31/10/2010 - 11:02

إذا عدت فاحذرهم يا سيّدي!/ رشاد أبو شاور

-

إذا عدت فاحذرهم يا سيّدي!/ رشاد أبو شاور
راح عام 2005، وكغيره من الأعوام ترك ندوباً في الروح، كأنما كان ينقصنا المزيد...

في العام 2005 احترق قلبي على شهداء لا أعرفهم، فلسطين هي الحبل السرّي بين روحي وأرواحهم. نحت مع أمهات تخيّلتهن ينطوين على أنفسهن في عتمة البيوت، بكبرياء، حتى لا يراهنّ أحد، هنّ اللواتي أطلقن الزغاريد متباهيات باستشهاد فلذات الأكباد.

ارتجفت روحي قهراً وغضباً وأنا أشاهد عبر الفضائيات أكفّ أطفال فلسطينيين ترفع الرايات، وأصابعهم الرقيقة الداكنة تجمع نتفاً من لحم بشري محترق تناثر مع شظايا سيارات قصفتها الطائرات بصواريخ صهرت معدنها، إمعاناً في قتل الفلسطينيين حرقاً.

سيّارات هي بعض (محارق)، لا تنطفئ في مدينة إلاً لتشتعل في مخيم، ثمّ في قرية، وهكذا دون توقّف...

في ختام العام 2005، والخاتمة دموية كالبداية، رأيت أماً تمضي وراء جنازة ابنها، وجثمانه مرفوع على الأكف، وهي تمشي ذاهلةً، ضاربةً كفّاً بكّف، تتكلّم مع نفسها، كما هو شأن الشعب الفلسطيني الذي يغلق عالم النفاق أذنيه وعينيه عن سماع ورؤية معاناته الجحيميّة:
ـ الله يرحمه، هو قليل ما عملوه فينا! من كثر ما شاف يا حبيبي...

لا، ليست كلمات متقاطعة هذه، إنها جزء من مونولوج فلسطيني جماعي: أهو قليل ما يفعله بنا المحتلّون؟ ما يفعلونه يدفع أبناءنا وبناتنا أن يهاجموا الدبابات بالحجارة ـ معركة لامعقولة! ـ وأن يطلقوا رصاص بنادقهم المتواضعة على الطائرات الأسرع من الصوت، وأن يصرخوا حتى الاستشهاد حتى لا يموتوا في (الخزّان) بصمت ...

في العام 2005: كتبت شخصيّاً: مقالات، قصصاً قصيرة، مشاريع روايات أجمع لها المعلومات، أتأمّل شخوصها، أعيش معها، أحلم بإنجازها، لا للشهرة، ولكن لأنني لا أريدها أن تموت معي عندما تحين ساعة الرحيل، إنها أمانة في (ذاكرتي)...

في العام 2005 تابعت أعمال المقاومة العراقيّة، وارتفعت روحي المعنويّة، فبالمقاومة يحيا الإنسان لا بالخبز، لأن المقاومة وعي، وفعل، وإبداع، ومعنى حياة...

هكذا كانت المقاومة في فلسطين، وهكذا ستبقي رغم (البثور) والطحالب، والأبطال المزيفين...
يا من كلّلت بالشوك، ورفعت على الصليب، ودقّت في كفّيك المسامير:
بيت لحم تصرخ من وجع
لقد تأخرت، واشتّد على الناس البلاء، وليس في الحياة مسرّة...

أرضنا تمزّق بالأسوار، وأشجارنا الخضراء المثمرة تذبح واقفةً ، تقتلع هي الفتيّة الخصبة، يسرقها من لم يغرس سوى الشّر...
أخبرك أن جبل أبوغنيم ـ حيث كنت تستريح متأمّلاً تحت صنوبره (بيت لحم)، و(أورسالم) قدسنا ـ لم يعد أخضر...

الجرافات تبقر بطن جبلك، والمناشير الرهيبة تقطع الأشجار، تذبحها، تقتلعها كأهلها الفلسطينيين وترميها بعيداً، تصيّرها لاجئة غريبة مثلنا...

زرعوا جبلك يا سيدّي بالإسمنت، وبتروا بيت لحم عن أورسالم، فنداء الأجراس والأذان شرّد في السماء. الصلوات لا تصل من بيت لحم إلى القدس، فهذا زمن الإسمنت والحديد، فلا حمام يهدل، لا عصافير تسقسق، لا رعاة على السفوح، ولا ثغاء أغنام، لا أجراس تترنّم، لا شبابات تعزف بأنفاس رعاة فلسطينيين مطمئنين محبين...

اهبط يا سيدي أرجوك. ارفع إكليل الشوك. تعال، فأم العبد لم يعد عندها أبناء: ثلاثة استشهدوا، يعني قتلهم اليهود وأحرقوا قلبها، وثلاثة في الأسر يعني لوّعوا قلبها عليهم، هي المحرومة من رؤيتهم لأنهم وراء الأسلاك الشائكة تحت شمس صحراء النقب، وفي برد ليلها...

أشجار التين، والزيتون، والعنب، والنخيل، تقتل في أرض فلسطين، فإلى متى ستتأخر يا سيدي؟

أنت بعد هذا الذي أعلمتك به، يا سيّدي ـ وهو قليل مّما نعانيه، ولكنني لم أشأ أن أفسد عليك عيد ميلادك ـ لن تعتب علينا إن نحن لطمنا قاتلنا على خدّه الأيسر، فليس من العدل والإنسانيّة أن يستمر ذلك (الوغد) في لطمنا ونحن نسامحه. أنت لا ترضى بهذا يا سيّدي...

في حال تأخرت، يا سيّدي، سنبحث عن سلاح أجدي من صفعنا لوجه قاطع أشجارنا، ومخرّب حقولنا، وهادم بيوتنا وحارق قلوب أمهاتنا، ومضرم الحرائق في بلادنا حتى يوم ميلادك هذا...

هناك في نابلس، في وضح النهار، أخرجوا المقاومين الفلسطينيين من بيت حوصروا فيه، وفي وضح النهار والشارع، وأمام أعين النابلسيين أطلقوا عليهم النار!

هناك قتلوا بدم بارد، بلامبالاة، باستهتار: بشّار حنني، وأنس الشيخ، وأحمد الجيوسي...
من قبل قتلوا أخوتنا، ومن بعد سيفعلون...
في بداية ووسط ونهاية العام 2005، وفي العام 1948، وفي العام 56، في كل عام، وكل يوم: يقتلوننا...
والعالم أطرش أصّم!

عندما يعدمون شجرةً فتهمتها أنها فلسطينيّة، وإن سرقوا شجرةً ليزرعوها أمام بيوت يحتلونها في حيفا، ويافا، والناصرة، وتل أبيب، فهم يعتبرون أنهم أحّق بها من أم محمد التي زرعتها، ومن أبي محمد الذي نكش الأرض وسمّدها، ورعاها غرسةً نحيلة، وشجرةً مثمرةً، مباركة ...

هذه (دولة) اللصوصيّة والقتل، فمتى تكون دولة العدل يا سيّدي؟!

يا سيدي المتوّج بالشوك اسمح لي أن أسألك: من أين جاءت هذه المخلوقات؟ أي بلاء هي؟ وإلى متي علينا أن نتحمّل؟ ألا تري يا سيدي أن هذا الامتحان عسير، وأننا صبرنا كثيراً؟!

اليهوذات!

توني بلير، رامسفلد، ديك تشيني، في الظلام تسللوا إلى العراق، ليبثّوا الشجاعة في قلوب جنودهم المنهارين، الضائعين، التائهين، الغارقين في الموت والعار...
المناسبة أعياد الميلاد!
ميلاد من؟!
ميلادك أنت؟!
يحتفي بك هؤلاء اليهوذات، المفسدون في الأرض، الذين يبيعونك صباح مساء. يباركون اقتلاع زيتوننا الفلسطيني العريق! يقتلون نخيل العراق...

ورثة يهوذا الإسخريوطي يبيعونك من جديد يا سيّدي،
فإن حضرت فاحذرهم لأنهم سيتّهمونك بالإرهاب، وأخشى أن يقبضوا عليك ويسلّموك لشارون...

أنت صلبت مرّةً واحدةً، وصعدت، ونحن من عشرات السنين على الصليب يا سيدي!!

التعليقات