31/10/2010 - 11:02

المثقف والمجتمع المدني... معنى من بين المعاني/دلال البزري

المثقف انسان مؤمن، بالرغم من الكآبة السياسية التي نشأ عليها، او ربما بسببها. مؤمن بما في عقله من افكار

المثقف والمجتمع المدني... معنى من بين المعاني/دلال البزري
وحدهم المثقفون يستطيعون الكتابة عن أنفسهم. وهذا من حسن حظهم، فصيتهم ليس حسنا وسط نُخب اخرى من المجتمع. وإذا وضعت <<النقد>> المدّاح الذي تقرأه، او تسمعه، هنا وهناك، بحق مثقف من مثقف، فلا تُغرّ، إذ نادرا ما لا يكون هذا <<النقد>> مدفوع الاجر، نقدا او عيناً... إذا وضعته جانبا، هذا <<النقد>> المدّاح اذن، فلا يبقى امامك غير مثقفين يكرهون مثقفين، مآخذهم على بعضهم لا تحصى، محورها ثلاث نواقص: نقص في العلم والفهم، او في الدين او في الوطنية.

وأنا بصفتي واحدة من هذه الجماعة، أعلم انني لن أخرج كثيرا عن هذا الطور لو قُدّر لي الكتابة عنها. أعلم انني سوف أغالي في الهجاء... لذلك حاولت تجنّب هذه الكتابة، لكنني لم أفلح، أصرّوا عليّ.

ففكرت أن ألجم المغالاة بأن أضع نفسي من ضمن الجماعة التي سوف أكتب عنها. اي ان أبني مسافة عن نفسي وأضعها، هي ايضا، ضمن دائرة النقد، مثلما سوف أفعل بالآخرين. ثم اخترت ان أبحث بالمثقف عن طريق نموذج مثالي متخيّل، يتكوّن من عدة فرديات: عن طريق بورتريه مكثف، محمول على عدة أوجه. وزاوية النظر هذه، كما سوف يتبين، لم تفلح الا قليلاً في التخفيف من عيوب نموذج المثقف، فالميل الى الكاريكاتورية طغى، في هذه الورقة، على الرسم الواقعي، الموضوعي البارد. إنها مبالغة واقعية ومقصودة... تكمن فائدتها ربما في انها أخرجت معنى من المعاني التي تضج بها المخيلة العربية، في السياسة كما في الثقافة، اي في المجال الحي للمثقف. مجاله <<المدني>>.
وهذا جلّ طموح ورقتي.

لذلك، عندما اقول <<مثقفاً>>، فلا اقصد أحدهم بعينه. بل مجموعة من المثقفين، متفاوتي المسالك والمشارب والاهواء والاجيال والطاقات:
المثقف انسان مؤمن، بالرغم من الكآبة السياسية التي نشأ عليها، او ربما بسببها. مؤمن بما في عقله من افكار. انها اعزّ ما يملك، او كل ما يملك. مؤمن على طريقته الخاصة: على طريقة من هو المطلوب منه الإجابة دائماً، ومن دون اي إخفاق، وبشمول، على السؤال الشاغل: <<ما العمل؟>>. جاهز لطرح الافكار، ولا مرّة ليناقشها، وإن عزم... موسوس بالاستنهاض، كيفما ولّى نظره. لديه <<مشاريع>> فكرية، جهزت باكراً، غالبا وهو في الثلاثينات. يعتز بها مثلما يعتز بالثبات على رأيه. بل يكرر بأنه منذ سنوات وهو يتوقع كذا او كيت من الخطير والمجلجل الذي يحصل الآن. ما يعني أنه ماضٍ في هذا الرأي، او الاتجاه.

أحياناً تجده واصفا دقيقا للاشياء او الوقائع، سابحا في حيوية <<المسألة>> وتفاصيلها من دون حساب... ثم فجأة يتوقف، كأن هناك ما هو أهم ليقوله: فيعرض من غير توطئة حلوله لل<<مسألة>>، من غير الانتباه الى البون الشاسع القائم بين دقة وصفه وجهوزية حلوله.
حقاً... كيف يفضل المثقف ذبول الحلول على وهج الواقع؟ ما هي جاذبية الحلول والنهوض والمشاريع؟ ثم كم من مرة راجع المثقف نفسه عميقا، بينه وبين نفسه، ثم بينه وبين الملأ؟ كم من مرة طرح على نفسه، مجرد الطرح، بأنه قد لا يكون اصاب في هذا او ذاك من مقومات <<مشروعه>>؟ او نظامه <<الفكري>> او <<المفاهيمي>>؟ إلا لينتقل من ايمان اقصى الى اقصى الايمان؟ من شيوعي الى اسلامي؟
ولا مرة. فهو دائم الجهوزية، منذ اليوم الذي رنّت في اذنه صفة <<مثقف>>، وهو متأهب للطرح، لا ينقصه غير التسويق. (كلمة لا احبها، لم اجد غيرها...). من اجل الانتشار، والاعتبار لما يختزنه من حلول...

وللانتشار، يكتب في سبع صحف اسبوعيا، يطلع على الشاشة باسطا حلوله، او على المنابر والمؤتمرات... ثم يراكم الالقاب والوظائف والعضويات... لعله يتسرّب الى رئاسة مجلس او لجنة او منتدى او مجلة... او حتى شلّة. وكل هذا من مقومات النجاح. بعده يختلط شخصه بأفكاره، التي يود ان نشاركه الايمان بأنها من اسباب النجاح.

عرّب المثقف مفهوم <<العضوية>>، المأخوذ عن الايطالي انطونيو غرامشي... وجعله بتصرفه. في المفهوم الاصلي قدرٌ كافٍ للمثقف من حمل الحلول وتفسيرها والتعبئة من اجلها. وقد أضاف اليه المثقف ما في مخزونه من الايمان بحلوله والوفاء لها في الثبات. والتعريب نفسه خضع له مفهوم المثقف <<الملتزم>>، الذي من التزامه وحده تكتسب حلوله صدى واتساعا. <<العضوية>> و<<الالتزام>> صارا الآن جزءا من تراثه الثقافي. فقد التحما تماما بمفاهيم الحقبة الراهنة، من فقه واجتهاد وفتاوى وامراء. اي المزيد من ترسّخ الايمان بالحلول المحمولة. فأصبح المثقف هو الداعي الى... شيء ما، مقدس بدينيته، بعدما كان مقدسا بزمنيته. وفي كل الحالات <<نماذج>> جاهزة: دينية او دنيوية، يكفر من اجل الاولى، ويخوّن او يتقّه من اجل الثانية... مثلما من يملك جميع الحقائق في راحة يديه.

وإن نفذ الى وزارة، وهذه أعلى <<الرئاسات>>، جمّد هذه الحلول، وانقدت اريحته لأشياء جديدة... فيكون بذلك سعيد الحظ امام أقرانه. وان بقي مجرّد رئيس لرئاسة ما، تكيّفت <<حلوله>> مع الرئاسة، بما لا يفيد الا عن <<لونه>>، ليبرالي او اسلامي، او قومي، او علماني، او حتى يساري سابق... لا فرق الآن، طالما ان مجرد تكرار اللون يؤكد على <<التعدد>> الثقافي، اي على عنوان الصراع الذي سوف يخوضه المثقف من اجل انتزاع رئاسة او الحفاظ عليها.
اما اذا بقي دون رئاسة ولا وزارة، فيتجرع لوعة الحرمان السياسي... اذ طالما اعتبر الرئاسة هي المشاركة والمشاركة هي وجوده هو، وتقديمه هو للحلول، او بناؤه هو للمشاريع الفكرية. فإما رئاسة، او لا شيء... اي حرمان، ونَكَد لا ينتهي... وموات الافكار المجمدة في ثلاجات القهر. اذ ينكفئ المثقف في هذه الحالة فيحمي افكاره من المتغيرات.. لا يناقشه بها احد ولا هو يريد حقيقة ان تناقش، هو يريد فقط ان يخطب بها... هي التي <<تميّزه>> عن الآخرين. فيصبح بذلك مظلوما صاحب حق وخطاب، صاحب وصفات فكرية موضوعة على الرفّ.
الى ما تعود هذه السمات؟

الى قهر سياسي دام طويلا، فولّد اصحاب حقائق ودوغمات. والقهر السياسي هنا له وجهان: انعدام المواطنة، اولا، اي المشاركة في تقرير صورة الحياة في الاجتماع الوطني والعالمي، او تقرير نمط المباني والمعاني التي ينعقد عليها هذا الاجتماع. وانعدام المواطنة، ايضا، بمعنى استحالة احتكاك الحلول والمشاريع بالواقع المعقد الحي... بما يفضي الى بيان قيمتها الفعلية. والوجه الثاني للقهر: حرمة الموضوعات، من دين وجنس وسياسة، بالرغم من الصخب الهائل الدائر حولهم... او ربما بسببه.

وهذا نوع من القهر يحول الاصول الى فروع والثوابت الى مقدسات. واذا اضفت اليه القهر الثاني، العدوان الخارجي، المفتوحة شهيته على هشاشة هذا الاجتماع العَطوب، لأمكنك تصور نوع النرجسية التي تنتاب ابناءه، جماعة وافرادا. نرجسية الضحية: مَن يكون لمظالمه هو، وحلوله هو، وتصوراته هو، المكانة الأعظم في صياغته للصراع الدائر حوله، او بعيدا عنه. فيحمل قناعاته على كفه، ويباركها على انها مطوّبة من السماء... مخلياً بذلك السبيل الى انفلات الذات وتضخمهما على نحو جهنمي. الى حد ان نقدها، او نقد ثقافتها او عاداتها او واقع يومياتها... هو بمثابة <<الجلد>> لها، او خروج عن الهوية الجمعية، الدينية والسياسية او الانسانية: <<أنت لست مسلماً!>>، <<أنت لست عربياً!>> او <<أنت غبي!>>.
هل طبيعة المجالات التي أوجدها المثقف كانت بدافع من هذه النرجسية؟ بدافع اعتبار حلوله هي هويته؟ وبالتالي يكفي ان يكون موجوداً فيها لتكون خطوته الأولى نحو الحل الشامل والنهائي؟

لندقق بداية في هذه المجالات، في تلك الفسحة التي يتحرك فيها المثقف، ذلك <<المجتمع المدني>> الذي يجمعه بنظرائه: الشاشة والمؤتمرات والمجلة وحملات التوقيعات... كلها مصانع نجوم ثقافية... باهتة صحيح بالنسبة للسواد الاعظم من الناس، لكنها ذات عزوة وامتيازات وعشقاً للذات... وتساهل بعملية التفكير نفسها، اذ يُسمّى كل ناقل لقول <<مفكراً>>... وكل هذه المجالات تنظمها شلل وشبكات. قانونها من قانون العصابات: كتمان، وإقصاء وصراعات، باسم نرجسيات، كلها مجروحة.

ما الذي أنقذ هذه النرجسية <<المدنية>> (نسبة الى مجتمع <<مدني>>)، من السقوط في هاوية الحساب والأخذ والرد والوضوح والدقة والحوار الجدي والتدقيق في معاني الالفاظ والتعريف الأدق لمعاني المصطلحات الخ...؟ ما الذي ثبتها كل هذا الزمان؟ هو نفسه ما أنقذ الحكام: الإطار العربي الأعمّ المجبول على سيولة المعاني وانزلاقاتها، مما ضيّع مضامين الالفاظ والاشياء، فصار مستحيلا الحكم على مصداقية الكلمات.

وسط هذه السيولة ترى الحاكم المستبد <<يطالب>> بالحرية، والتابع لا يقبل بأقل من السيادة والاستقلال. ما سمح بنمو مثقف لاجئ الى دولة استبدادية، يطالب من اراضيها بالحرية لشعبه، او مثقف آخر تحت حكم أبوي تسلطي، لا يرى تعارضا بين مطالبته بحرية التعبير والابداع، وبين تدبيجه الكتب والمقالات التي تمجد الطاغية، اي طاغية... مهما ضاقت دائرته. والشواهد لا تنتهي.
إنها مجالات غشّ بامتياز. مجالات تستباح فيها الحقائق الاخرى، مثل المال السايب، اغراء الكذب فيها كبير، لانه سهل، ومن غير أضرار تذكر، لا الشفافية فيها ولا انكشاف.

ومع الوقت، بلغت الاستباحة الذروة في التعدي على الحقيقة. وصار الصدق بلاهة وغباء. حتى المثقف الذي كان ناقدا لجماعته المثقفة بصفتها صاحبة الحلول الناجزة، وناقداً <<جذرياً>>... تحول هذا المثقف الى بائع وشارٍ في سوق الحاكم المفلسة والخاوية الا من بعض مناصب ورئاسات وشاشات... ومؤخرا لبس <<طربوش>> الحاكم وانقسم على نفسه: وجد ان <<الطربوش>> يليق به، وكان تفسيره بأنه وجد دوره، أن يتكاتف في هذه اللحظة الخطيرة مع الحاكم، ويرفع حلوله مثل اوراق الاعتماد... لاعبا على براءة مفتعلة، وسذاجة ليست من خصاله... فالمهم في هذه الحالة، الأهم في هذه الحالة، ان يُتداول اسمه ويُربط بحركة الحلول والمشاريع، ويسطع اسمه لامعاً في سماء هذا الزمان...

____
عن السفير

التعليقات