17/08/2011 - 17:40

جلالة المكان../ هالة الشريف أبو غربية

أحلم منذ سنوات طويلة أن أقضي سهرة رمضانية في حضرة جلالة المكان الذي وقعت في حبه منذ رأيته للمرة الأولى قبل سنوات طويلة... حتى أنني لم أفوت فرصة للقائه، لكن زيارتي اليوم لم يكن مرتبا لها مسبقا، ولم أتردد حين دعتني صديقتي للإفطار وقضاءالسهرة عندها، كنت متعبة منذ فترة، ومتألمة صباح هذا اليوم

جلالة المكان../ هالة الشريف أبو غربية
أحلم منذ سنوات طويلة أن أقضي سهرة رمضانية في حضرة جلالة المكان الذي وقعت في حبه منذ رأيته للمرة الأولى قبل سنوات طويلة... حتى أنني لم أفوت فرصة للقائه، لكن زيارتي اليوم لم يكن مرتبا لها مسبقا، ولم أتردد حين دعتني صديقتي للإفطار وقضاءالسهرة عندها، كنت متعبة منذ فترة، ومتألمة صباح هذا اليوم.
 
تلاشت حدة الألم منذ وصولي مدينة القدس ومروري بكل الأماكن العزيزة على قلبي والتي ألفت مشاهدتها في كل مرة حظيت بالقدوم إلى هنا، فرحت أتفقدها لعله فاتني شيء من معالمها وتفاصيل جمالها في زياراتي السابقة لها، ولم ينقش في الذاكرة... حيث للقدس سحر خاص علي يغمرني ويجتاحني في كل مرة ويزيدني شوقا إليها. وأعترف أن للمكان تأثير علي لم يتناقص مع مرور الزمن، لا بل كنت ألاقيها في كل مرة بشوق ولهفة أكبر وكأنني في حياة سابقة نشأت ولعبت و كبرت في حضنها.

حدثني عنها مطولا قبل أن أراها ابن من أبنائها زرع في حبه لها ورسم في مخيلتي عبر السنوات أبهى صورها، يصف لي جمال طابعها وحلمه بالعودة لها والعيش فيها وحنينه لها ولأزقتها التي عايشت طفولته، لكنني حين التقيتها للمرة الأولى وجدتها أبهى من الصورة التي رسمتها لها في مخيلتي، فأنت تأتي إلى الدنيا ولا تختار وطنك وأهلك وتجد نفسك تنتمي وتقدم الولاء له، فما بالك حينما تختار وطنا وأهلا بمحض إرادتك ووعيك....

وصلت سلوان التي تصارع يوميا من أجل بقائها، وتتلقى الضربات في ا لخاصرة الجنوبية للقدس، تتلوى ألما ولا تركع وتستنهض بكل شجاعة وبسالة أهلها لمواجهة قدرها والمعركة القادمة. في سلوان يحتاج المرء لتركيبة خاصة ليتنفس من هوائها العليل الذي تخدشه رائحة الغزاة الذين يسلبون ترابها مثلما تحدد قطعان الذئاب مناطق سيطرتها، ويذكرك الغاز المتسلل إلى أوتارك إن نسيت أن الغلاة لها بالمرصاد.
 
 وفي سلوان تغيب أساليب الراحة المتوفرة (للقادمين الجدد) الذين يشوهون انسجام اللوحة وتناغمها فتحتاج لمعادلة رياضية معقدة للسيرفيها وينتهي بك الأمر وكأنك تسير على خيط رفيع يتطلب توازنا ودقة لا يجيده إلا أهلها.
 
 وللعيش في سلوان عليك اختراع معادلة فيزيائية لتستوعب الفضاء المسموح لها للتنفس ولا تختنق، ولابتكار شكل هندسي معماري خاص وفريد غير موجود في كل العالم فرضه واقعها، وهنا القضية هي قصة صمود لضمان الحد الأقصى لبقاء أصحاب الأرض عليها، وعلى الرغم من كل المعيقات التي يضعها الغاصب بمحاولته وضع اليد عليها إلا أن أطفالها وشبابها وكهولها ونساءها قطعوا على أنفسهم عهدا بافتدائها بحياتهم، ويتجلى ذلك في إرادتهم وممارساتهم اليومية بكل لحظاتها وتفاصيلها وأشكالها وألوانها التي لا تكل و لا تمل ضمانا لبقائهم واستمرارهم.

حيث يصنع الجنرالات الصغار بطولاتهم اليومية بخطاهم الثابتة على الأرض، بالمواجهة والبناء ويسجلون الملحمة تلو الأخرى ينتشرون فيها يحرسونها بأفئدتهم قابضين على الجمر يحرق أياديهم الصغيرة فلا يستسلمون، متمسكين بالأمانة التي عهدت إليهم وبكل تلك القيم والعادات المغروسة في كيانهم منذ الأبد، وبإصرار"آخر الساموراي" يسجلون للأجيال القادمة أنهم لن يفرطوا بذرة تراب من قدسهم، ويتركون لأحفادهم الوصية المقدسة بأن لهذه الأرض أصحاب مطالبون بالحفاظ عليها إلى يوم الدين.

لقد جعلت زينة هذا الشهر الفضيل من سلوان قمرا مضيئا تتلألأ النجوم من حوله، وتشد انتباهك الحلويات المعروضة بأشكالها يدعوك مذاقها المميز عن أي مذاق آخر لكي تتذكر ولا تنسى لذة عسلها، ونسائها اللواتي يسرن بكل ثقة واعتزاز بأثوابهن المطرزة المستمدة من أنماط كنعانية تحدثك عن قصة المكان.... هي أثواب لا تقدر بقيمة حاكتها أنامل أرادت للقصة أن لا تفنى وأن تسرد التاريخ المسلوب، لكي لا ننسى أننا أصحاب حق، حتى أنني حين لبست ثوبي في إحدى المناسبات المقدسية شعرت أنني خلقت هنا ولم أعرف مكانا قبل هذا المكان ولم ألبس قبل ذلك ثوبا أجمل من ثوب عروس بيت دجن الجزء المسلوب من فلسطين التاريخية.

دخلت بيت عائلة عودة في سلوان، وصعدت الدرجات وأنا أتشوق لرؤيته وجدت الأقصى على يميني صامدا في مكانه المعتاد تعانقه من الخلف قبة الصخرة، وتسدل عليه في ذاك الوقت من النهار خيوطها الذهبية، تحميه من خطر يحدق به منذ الأزل.

غمرتني سعادة لا تشبه غيرها لملاقاته، شعرت بسكينة وطمأنينة ونشوة تشبه التحليق في الجو، وظننت أن ذاك الشعور فريد من نوعه إلا أن التواجد هنا في حضرة جلالة المكان لا يشبهه إحساس آخر فأنت موجود تماما وجها لوجه مع الأقصى المبارك وفي القدس وزاوية الرؤية بلدة سلوان.

بعد مرور وقت استلقيت للراحة، وإذا بنسمة لطيفة عليلة تعانق جسمي وتمرر أصابعها على أهداب عيني حتى لا يفوتها المشهد الفريد في رونقه، وتداعب شعري وتلامس روحي وتلاعب أوتارها وتفقدني وعيي بالزمن، ولا تفقدني المكان الذي اقتحم كياني، وتستمر نسمات الهواء بمفعولها السحري فتهمس بمقطوعات ذكرتني بمعزوفات أحبها لآلة القانون، تبدأ بنوتات هادئة ثم تحملك بحماستها لترقص على إيقاع فريد استلهم لحنه من روح المكان الأسطوري... وتأخذك لتحكي لك أسرارها تطوف بك المكان وتكشف لك سره ثم تتركك مبهورا...

نهضت لأتأكد من مصدرها طبعا أنا أعرفه مسبقا لكني فضلت مقاطعة حلمي لأراه دون ملل للمرة الألف، متربعا بجمال قبته وشموخه الأبدي وانعكاس بريق القبة الذهبية المتسلل إليه مشكلين بذلك ثنائيا فريدا في لوحة نادرة رسمها فنان عريق ولم يضع اللمسة الأخيرة عليها.

يأتي الهواء العليل من الأقصى شماليا فيقطع الفضاء المقدسي من باب المغاربة ثم وادي حلوة مرورا بعيون سلوان الفوقا ثم التحتا، ويمكث قليلا في حي البستان يشد من همته ويبعث فيه صمودا يعزز صموده ويهمس بأذنه بأنه لابد من عاصفة ماطرة تزيل الغبار الجاثم على صدره فيغسل البستان ويحميه لينمو و يكبر، ثم يكمل طريقه عبر بئر أيوب وصولا إلى منطقة عين اللوزة يدغدغ كل أحاسيسك ويمر عليك منعشا يلاطفك، ويجعلك تحلق في حلم من ذلك النوع الذي لا تريد أن تستفيق منه أبدا تحاول إطالته حتى لا تصحو وتعود إلى واقعك العادي.

صحوت رغما عني وأنا لازلت مخدرة بإحساس سحري غامض لا يوصف بعد تلك القيلولة التي أخذتني بين الواقع والحلم جلست وأنا أسترق النظرات من بين أغصان الزيتونة إلى ذلك المكان الذي طالما سحرني وجذبني، حتى لا تفوتني الجلسة مع والدة صديقتي الحاجة إم ناجي "بنت السمراء" كما كان يطلق عليها والتي تحدثك عن الزمن الجميل، وعن عائلات سلوان وقصصها وعن تلك الأرض التي أطعمتهم من طيب ثمارها وعن تينها وزيتونها وعن الكثير من خيراتها، وتوزيع حصص الماء بين عائلات عايد والذبيات وعودة وصيام الخ... وهي خبيرة بسلوان تعرف أهلها فردا فردا، تقلق على أحفادها وأولادها وجيرانها، ومن مربأها المرتفع تقضي نهارها تحرس المكان  وتسأل عن وجهة حفيدها الذي لمحته وكاد أن يفلت من سؤالها وعن بكرها الذي لا يزال خارجا وعن هذا وذاك، تذكرك بالصقر الذي يحمي منطقته ويتفقدها يوميا، حاميا صغاره من مفترس قريب.

خلال هذه الجلسة قاطع حديثنا صوت أذان المغرب كان من أعذب ما سمعت... اخترق القدس وسلوان من كل الجهات تبعه صوت المدفع منهيا بذلك يوما آخر من أيام رمضان، مشهد الأقصى وخلفه قبة الصخرة يشدني كمغناطيس تنقطع أنفاسي بسحر المكان، أنجذب إليه بدون مقاومة وأدخل في تفاصيل شكله ومعانيه ورموزه المشبعة بأصول جذورنا وقصتنا الضائعة. في تلك الأمسية الرائعة لم يفارق نظري ذلك الملاك الحارس لروح التاريخ ومعالم الزمان فأطمئن على وجوده بين الفينة والأخرى مؤكدا لي أن القدس لأبنائها وليست لسواهم حارسة لبقائهم واستمرارهم.

كانت سهرة من أحلى سهرات العمر لا أزال أحتفظ بعبقها الأحلى من عطر الفل والياسمين والعنبر، وبمشاهدها التي هزت كياني وبجلسة سمر مقدسية بامتياز، لم تنقطع عنها النسمات العليلة تذكرك إن نسيت... بالمكان الاسطورة وبروعة المشهد الذي حظيت به... الأقصى المبارك ملاكي الحارس الذي سعدت برفقته وجعلني أشعر بانتماء لا جدل فيه للمكان وللحضارة وللعراقة التي يمثلها، و أنه وحده البوصلة.

التعليقات