31/10/2010 - 11:02

فينا من (دون كيشوت) العناد .../ رشاد أبو شاور

-

فينا من (دون كيشوت) العناد .../ رشاد أبو شاور
نص كلمة الكاتب في الندوة التي أقامتها جامعة مدريد المستقلّة، وجامعة سلمنكا، تحت عنوان (فلسطين في الأدب) وتواصلت في أيام 9و10 و11 آذار (مارس).




السيدات والسادة الحضور
أحييكم جميعاً،
اسمحوا لي أن أتوجه بالشكر والتقدير لجامعة مدريد التي أتاحت لي فرصة القدوم إلي بلدكم والالتقاء بكم، والتحدّث إليكم.

لقد دعيت ككاتب فلسطيني، وفي حالتي هذه فأنتم تعرفون بعض جوانب مأساة شعبنا التي ابتدأت قبل ولادتي، والتي استمرت طاحنة أجيالاً من الفلسطينيين الذين أنا واحد منهم، وتتابعون بالتأكيد فصول كفاح شعبنا.

لقد ولدت في 15/6/1942 في قرية بسيطة من قري مدينة الخليل العريقة التاريخية، حيث يعيش الناس حياتهم المتواضعة كمزارعين يعنون بحقولهم التي تنبت القمح، والزيتون، والتين، وأنواع الخضار...

كانت في قريتنا مدرسة يتعلّم فيها الأطفال حتي الصف الرابع الابتدائي، ومن ثمّ فإن من يرغب في مواصلة التعلّم كان يتوجّه إلي مدينة القدس ليصبح بعد التخرّج معلّماً، أو موظفاً في حكومة الانتداب البريطاني، أو يكمل تعليمه ليتخرّج من إحدي الجامعات في (بيروت) أو (القاهرة) ...

لم أعش في قريتي حياةً طبيعية، لم أعرف الطفولة علي ثراها، ولا عشت مع أسرتي هناك حياة طبيعيّة هانئة كباقي البشر في هذه الدنيا.

لقد فتحت عينيّ علي صوت الرصاص، وعلي طنين الطائرة التي لاحقتنا حين كان ذوونا يهربون بنا إلي القري المجاورة، ثمّ ليحتموا بنا في المغاور والكهوف بعيداً عن الخطر الذي دهمنا دون أن نفهمه، أو نعرف أسبابه .

ارتحل والدي بي ـ كانت والدتي قد ماتت في قريتنا، وتبعتها شقيقتي ـ إلي مدينة الخليل لنعيش هناك تحت أشجار الزيتون، ثمّ لننتقل إلي مخيّم (الدهيشة) قرب(بيت لحم) العريقة التي ولد فيها السيّد المسيح، فنقيم تحت خيمة صغيرة تلعب بها الرياح الشتوية العاتية، نفترش البطانيات ونتغطي بها، ثمّ لنغرق تحت الثلج فيتم إنقاذنا ونقلنا إلي (بيت لحم) حيث تؤوينا المساجد والكنائس.

في مخيم الدهيشة لفت انتباهي صديق لأبي، عرفت أنه أول أستاذ عمل في قريتنا، وأنه شاعر.

كان نحيلاً، يعقد يديه وراء ظهره، مطرقاً، يتمشّي بين الخيام، يتأمّل صامتاً محزوناً، ويقول شعراً جمعه في ديوان صغير بحجم الكف، ضمّ قصائد غاضبةً حزينةً، يقول مطلع إحداها :
قسماً بجوع اللاجئين وعري سكّان الخيام
لنصارعن الموت من أجل الوصول إلي المرام
لقد عشنا حياة الجوع والتشرّد وصارعنا الموت وتلقّنا من آبائنا، ومن شعرائنا ـ ومنهم من استشهد علي تراب فلسطين ـ أن نتحمّل كل صنوف الآلام حتي نبلغ المرام، أي الهدف الذي هو عودتنا إلي مدننا وقرانا...

كان علينا أن نبدأ تعلّم دروسنا تحت الخيام، التي لا تقي من البرد، وأن نجلس علي حجارة نضعها تحتنا لنرفع أجسادنا قليلاً عن الوحل، ثمّ أن نصغي بانتباه لأساتذتنا وهم يلقنوننا أول الدروس ...

انتقل بي أبي إلي مخيم (النويعمة) قرب(أريحا) بحثاً عن الدفء، هرباً من قسوة مناخ (بيت لحم) الشتوي القارس.
بعد سنوات صارت لنا مدارس مبنيّة من الإسمنت، في صفوفها ألواح يكتب عليها الأساتذة الدروس.

في مدرسة مخيمنا رزقنا بأستاذ محّب للقراءة، جمع منّا قروشاً قليلة، وأحضر لنا كتباً من (القدس)، بعضها مترجم عن الفرنسية .

آنذاك قرأت رواية حزينة رومانسية، فيها يتم وفراق، فبكيت مع أبطالها كثيراً، أي بكيت عملياً علي نفسي، علي يتمي وجوعي وبؤس حياتي، والناس الذين أعيش معهم في المخيّم .

يبدو أنني أصبت بعدوي الكتابة من تلك الرواية ...
والدي كان (شيوعياً ) وهذا تسبب في ملاحقته، فزّج به في السجن مراراً، ومن بعد عام 57 غادر مع كثيرين إلي سوريّة، وحصل علي اللجوء السياسي، وكان أن تبعته إلي هناك، وعشت وإيّاه لثمانية أعوام في مدينة دمشق حيث عرفت السينما، والمسرح، والتلفزيون، وقرأت الكتب بنهم، واتخذت قراري بأن أصير كاتباً .

كان والدي وهو رجل أمّي يحضر لي كتب (مكسيم غوركي) لأقرأها له، وفي مقدمتها رواية الأم، وكان يحفظها غيباً كأحداث وشخصيات، ويستلهم من صلابة أبطالها. ولكنني فيما بعد صرت أقرأ لنفسي، وكان أن أعجبت بهمنغواي الأمريكي، وتشيخوف ودوستويفسكي الروسيين، ثمّ هبّت علينا رياح موجة (الوجودية ) فعرفنا سارتر، وكامو.. وغيرهما ...
في المدرسة رأيت رسومات علي الجدران، فسألت عمّن رسمها فقيل لي: ـ إنه أستاذ علّم هنا ثمّ رحل إلي الكويت ليعمل هناك.

مرّت سنوات، ثمّ التقيت بذلك الأستاذ الذي هو (غسّان كنفاني)، الروائي والقاص، والصحفي، والفنّان الفلسطيني، ولقد سألني في لقائنا الأول في (بيروت):
ـ هل علّمتك في معهد فلسطين ؟
أجبته :
ـ في تلك المدرسة لا، ولكن خارجها ...
تعرفون أن لغتنا هي العربية، وأننا ننتمي إلي الثقافة العربية، ولذا قرأت نجيب محفوظ الذي سمعتم به، ويوسف إدريس، ويحي حقّي، وكثيرين غيرهم من المحدثين.

ومن الفلسطينيين شكّل غسّان كنفاني، وسميرة عزّام القّاصة والمترجمة، وجبرا إبراهيم جبرا الروائي، التشكيلي، الناقد، المترجم، أحد آباء الحداثة العربية في الأدب والفن، قدوةً لنا، ولذا كان أبناء جيلي من الفلسطينيين أمام تحد كبير إذ عليهم أن يطوّروا أساليب كتابتهم، وأن يأخذوا بعين الاعتبار ما تمّ إنجازه عربياً وفلسطينياً .

ككاتب يعيش بعيداً عن وطنه كان عليّ أن أتعرّف إلي المكان، سواء من معرفة والدي به، أو من موسوعة بلادنا فلسطين التي أنجزها الجغرافي والمؤرخ مصطفي مراد الدبّاغ، والذي منحها عمره كلّه.

لقد عاش أغلب الكتاب من أبناء جيلي في بلاد مختلفة متباعدة، ولم يتح لهم رؤية مساقط رؤوسهم، ومع انتمائهم لشعب منكوب واحد فإن تجاربهم تباينت بحسب الأمكنة والمجتمعات التي عاشوا فيها، ومن هنا اغتنت تجربة الكتابة الفلسطينية، تأثّرت بالكتابة شعراً ونثراً في الأقطار العربية، وأثّرت فيها .

أنا وأبناء جيلي بدأنا النشر نهاية الستينات ومطلع السبعينات، وأغلبنا بدأ رحلته ككاتب قصص قصيرة، ومن بعد انتقلنا لكتابة الروايات .

لقد عدت مع والدي من دمشق إلي (أريحا) في الضفة الفلسطينية، في العام 65
ولكننا ارتحلنا من جديد بسبب حرب حزيران 67..

كنت قررت التريّث في النشر، ولم أكن قد نشرت سوي مقالة وقصتين قصيرتين، ولكنني بعد حزيران وانطلاقة المقاومة الفلسطينية بدأت النشر في أهّم وأشهر مجلة أدبية عربية (الآداب) التي كان يصدرها في بيروت الدكتور سهيل إدريس القاص والروائي والمترجم اللبناني.

في العام 71 استقر بي المقام من جديد في دمشق، وهناك انهمكت في العمل الصحافي، ونشرت الكثير من قصصي القصيرة، وعكفت علي كتابة روايتي الأولي وهي عن تجربة الحرب والرحيل عام 48.

من متاعب وهموم الكاتب الفلسطيني الذي يعيش في الشتات أنه محروم من رؤية وطنه ولذا لا بدّ له حين يكتب قصّة أو رواية أن يتحوّل إلي باحث يستقصي كل شيء عن المكان، والحياة الاجتماعية، وأساليب العيش، والزراعة و...ومن بعد يكتب ...

في بيروت تعرّفت بكاتبنا الكبير غسّان كنفاني، وسمعت منه بعض فصول روايته الأخيرة (برقوق نيسان) التي اغتيل قبل أن يكملها.

كان غسّان أحد مجددي فن الرواية العربية رغم صغر سنّه، وما زال بعد رحيله ملهماً فنّاً وحياةً ...
أمّا جبرا فقد عرفته وزرته مراراً في بيته ببغداد العاصمة العراقية، وهو أحد مجددي فن الرواية، وأبرز من أثّروا في تطوير حركة الشعر العربي المعاصر، ناهيك عن الفن التشكيلي، وهو الذي ترجم تراث شكسبير المسرحي الإنكليزي العظيم ...

حتي يومنا هذا صدرت لي ست روايات، وثماني مجموعات قصصية، وكتاب عن معركة بيروت عام 82، وكتاب عن زيارتي لوطني في أعوام 95 و97.

نشرت بعض القصص للفتيان، ومسرحية واحدة، وأنا أكتب أسبوعياً في صحيفة (القدس العربي) التي تصدر في لندن ،وفرانكفورت، ونيويورك، وتوزّع في بعض الأقطار العربية التي تسمح بها، وفي كثير من العواصم الأوربيّة، وبعض المدن الأمريكية...

أيها السيدات والسادة

كتّابنا يعيشون في أماكن مختلفة، كثيرون منهم لا يسمح لهم بالتنقل، أو التزاور، وهم يتواصلون بالهاتف، بالرسائل، بمنجزات التكنولوجيا مثل البريد الإلكتروني.

وهم يدركون واجبهم في حماية هوية شعبهم، وصون ثقافته، وتطوير أدواتهم الفنيّة لتكون لائقة بقضيتهم الإنسانية العظيمة .
يقال بأن العالم بات قرية واحدة، وهذا بسبب تطور التكنولوجيا، ولكن هذا العالم لا يتمتع بأخلاق القريّة، فالمعرفة لا تكون عبر شاشات التلفزيون، أو البريد الإلكتروني، أو السينما، علي أهميّة هذه المنجزات.

الثقافة: الشعر، الرواية، القصّة، الموسيقي، الحكايات والأغاني الشعبيّة، الفنون علي اختلافها..الخ هي التي تعرّف الشعوب والأمم ببعضها، تنشئ حواراً إنسانياً، تواصلاً، تثاقفاً...
لقد برع الفلسطينيون بالترجمة، ومنهم عندكم من تعرفونهم مثل الدكتور محمد الجعيدي الأكاديمي والناقد والباحث الذي أعّد موسوعة الأدباء والكتّاب الفلسطينيين، والدكتور الشاعر محمود صبح الذي عرّفنا بالشعر الإسباني، والصديق صالح علماني الذي درس الأدب في جامعة مدريد، ثمّ ها هو يغني بترجماته معرفتنا بالأدب المكتوب بالإسبانية ،والذي بفضله وفضل زميله السوري رفعت عطفة تسود الترجمة عن اللغة الإسبانية منذ سنوات.

نحن نميل إلي الحكاية، وما ينقل إلي لغتنا من أدبكم وأدب أمريكا اللاتينية فيه حكاية، ومتعة، وإدهاش، فيه ما يجد صدي له في حياتنا وهمومنا...

قبـل أيّام صــدرت ترجمة جديدة للدونكيخــوته من إبداع السـوري رفعت عطفة، واستقبلت علي الفور باهتمام شديد.
ها أنا أزور بلد مؤسس الرواية الحديثة في التراث العالمي (ثربانتس) مبدع (الدون كيخوته) الرواية التي ألهمت كثيرين، فكتبوا، أو عاشوا متأثرين بها.

إن فينا كشعب فلسطيني شيئاً من دون كيشوت: العناد، والرغبة في التغيير، ورفض الشّر، مع فارق، هو أننا نقاتل طواحين الأرض التي تطحن حياتنا، لا طواحين الهواء...
يقول المترجم عطفة: نحن نعجب بهذه الرواية لسلاسة الحكايات المتلاحقة فيها، حكاية بعد حكاية، هي فقرات في عمل ينهض كبيراً بقيمته الإنسانية والفنيّة ...

أيها الحضور الكريم:
هناك كتّاب وشعراء فلسطينيون حملوا أقلامهم ، وواجهوا الظلم ودفعوا حياتهم ثمناً للحق والحقيقة ...
أعتقد أن الكتابة موقف، ورسالة ،ومن أبرز من قاموا بهذا الهّم علي الصعيد العالمي الفلسطيني إدوارد سعيد الذي هو أحد الكبار في عصرنا.

آمل أن تتعرّفوا علي أحد روّاد أدبنا (نجاتي صدقي) الذي شارك في الحرب الأهلية الإسبانية منحازاً للقوي الثوريّة، وكتب عنها فصولاً مثيرة في مذكراته التي نشرت حديثاً، وبعد وفاته بحوالي ثلاثين سنة، لعلكم تجدون في ما كتب جوانب لم يتعرّض لها الكتّاب الأوربيون والأمريكيون الذين كتبوا تجاربهم عن تلك الحرب الطاحنة...

نحن ننتمي لشعب يريد حقّه في الحياة، ولذا فثقافتنا مفعمة بكل ما يعد بالحياة الكريمة الشريفة العادلة...
شكراً لكم

التعليقات