28/09/2010 - 15:26

ما تبقى من رامي../ علي نصوح مواسي

قطعت رصاصَةُ راشد مرشد الطّريقَ أمامَ مسيرةِ رامي المفترضة تلك، جمّدتهُ في عامه الواحد والعشرين، أوقفت أحلامه عند الأوّل من أكتوبر من العام 2000

ما تبقى من رامي../ علي نصوح مواسي

علي مواسي

* نفذت من حوله الحجارة، " فخرط " شجرة جوافةٍ قريبةٍ ليرجم هو وصحبه بحبّاتها الجنود.

- ولك شو اللّي قاعد بتعملوا؟! لعنت أبو فشّتها للشّجرة!! ( قال صاحب الكازيّة ).

- ولااااو.. خايف على الشّجرة!! هسّة بروح أجيبلك "مشتاح" جوافة عن شجرتنا، تخفش.

نفذت حبّات الجوافةِ ولم تنفذ رصاصاتُ الجُنود، فما كان أمامه سوى حجرِ " بلوك " يخلعه من سورٍ احتمى به الشّباب من مطرِ الطّلقات، من فتاته ردّوا على الأزيز.

- وللللللللك شو اللّي عملتوووووو.. خرّبت السّنسلة وللللللللك. ( صرخ صاحب الكازيّة ).

- عليّ الحرام بس يتحرّر الأقصى غير أجيبلك سيّارتين بلوك يا زلمة.

قالها.. وقبل أن تنطق قبضته السّمراء كلمتها الأخيرة، كانت رصاصةُ الغدرِ قد عرفت طريقها إلى عينه اليُسرى، فأردت نورها قتيلا.

................................

* رامي اليوم ابنُ واحدٍ وثلاثينَ عامًا، يعيشُ حياتهُ في قريته جتّ كأيّ واحدٍ منّا، يغرقُ في ظلالِ الانشغالاتِ والهمومِ اليوميّة، بعيدًا عن الأضواءِ والإعلام والمنصّاتِ والمنابر والصّور.

 تعلّم صنعةً يكسب منها قوتَ يومه بعد أن أتمّ سنوات دراسته في مدرسة (( عَمالْ )) بالطّيبة.. عمّر بيتهُ وتزوّجَ ككلّ أبناء جيله، أنجبَ طفلاً أسماهُ: (( حاتم ))، على اسمِ أبيهِ، فرامي الابنُ البكر لدار أبي رامي.. ثمّ ألحقَ حاتمًا بطفلتين جميلتين أخريين، وما يزالُ ينتظرُ طفله الرّابع، فهوَ يريدُ أن يكون له من الأبناء ولدين وبنتين، تمامًا مثل والديه.. هذا حلمه مذ كان عمره عشرينَ عامًا.

رامي اليوم، ككلّ واحدٍ منّا، يلعن السّاعة الّتي جاءَ فيها الغرباءُ إلى البلد، ليأخذوا خيراتها ويبقوا لنا الفتات، وليجعلونا نعيش نحن أهل البلاد الأصليونَ، كدخلاءَ وعابري سبيلٍ في أرضنا..

وكما أغضبته صورةُ ذبحِ محمّد الدّرّة عام 2000، فخرج منتفضًا إلى الشّارع، فإنّه اليومَ يخرجُ عن طوعه كلّما شاهد صورة طفلٍ يسقط تحت أسياف الحصار.

................................

* قطعت رصاصَةُ راشد مرشد الطّريقَ أمامَ مسيرةِ رامي المفترضة تلك، جمّدتهُ في عامه الواحد والعشرين، أوقفت أحلامه عند الأوّل من أكتوبر من العام 2000.. لولا تلك الرّصاصة لكان من الممكن لكلّ ذلك أن يغدوَ واقعًا، لا مجرّد خيالٍ في أذهان أهله ومحبّيه.

* أكلة الـ (( جولش )) تعني لدار أبي رامي الكثير، فقد كان إبنهم الشّهيدُ يحبّها كثيرًا، يطلبها من والدته دائمًا: " بدّي تعمليلي أكل عرس "، ولذلك تتجنّبُ الحاجّة رشديّة طبخها إلاّ نادرًا، فمتى فاحت رائحتها في أرجاء البيت، حضر رامي بقوّة، وحضرت معه الدّموع...

وكثيرًا ما يحضرُ رامي فتحضرُ معه ابتساماتٌ وضحكاتٌ عالية في البيت، إذ كان مرحًا بشوشًا كثير المزاح، يحبّ أن " يمسك روسًا " ويصنع " نهفات " مع أهله وأصحابه، كثير الحركة، لا يهدأ، وأجمل ما فيه أنّه كان مشاغبًا في مدرسته ومحبوبًا في آن، يغضبُ مدير مدرسته، الأستاذ خالد الجسّار، وسرعانَ ما يمتصّ غضبه بابتسامةِ شبابٍ وغمّازتينِ شقيّتينِ وكلامٍ معسول.

* ملابس رامي وأغراضه الّتي كانت معهُ لحظة قُتِل، اضطّرّ أهله أن يتوجّهوا إلى القضاء حتّى توافق إدارة مستشفى (( هيلل يافي )) على إعطائها لهم، ولم يستلموها إلاّ بعد سنةٍ من تاريخِ استشهاده: بلوزته البيضاء المخضّبة بالنّجيع، بنطلونه الجينز الأزرق، حذاؤه الرّياضيّ الّذي اعتادَ أن يرشّه عطرًا فرط اعتنائه بنظافته وأناقته كلّما أراد الخروج من البيت، محفظته الجلديّة، كان فيها بعض نقودٍ وصور وأوراق، والأهمّ، سلسلته الذّهبيّة الّتي علّق فيها يدًا تعصرُ حجرا.

ملابسه وأغراضه الآن في غرفته، غرفةٌ لم يؤثّر فيها تركُ صاحبها لها كلّ هذا الزّمان، فبقيت بكلّ ما فيها من تفاصيل على ما كانت عليه عندما غادرها آخر مرّة، سريره مرتّبٌ كما رتّب قبل عشر سنين، قنينةُ الماءِ إلى جانب سريره وصحنُ الحلوى المغلّف لم يتزحزحا من مكانيهما، جيتاره الذي كان يعزف عليه، أعماله اليدويّة من الجبصين، وقناني الرّمل المزيّنة التي كان يملؤها بنفسه، ملابسه، عطوره الكثيرة، أحذيته، تحفه، لوحات حائطه، رسوماته.. كلّ شيءٍ كما هو، يستفزُّ جرحًا لم يندمل بعد.

* خولة أخت رامي، والتي تعلمت من أخيها الكبير الرسم، لا تزال تحتفظ برسوماتٍ نقلتها من كتاب لناجي العلي نزولاً عند رغبة أخيها.. رسومات تعكس تماما ما ستكون عليه الأحداث بعد أيام من رسمها لها، وكأن رامي يتنبأ بالقادم الآتي.

خولة اليوم، إبنة الخامسة والعشرين، تلمس في حديثها ثقة وقوة وجسارة غير عادية، تقول إنها استمدتها ممّا أراها الزّمان.. تصرّ على أنها فرحة وسعيدة في حياتها رغم كل الألم، غير فاقدة للأمل أبدا، كانت تحب الحياة وأحبتها من أجل أخيها أكثر، وقررت أن تستمر بها بكل عزم.. تحمل خولة اليوم لقب الماجستير في علم النفس من جامعة اليرموك الأردنية، تعمل.. تروي تفاصيل دراستها بسخريةٍ واستهزاءٍ يخفيانِ مرارةً كبيرةً للمضايقات والمساءلات التي لقيتها من أجهزة الأمن والمخابرات على جانبيّ المعبر، لمجرّد أنّها أخت شهيد!!!

* " بتعرف شغلة.. نفسي أستشهد.. "، كان ذلك آخر كلام قاله رامي لأخيه الصغير أمير.. أمير الذي تفجر غضبا عندما قام المسؤولون عن حملة إعلانات حزب العمل بتعليق صور لباراك وبيريز ( المسؤولين عن قتل رامي ) فوق نصب أخيه التذكاري تماما. والذي وجد نفسه محاصرا بالشرطة، يشده أحدهم من على العامود الذي صعد إليه ليزيل الصور، وذلك حتى يتم اعتقاله.. اتُّهِمَ رامي بالاعتداء على الشرطيّ، وحكم بثلاث سنوات ونصف مع وقف التنفيذ، مما حرمه أن يكمل دراسته الأكاديمية ويتابع حياته بشكل طبيعي. أمير، ابن التاسعة والعشرين اليوم، عمّر بيتا جميلا، وبانتظار أن يتزوج قريبا، بيت تقول العائلة: " إنّه وكلّ أموال الدّنيا لا تسوى ( كندرة ) برجل رامي، ومع ذلك لا بدّ من الاستمرار بالحياة."

* صبيحة الأوّل من أكتوبر، هزّ رامي بيان، إبنة الثامنة، بقوّة، وهو يقول لها: "متعيطيش.. بقوللك متعيطيش.. فهمتِ؟"، سألت الأمّ: " ليش بتقولها هيك؟! شايفها بتعيط يعني؟! ".

اضطّرت الطفلة بيان أن تبكي مساءَ ذلك اليوم كثيرًا لرحيل أخيها.. أخ لم يترك لها سوى ذكريات جميلة وكثير من ألم. وعندما أرادت مؤخرا مشاركة أبناء صفها بها في مدرسة جت الثانوية، وأن تحدثهم عن هبة القدس والأقصى في ذكراها، منعت من ذلك، فخرجت بكل كبريائها من الصف وجلست وحيدة مع صمتها.

متعبناش ومزهقناش وميئسناش..

* العمّ حاتم، اقتحم السكري جسده بعد أن سقط ابنه في وكر الحاقدين، يمرّ بمحمصه مئات الأطفال كلّ يوم وهم في طريقهم إلى المدرسة، يؤلمه أن الاجيال الصاعدة لا تعرف شيئا عن الموضوع، يسأله الأطفال عن الفتى الذي تظهر صورته في النصب أمام المحلّ حيث كان يجلس رامي عادة: " أنو هاظ؟! "، أمّا أبو رامي فلا يملّ من الإجابة عن سؤالاتهم البريئة.. كما لم يملّ أبدا هو وزوجته خلال العشر سنين التي مضت بالمطالبة بحقّهم في محاسبة قاتل ابنهم، يذكرون بدقة كل المرافعات أمام القضاء والتحقيقات في لجنة أور، والاجتماعات في مركز عدالة ولجنة المتابعة، والاعتصامات والمظاهرات والزيارات والمسيرات، يؤكّدون: " مزهقناش ومتعبناش وميئسناش، ولا راح نزهق ونتعب ونيأس ".

* أم رامي لا تتوقّف عن البكاء لحظةً طوال الحديث عن رامي، تروي لك تفاصيل مستفيضة وشائقة عن آخر لحظاتٍ قضاها رامي في البيت، عن قلقها وتخبطها قبل أيام من حادث الاستشهاد، عن آخر كلام قاله رامي.. كان يسأل عنها بصورة مبالغة آخر أيامه، وقد قال لها فجأة مرّة: " يا بيييّ شو راح تعملي قهوة وييجي عنّا ناس "، كما أنه قبيل استشهاده زار جدّته هو وأصحابه، فسألته: " ولك ليش حالق إقرع هيك؟! " فأجابها: " يلاّ بهمّش.. مهي آخر حلقة ".. بمثل تلك الذكريات الجميلة تحب أم الشهيد أن تخلد ذكر ابنها.

كلّما ذكر اسم راشد مرشد أمامها ( قاتل ابنها )، اشمأزّت، ثارت وغضبت، صرخت: " الله يعذبوا مثل ما عذّبني، الله يحرق قلبوا مثل ما حرق قلبي، الله يكوي فشته مثل ما كوى فشتي.. الله ريتني أموت وأشوفه ميت مثل ما موّت إبني."

تحكي لك عن آلامها وجراحها، عن فرحتها التي صودرت منها إلى الأبد باغتيال ابنها، عن حسرتها لجهل الناس وعدم وعيهم.

من أوّل أكتوبر وحتى أوّل أكتوبر نعيش الذّكرى

* " أعوذ بالله.. أعوذ بالله إحنا ننساه.. العشر سنين زي كأنهن عشر ثواني... كأنه هسّة مستشهد ".. بذلك ستجيبك عائلة رامي إذما سألتهم عن حضور رامي في ذاكرتهم، وهل استطاعت السنين أن تغيّبه، وسيؤكدون لك أنّ الذكرى لديهم تستمر من أول أكتوبر حتى أول أكتوبر الذي يليه.

يؤلم عائلة رامي، كما كلّ ذوي الشهداء، أن تتحول أحداث أكتوبر إلى مجرد ذكرى تستثير الحنين والبكاء، وأن لا يتمّ الحديث عنها إلاّ يوم حلولها، من دون استثمارها وطنيا وقوميا: " أهلا وسهلا.. بس الصحافة بتجيناش وبتذكروناش إلا يوم الذكرى " ( تقول أم رامي ).. كما يؤلمهم أن تتحول المسيرات والاعتصامات إلى منصات تنافس سياسيّ، وإلى ساحات لعرض الأعلام الحزبية.. ويرون أن قضيتهم قضية وطن وشعب وهوية، مسألة قومية وإنسانية بامتياز، ولذلك فهم يتوقعون من الناس والقيادات أن يبادروا إلى عقد أنشطة وفعاليات توعوية حول الموضوع طول السنة، وأن يعدوا لإحياء الذكرى قبل مدة كافية، لا قبل أسبوع من الذكرى.. أن يتخيّل كلّ واحدٍ من النّاس، أنّه هو نفسه، أو ربّما أحد أعزّائه، كان من الممكن أن يكون في موقع رامي، لأنّ المستهدف هو العربيّ وجودًا وهويّة وقضيّة.

التعليقات