زيارة المعبد: جعلتني أحصل على قلب شاعر/ روضة غنايم *

في إحدى صباحات حيفا الجميلة، زرت معبد عباس بهاء الدين الواقع في أعلى حديقة البهائيين، لم أزره منذ سنوات طويلة، رغم أنه على مرمى حجرٍ من بيتي، أدركت بإحساس داخلي عند وصولي المكان، أن تحديد زيارتي في ذلك اليوم لم يكن بمحض الصدفة، شعرت كأنني على موعدٍ حان وقته!

زيارة المعبد: جعلتني أحصل على قلب شاعر/ روضة غنايم *

في إحدى صباحات حيفا الجميلة، زرت معبد عباس بهاء الدين الواقع في أعلى حديقة البهائيين، لم أزره منذ سنوات طويلة، رغم أنه على مرمى حجرٍ من بيتي، أدركت بإحساس داخلي عند وصولي المكان، أن تحديد زيارتي في ذلك اليوم لم يكن بمحض الصدفة، شعرت كأنني على موعدٍ حان وقته!

دخلت باب الحديقة وتجولت قليلاً فيها، ثم ذهبت إلى مبنى المعبد بقبته الذهبية الذي يُسمى مقام الباب – قبة عباس، المعبد الأقدس لدى البهائيين في العالم أجمع، وهو مكان مفتوح لكل الزوار من أهل البلاد، والسياح من أتباع مختلف الأديان والثقافات، توقفت عند المكان المخصص للدخول، كان علي الانتظار حتى تنهي مجموعة من الزوار زيارتها للمعبد، بعد وقت قصير تمكنت من الدخول ضمن مجموعة أخرى من الزوار.

جُلتً بعينيَ في أرجاء المكان في كل الجهات، وفجأة رأيت على يساري أحدهم يُصلي وحده راكعاً وساجداً حسب أصول الصلاة الإسلامية، تقف إلى جانبه امرأة غَربية الملامح تنتظر انتهاءه من الصلاة، تابعت النظر إليه، وبعد لحظات اختفى من المكان، لكن شيئاً ما أثار غريزة الفضول لدي، شعرت برغبة للتعرف عليه... انتهيت من زيارة المعبد، ثم اتجهت نحو الباحة الخارجية ولحسن حظي وجدته واقفاً مع حارس بهائي يحدثه باللغة العربية، نفس الحارس الذي تكلم معي الانجليزية قبل دخولي المعبد... أثار فضولي معرفة ذلك الرجل.

اتجهت إليه وسألته دون تردد هل انت من حيفا؟ أجابني: تركت حيفا صغيرا، كان عمري ستة أعوام لا أكثر، رحلت مع الذين رحلوا من أهل حيفا، وأعيش الآن في كندا، هاجرت إلى تلك البلاد البعيدة قبل ما يقرب من اثنين وأربعين عاما، وأنا الآن مع زوجتي نزورحيفا، وصلنا هنا قبل يومين.

سألته على التو وكأن كندا "بلدة" صغيرة، وليست أكبر بلد في العالم من حيث المساحة بعد روسيا، هل تعرف الدكتور سميح مسعود المقيم أيضا في كندا، والذي زار حيفا قبل فترة وجيزة من الزمن؟ أجابني فورا: نعم إنه من أقاربي ولكنني بسبب ظروف الشتات لم ألتق به حتى الآن. لقد قرأت كتابه الأخير(حيفا.. بُرقة البحث عن الجذور) وجدت نسخة منه عند أختي شوقية في عمان، التي سأزورها في نهاية الأسبوع الحالي، كتابه عبارة عن رواية تسجيلية أسعدني أنه ذكر فيها والدي الشاعر عبد الهادي كامل.

في هذة اللحظة انتابتني قشعريرة غريبة لهذة المصادفة. تمنيت لو يتوقف الزمن للحظات لكي استوعب هذه المصادفة الغريبة جدا! قلت له: في نهاية هذا الأسبوع سأزوره هو وزوجته في بيتهما في عمان.

تركته ليواصل رحلتة السياحية في حيفا، بعد أن اتفقنا على اللقاء في المساء لنكمل حديثنا الشيق، دعاني لزيارته مع زوجته في مكان إقامتهما (راهبات الوردية، في شارع يافا) ووعدني أن يعرفني على بيت أهله الذي ترعرع فيه في أيام صباه، والذي يقع على مقربة من فندقه، في شارع البساتين رقم 23 في حي الألمانية.

وصلت الفندق في الوقت المتفق عليه في تمام الساعة الخامسة مساء، وجدته وزوجته، وهي من أصول أوروبية ينتظرانني في باحة الوردية.

قدم لي نفسه، هزارعبد الهادي الحاج مدرس تاريخ متقاعد، أصل عائلتة من قرية سبسطية قضاء نابلس، من مواليد قرية جفتا عام 1943، عاش كما بينت قبل قليل مع عائلته ست سنوات في مدينة حيفا حتى عام 1948 في بيت يقع في شارع البساتين في حي الألمانية، عمل والده الشاعر عبد الهادي كامل بوظيفة مفتش في سلك البوليس الفلسطيني في حيفا في فترة الانتداب البريطاني، وبعد انتهاء عمله في سلك البوليس الفلسطيني وانتهاء الانتداب البريطاني، عمت فلسطين الاضطرابات والقلاقل، فاضطر مثله مثل غيره من أبناء جيله إلى الرحيل خارج فلسطين، فتوجه بعائلته إلى دمشق حيث عمل فيها في الأونروا مفتشا في التربية والتعليم، ومن ثم أصبح مديراً لمنطقة دمشق في تلك الوكالة، ومن دمشق انتقل للاستقرار في عمان حيث بقي فيها حتى توفّاه الله عام 1996.

أخذت معي كتاب قريبه "حيفا بُرقة البحث عن الجذور" الذي تم إشهاره في حيفا في شهر آب الماضي، لكي اقرأ معه ما كتب عن والده من معلومات وأعرف منه من هو والده؟

في صفحة (126) من الكتاب، كتب سميح عن والد هزار "سرت في طريق العودة مع حريص وصاحبه، وحين وصلنا إلى ساحة القرية، رأيت والدي جالسا في المقهى مع اثنين آخرين، لوّح لي بيده عن بُعد طالباً مني الانضمام إليهم... دخلت المقهى، ووجدت أن الجالسَين مع والدي أحدهما ابن عمتي موسى والآخر عبد الهادي كامل قريبنا وزوج بنت عمتي، وقد زارنا في منزلنا في حيفا عدة مرات".

"بعد فترة من الزمن غيّر والدي مسار حديثهم وسمعته يسأل قريبنا عبد الهادي عن الشعر وعن آخر نتاجه الشعري.. فهمت من إجابته أنه كان ينشر في بداياته الشعرية باسم مستعار "الهادي المحجوب"، ثم بدأ ينشر باسمه الصريح بعد أن نشر قصيدة له في مجلة الرسالة المصرية الشهيرة، وأنه بدأ يبرز في الأوساط الأدبية في فلسطين والدول العربية بعد أن فاز بمسابقة هيئة الإذاعة البريطانية في لندن عام 1942 بالجائزة الأولى عن قصيدته المعروفة بعنوان "الوحدة العربية".

حدثني هزار بشغف ومحبة عن والده وعن ذكرياته معه في حيفا، وعن مدى حبه للعلم فقد عَلم جميع أولاده وبناته، حيث أنجب عشرة أبناء وثلاث بنات، منهم الطبيب والمهندس والمربي والمحاسب والصيدلانية، كان والده اجتماعيا، محبا للخير، يطبّق في تعامله مع الآخرين القيم الاجتماعية والمثل العليا التي كان يؤمن بها ويعمل من أجلها. كان صديقا لمعظم الشعراء الفلسطينيين كالمرحوم عبد الرحيم محمود والمرحوم إبراهيم طوقان، والمرحوم عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وآخرين من أهل الفكر والعلم والأدب على امتداد ساحة العالم العربي كله.

الحديث شيق والمصادفة غريبة، طلبت من هزار أن نذهب لرؤية بيت أهله في شارع البساتين، ونكمل حديثنا في بيت شقيقته شوقية في عمان في الأسبوع القادم.

أعلمت الدكتور سميح هاتفيا بتعرفي على هزار، تفاجأ، وفرح لهذا اللقاء الذي جمعني بقريبه، وقال لي: "التقيت بالشاعر عبد الهادي كامل في عام 1959 ولم ألتق بعدها به أو بأولاده وبناته". وأضاف "منذ فترة وأنا أنوي زيارة عائلته، وأنت بتعرفك على هزار ستعجلي من الزيارة".

في مساء اليوم الثالث من زيارتي لعمان التي استغرقت أسبوعيين في شهر كانون الأول الماضي، اتجهت برفقة الدكتور سميح وزوجته رويدة إلى منطقة طبربور في عمان، حيث يقع بيت شوقية عبد الهادي المربية المتقاعدة أخت هزار... استقبلتنا هي وزوجها أبو محمد بترحاب ومحبة كبيرة، وكانت سعيدة وفرحة لزيارتنا لها، خاصة وأنها تلتقي لأول مرة وجها لوجه مع ابن خالها سميح... كانت الجلسة دافئة جدا بحضور زوجها بشير وإخوتها الدكتور غياث وهزار وزوجته الينا والأستاذ شوقي وابنتها وابنها محمد وحيدها وزوجته، الذي قام بقراءة قصائد من ديوان شعر جده.

الشاعرالراحل عبد الهادي كامل كان الغائب الحاضر في مجلسنا، فقد تحدث الكل عنه وعن شعره وعن محطات كثيرة من حياته، رددوا من شعره عدة قصائد، وأثبتوا أنهم يحفظون الكثير من شعره عن ظهر قلب، ويحافظون بهذا على ثروة شعرية تركها لهم تتناول مختلف مجالات الحياة الوطنية والاجتماعية والإنسانية، هذه الثروة التي تركها لأولاده ربطت وصالهم بشكل متين، وزادت من تماسكهم.

هل يا تُرى لو ترك لهم ثروة أو تركة مادية كان بالإمكان الحصول على نفس النتيجة؟ برأ يي التركة الروحّية التي تركها لهم لا تضاهيها كل أموال الدنيا، إنها تعطيهم معيناً من المحبة لا ينضب.

أهدوني ديوان شعره وعنوانه (قلب شاعر) من تقديم ابنه الدكتور غياث عبد الهادي، الذي قام بتجميع أشعاروالده من بعض الصحف والمجلات مثل: المهماز في حيفا، صوت الشعب في بيت لحم، الثقافة في سوريا، رسالة المعلم في الأردن، الدفاع في القدس، وفلسطين والإقدام في يافا.

هناك مراجع كثيرة كتبت عن الشاعر عبد الهادي كامل، منها كتاب "شعراء حيفا" للمرحوم الدكتور قسطندي الخوري، الصادر في حيفا، وكتاب "أعلام من أرض السلام"، الذي أصدره في حيفا الأستاذ عرفان أبو حمد، و كتاب " من أعلام الفكر والادب في فلسطين" وقد صدر في عمان عام 1979 وغيرها من المراجع الاخرى.

حدثتني ابنته شوقية وهي من مواليد عام 1935 عن ذكرياتها في حيفا حيث درست فيها سنة واحدة وعن قيامها عام 1958 بإلقاء قصيدة من شعر والدها بعنوان "عبد الناصر" (منشورة في صفحة ص 66 من الديوان) أمام جمال عبد الناصر في قصر الضيافة في سورياعندما كانت طالبة في جامعة دمشق.

ومن القصائد لتي نظمها الشاعر عبد الهادي كامل في مدينة حيفا ( ومسجلة في ديوانه قلب شاعر) القصائد التالية:
قصيدة (اليرموك عام 1944) إحياء لذكرى اليرموك في تلك السنة؛
وقصيدة (الحياة عام 1943) التي عبر بها عن عوامل نفسية وانفعالات وجدانية خاصة وقد نشرت في مجلة المهماز التي كانت تصدر في حيفا آنذاك؛
وقصيدة (الربيع عام 1948) وقد نظمها بعد أن استهواه فصل الربيع كغيره من الناس في حيفا، وخاصة في كرملها الجميل وكان ذلك قبل سقوطها ببضع أسابيع؛
وقصيدة (المسيح، 1944) بمناسبة عيد الميلاد أثناء وجوده في حيفا مشاركة لإخوانه المسيحيين الذين شاركوه أعياده؛
وقصيدة (الفتاة العربية عام 1946) كتعبير عن مشاعره نحو الفتاة العربية التي كانت تعيش في حالة مؤلمة من التخلف والجهل، وقد ألقيت في حفلة نسائية في النادي الأورثوذكسي في حيفا؛
وقصيدة (عالم الغد عام 1939) استشعر فيها ما سيكون عليه عالم الغد بعد الحرب العالمية. ومن قصائده الأخرى على سبيل المثال لا الحصر: قصيدة بعنوان ( المطربة أسمهان عام 1934) نظمها حين زارت المطربة أسمهان الأطرش القدس عام 1934 لإحياء حفلة فيها. وقصيدة أخرى بعنوان (غاندي عام 1948 ) نظمها بمناسبة اغتيال الزعيم الهندي المهاتما غاندي الذي اغتيل غدرا بلا ذنب، في وقت كان كل همه عمل الخير وإحلال الوئام بين المسلمين والهندوس. وقصيدة (القمر) وقد نظم هذة القصيدة بمناسبة توالي صعود مراكب الفضاء إلى القمر وهبوطها على سطحة في الستينيات من القرن الماضي. وفي نهاية الزيارة حملت معي ديوان ( قلب شاعر) إهداء مقدما من شوقية وهزار والدكتور غياث وشوقي، تعبيراُ عن لقاء تم بالصدفة المحضة مع هزار في حيفا.

التعليقات