31/10/2010 - 11:02

الدكتورة فيروز / رشاد أبو شاور

-

الدكتورة فيروز / رشاد أبو شاور
وهل تحتاج فيروز لمرتبة أكاديميّة؟
فيروز منحت الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأمريكية في بيروت، وهي أول فنّانة عربية تكرّم بهذه الشهادة.

من قبل منحت فيروز أوسمة كثيرة رفيعة المستوي، ولعلّ أبعد التكريمات قيمة ومعني وبقاءً منحها مفتاح مدينة القدس من أهل القدس، وهي صرّحت بهذا مراراً، وأرسلت لأهل القدس ومدينتهم اليبوسيّة الكنعانيّة الخالدة ببشارة السلام الآتي:

للقدس سلام آت
آت آت آت

في معرض التعليق علي الخبر: وهكذا يتساوي الصوت مع العلوم، وينتزع لقباً طالما احتكره العلم الأكاديمي. إنه لقب الدكتوراه الذي تساوت فيه فيروز مع البروفسور المصري الأمريكي أحمد جويل ـ حاصل علي نوبل ـ والدكتور ريتشارد دبس الرئيس السابق للجامعة الأمريكيّة، والزعيم أغا خان، وجبران تويني عميد الصحافيين اللبنانيين.

فيروز قبل أن تمنح الدكتوراه كانت طبيبتنا. دائماً توجهنا إلي عيادتها، وعيادتها عنوانها معروف جداً، ومن قصده لا يضيع، ولا يحتاج إلي من يدلّه عليه.

فيروز صوت مباح في البريّة، يطلع كسنابل القمح، كالياسمين، يطل مع النجمات في المساء، يزهر كنجمة الصباح دليل الرعاة، لا يحده حد، لا يحجبه طاغية، لا يحبسه أناني في قمقم احتكاره. فيروز تغني للناس أجمعين في بلاد العرب، لمدنهم، لبحارهم، لأنهارهم، لأشجارهم، لعصافيرهم، للصباحات التي ينتظرون مجيئها بعد طول ليل في محطة انتظارهم التي طال فيها انتظار السفر إلي دنيا غير هذه الدنيا، وزمن غير هذا الزمن.

في عيادة الدكتورة فيروز لا تدفع كشفيّة، أنت فقط تجلس، تسترخي، تتهيّأ كالصوفي لدخول الحضرة، فيأتي الصوت، يوقظ ما تلبدت فوقه غيوم القهر، الانكسار، الخوف، الوحشة، القنوط...

توقظ بصوتها السماوي الملائكي أقصي طاقات الروح، فتنتعش الرغبة في الحياة، والحب، والرقص، فتصير رشيقاً، حنوناً، ودوداً، وينبع من داخلك فيض حب، فتمد يدك إلي الحياة، والناس: مرحباً أيتها الحياة، كيف حالك؟ اشتقت لك. وأنتم أيها الناس: ادخلوا في قلبي، فلكم هنا مكان، وحديقة، ونسمات منعشة.

دكتوراه لفيروز!
اللقب متأخّر، فهي من زماااان بعيد تعالج روحيّاً، هي ابنة الشرق، حفيدة الفارابي، وابن سيناء، وابن البيطار، وزرياب، والموصلي.

فيروزنا نحن نذهب إلي عيادتها المفتوحة 24 ساعة في اليوم، ليلاً نهاراً، فتستقبلنا دون سؤال عن أسمائنا، وأعمارنا، وهوياتنا المحليّة، ودياناتنا، وانتماءاتنا، وتمسّد بصوتها وأناملها الأثيريّة الرشيقة علي مواضع الوجع، فنغفو في كنفها، ونتطهّر من سموم حياتنا، ونتجدد، ونستيقظ علي ما فقدناه من جمال وبراءة ولطف وهوا:

يا هوا يا هوا
يللي طاير في الهوا

ونطير مثل العصافير برشاقة، بأجنحة منحتنا إيّاها، نعمة من نعمات حنجرتها الفيّاضة.

تتجدّد فيروز، إبنة الفينيق وكنعان، فهي كبيرة، وهي طفلة، وهي شابة، وهي تغنّي: عالروزنا، علي دلعونة ـ من الآلهة الكنعانية عناة ـ تتنقّل بين الأزمنة دون تعب، بانسيابيّة، بقدرة زرعت في جسدها، موهبة تصان، يعتني بها، تسقي بالموسيقي، بالكلمة الجميلة الطيبة كسنبلة تنبت عشر حبّات، وكل سنبلة تتكاثر حبوبها فتملأ المارس وتجعله حقلاً ذهبيّاً...

تبدأ مع الرحابنة: عاصي ومنصور، غناءً، مسرحاً غنائياً يثري حياتنا الفنيّة العربية، تشبك صوتها بموسيقي ابنها زياد ـ يا لهذه السلالة الرحبانيّة العبقريّة، ويا لروعة لقاء العبقريتين الفيروزيّة والرحبانيّة! ـ ومعاً ينطان فرحين، مبتهجين، مفاجئين بكّل ما يقدمانه من غناء.

الدكتورة فيروز!
يكبر الزمان، يشيخ، يتوكأ علي عصاه بشيبته المتناثرة مع الريح، وهي تمضي في مشوارها علي مهل، فهي تعني بأجيال، وهي تجدد أدويتها، فمن تعالجوا بـ: عالروزنا ليسوا من تعالجهم من جيل الحرب الأهليّة بـ:

سلّم لي عليه
قلّو إني بسلّم عليه
بوّس لي عينيه
قلّو إني بوّس عينيه
إنت يللي بتفهم عليه

فيروز ليست معارضة، ولا هي موالاة، إنها وطن ينتسب إليه كل محب عاشق للحريّة، بعيد عن الأنانيّة، خيّر معطاء، صافي النفس، كريم الخلق، عف...

فيروز لا تتشظّي، فلا يمكن أن تكون أغنية في فم المجرم، ومحب الحريّة، في نفس الوقت، فيروز تفرز الجوهر الكريم من الخبيث، والميزان: حب الناس، الرحمة، العطاء...

نحن نصطحب أطفالنا إلي عيادتها، فعيادتها مستشفي بكامل الاختصاصات، وهي تعالج حاسة سمعهم، بأغان تربي هذه الحاسة علي حسن تذوّق الموسيقي والكلام الحلو ـ مع ريما الحندقّة ـ ونذهب إليها أفراداً فنستعيد ذكرياتنا في أمكنة، ومع أصحاب وحبيبات.

نتوجّه إليها (جماعة)، نتحلّق حول صوتها النازل علينا مباركاً اجتماعنا علي الحب والصداقة وليالي القمر، والميجنا، والعتابا، بصحبة حنّا السكران...

وإذ يهان الوطن نفزع إلي صوتها نستعين به علي وعثاء القتال، لا عدواناً، ولكن ذوداً عن حريّة أن نجلس تحت قمرنا، وشجرنا، وفي حقلنا، وعلي شاطئ بحرنا، أو جدولنا الصغير اللعوب الثرثار.

خبطت قدمكن عالأرض هدّارة
إنتو الأحبة وإنتو للصدارة

ومع فيروز، الدكتورة فيروز، نغني بشجن:

نسّم علينا الهوا
من مفرق الوادي
يا هوا دخل الهوا
خدني علي بلادي

نحن نعود إلي بلادنا مع الهوا الفيروزي، هوا فرمشيّة الدكتورة فيروز،إلي بلادنا التي نحن غرباء فيها، أو غرباء عنها. إنها تربّي في نفوسنا الأمل، والأمل بداية ومنطلق نشاط الروح والبدن، الفرد والجماعة. فيروز، الدكتورة فيروز بارك الله لنا فيها، وأبقاها، هي الدكتورة التي تصف العلاج، وتصرفه لنا، وهي تتحمّل دفع التكلفة من بدنها، وأيام حياتها، وأجرها وثوابها علي الله، ورضي الناس، وهذا أبقي من الدكتوراه الفخريّة علي أهميتها وقيمتها التي اكتسبتها من منحها لفيروز الأرزة اللبنانيّة الشّابة التي لا تهرم، والتي تظلل بخضرة ظلّها بلاد العرب وناسها...

التعليقات