعمل غراميات. رحلت قبل عام وتركتني وحيدا، هذه السنة من أصعب سنين حياتي، الوحدة قاسية جدا، كم أتمنى أن أموت لكي اذهب إلى حضنها لتضمني لصدرها، كل يوم أحد أذهب لقبرها مع ضمة ورد، عند دفنها اشتريت قطعة أرض بجانب قبرها.. هذه كانت غزالتي كانت حياتي، كنا نتحدث في أمور الحياة، كنا نتناول الطعام معا، اليوم أنهض لوحدي آكل لوحدي وأنام لوحدي، أعيش مع صورتها المعلقة على حائط البيت، أبكي هُناك.
أذكر عندما كنت طفلا كانت جدتي تحكي لي حكايات عن أمير العرب، أذكر أنها قالت لي شيئا وعلق بذهني بجيل سبعة أعوام، لكن استشعرت ذلك بحرقة، حين تركتني شريكة عُمري، حيث قال الأمير هذا هذا الرثاء عند موت زوجته:
"تمنيت يا حُبي أنت تموت، أموت وأنزل على سوق الخشب ومسمر التابوت مسمار من فضة ومسمار من ياقوت ليشع الخبر حُبين في تابوت.. وعن نفسي أتمنى ذلك ".

ومُسن آخر في التسعين من عمرة قال: "أعاني معاناة شديدة من الوحدة، والسبب الأول تقدمي في السن، حيث قبل أسبوع مرضت والتزمت البيت ولم يكن معي أحد لمساعدتي أو رعايتي أو حتى تقديم كأس ماء وحبة الدواء لي، فقدت زوجتي قبل سبعة أعوام، أبنائي متواجدون خارج المدينة. والسبب الثاني الونس لا يوجد شريكة تؤنسني بوحدتي، وأيضا كوني كنت إنسانا اجتماعيا ونشيطا سياسيا واجتماعيا، يصعب علي أنني وحيد اليوم".

وحدثتني مُسنة في التسعين من عُمرها عند زيارتي لها في بيتها، عن الوحدة التي تُعاني منها حيث قالت: "قبل عشر سنوات توفي زوجي، بقيت وحيدة، أنجبت ولدا وبنتا وهم يعيشون في مكان بعيد عني، أشعر بوحدة قاسية، الوحدة قاتلة جدا، أشعر بها أكثر عند غروب الشمس، حيث يمتلكني خوف شديد، وكان الدنيا أصبحت سوداء، والغول سيأتي ويخذني معه. أخاف جدا في الليل، أخاف أن أموت وحدي، أشعر بالملل، أضع راسي على الوسادة وأحدق في الحيطان، أغفو قليلا وأفيق مرة أخرى في الثالثة صباحا لأحدق مرة أخرى في جدران البيت".

وعند سؤالي لهم عن إمكانية الزواج ؟

أحدهم نفى الموضوع بشكل قاطع حيث قال: "لا أستطيع إدخال امرأة أخرى لبيتي بعد رحيل زوجتي، لا أتخيل نفسي أنني أقول كلمة احبك لامرأة غير زوجتي".

وآخر قال: "بالنسبة لي أفضل أن تسكن معي امرأة كصديقة، لا أريد حياة جنسية معها، أصبح هذا الأمر بالنسبة لي غير مُهم، أريد حياة روحانية وعاطفية داعمة، لكن في مُجتمعنا لا يقبلون فكرة الصديقة، بينما في المجتمعات الغربية، يعيشون معا كأصدقاء دون التزامات".
 

التعليقات