14/11/2011 - 13:33

خريف الكستناء../ بيروت حمود

لم أقابل في حياتي أشخاصًا يحلمون بالركض فوق السور، بمشاهدة البحر وصيد السمك قبل الآن.. لم أقابل أشخاصًا لم يروا البحر إلا في جيب الخارطة أو شاشة التلفاز

خريف الكستناء../ بيروت حمود
شيء مُلح طالبني بالبحث عن هوية تربطني بالوجوه المتقطعة بين جزئي الذاكرة، إنه الإرباك الذي أحسسته أمام عاطفتي الغنجة نحو الأمكنة.
 
حركت لساني في حدود فكيّ لأزغرد لكنني لم أوفق.. تذكرت جدتي العالقة في عظام ساقيها لا تخرج منهما إلا للضرورة. تزغرد وتنشد للعرائس وتطالب أهل العروس بتسليم العروس لأهل العريس ( أعطونا عروستنا وخلونا نروح بلادنا بعيدة بتوكلنا الوحوش)، ومع أنني لا أتذكر منذ وعيت على الدنيا عرسًا واحدًا من الأعراس التي جرتني جدتي إليها جرًا، إلا وكان عُرس مبادلة بين جيران أو أقارب أو عروسين من نفس البلد، ولم أنجح في اكتشاف البلد البعيد الذي أنشدت له النساء في الأعراس إلا عندما قطعت الحاجز ودخلت هناك وصرت نصفين في حدود وهمية.
 
في الأيام الأولى وذاتي غارقة في دهشة رمادية آثرت أن أطبق تعاليم اللامبالاة، وأن أترجل قليلًا عن خيول الجدية؛ كنت في الطريق إلى السكن الجامعي عائدة من محاولة أولى فاشلة في الحصول على كتاب ما، فقررت بيني وبين ذاتي قرارًا بغير كلام أن أكمل الطريق حتى الدير اللاتيني في البلدة القديمة.
 
استوقفتني عند مدخل البلدة رائحة خبز محترق، فكرت كم من الأشياء الحنونة ستشعل في هذه الرائحة. وقفز إلى ذهني فجأة قول صموئيل جونسون: نميل لتصديق من لا نعرفهم لأنهم لم يخدعوننا من قبل.. خفت أن أتورط في حب هذا البلد كما لم أتورط في حب شيء ما ذات يوم، لكنني تقدمت نحو هلاكي بعري فاضح.
 
طلقني البلد الذي عشقت، البلد الذي كان يبعثني كلما أوغلت في الموت.. هل زني قلبي وعيناه تتعربشان صدر البلدة ويلاحق جدرانها لهاثه الصاخب، هل كنت أشتهيها؟
 
ذلك المساء عندما فرغت من افتعال اللامبالاة وقراءة الصحف الصفراء وشرب النبيذ (لا أعرف كيف وفقت بين الصحف الصفراء والنبيذ- ضرب من ضروب اللامبالاة)، قررت أن أكتب رسالة إلى صاحب هذا المكان (حوش العلية) أحكي له فيها عن دهشتي، وعن اشتال الحب التي زرعتها اليوم في أصيص القلب والتي ستكبر، تثمر وتنضج لتتضح علاقتي مع البلدة.. وأنني لاحظت أن هنالك تشابهًا عنيفًا بين هذه البلدة الموجزة وعكا. رغم أن هذه البلدة لا يمكنها أن تكون الخاصرة البحرية المعلقة على حوض الخارطة إلا أنها مازالت تحتفظ بتجاعيدها الفلسطينية، روافد وجهها، أخاديدها الغارقة بمسحة حزن في وجوه الناس.أوصيت حينها شابًا يعمل نادلاً بإيصال الرسالة إلى صاحب المطعم.. فسأل إن كان قصدي أن يوصلها (لمازن)، رديت بجفاء وكأنني لست من كتبها: أنا أصلاً لا أعرف صاحب المطعم، وخرجت.
 
ولي مع هذا المكان: حب يشرئب في دمي / ورقة واحدة لنص أخير/ رسائل مبعثرة بلا ردود/ غيمة تدلف عرقًا/ صوت الشيخ إمام وأنا مستمرة في الهمس الصاخب" توصلني سنين تهجرني سنين متغيرنيش دا أنا حبي كبير"/ الطريق الآخر ودهاليز السر في كفي اليسرى تحت ضوء القداحة...
 
الصبية/ المدينة/ الحمامة، كانت تحاول الهرب من الثعالب. هي لا تكره الثعالب هي تخاف الثعالب، الثعالب لم تكن ثعالب لولا أنهم حذروها مسبقًا: جدتها على وجه الخصوص، أمها، الجارة التي كلما عادت، هي، من الجامعة إلى مجد الكروم وجدتها ترتشف القهوة وتلعق الناس في فمها.. "هدول الناس نَوَر وعيونهن فارغة.. هدول أهل الضفة ما بيتأمنلهن يا خالتي، ولا بحياتهن شافوا بنات ديري بالك مليح يا شو اسمك..".
قال صاحبنا ذات يوم: إحنا عرب 48؛ فوقنا خرا وتحتنا خرا وبنقول يععع !.
 
أحضن جدتي،أخرجها قليلاً من ساقيها. أمشي باتجاه كلية العلوم. أتذكر الإطارات التي رميناها من فوق سفح (الجلاهي) وركضنا خلفها.. أعض على شفتي محاولة استرجاع طعم حبات الهال قبل القهوة. أصل إلى باب المحاضرة وأدخل.
 
أنا من القدس، وأنتِ؟. أنا من مجد الكروم. أهلاً وين هي؟. بالجليل. يعني وين بالجليل؟. حبيبتي أنتِ شو دين ربك فلسطينية ولا شو فهميني حدا بعرفش وين الجليل؟. طيب هلأ يعني بتعرفي تحكي عبري؟. آه. أنا على فكره بروح كثير على تل أبيب وهيك بحضر حفلات "لإيلي كوهن" ( لقد نسيت اسم المغني الصهيوني الذي تشاهد حفلاته الفتاة الصغيرة الأليفة التي تسكن عند باب المغاربة كما قالت، لهذا لا اعرف إذا كان إلي كوهن أو غيره). دخل المحاضر فشكرت الله الذي في السماوات على أنه أرسل الدكتور الذي أجبر الفتاة المقدسية على خلعي وارتداء شخص آخر.
 
وجدت نفسي بين مئات الفتيات وجلابيبَ من هب ودب. قلت في نفسي" بلش الجد فش لعب"!. كان ضجيجًا ثقيلاً يشعرني بالوحدة، ما الذي أفعله هنا؟. لماذا يحدقون فيّ؟. ما العيب فيّ؟. هربت إلى المكتبة، دخلت بين الرفوف ودفنت رأسي في رواية وليام فوكنر( وأنا أحتضر).. وغاص ذهني في كل الأشياء إلا الرواية. أكره الحاجز!. صباح شتوي بين أشجار الصنوبر، نار خفيفة وبطاطا مشوية. أزمة اقتصادية قريبًا في حقيبة يدي. وجوه الطلاب ( إنهم أشخاص عاديون، يقومون بنشاطات يومية عادية، مثلنا تمامًا -هذا كذب، لا أفهم لماذا يكرهوننا ونكرههم!).في رسالة أمي حذر من نوع آخر.. أمي تقول لا تنخرطِ في التنظيمات.
 
مسكينة يا أمي، أي تنظيمات؟ أمي تنام وتحلم بكلاشن كوف ودكتريوف وبزوكا وإم سكستين وطيارة إف 16 تمطر وابلاً من الصواريخ على كل هؤلاء.. أمي تفتعل الاعتقاد. أمي تدرك أن ما من شيء تخاف عليّ منه بعد اليوم.
 
رأسي كتلة حجرية و شحوب أيلول يدعو للقيء.. الدولة... الإعتراف، لا ارغب بالعودة إلى هذا الموضوع مرة أخرى..
 
دكتور، افترض أنه تم الاعتراف بدولة فلسطين التي ستقوم على مساحة 22% من أرض فلسطين التاريخية، وأن الصهاينة أتوا بعد حين للمطالبة بالاعتراف بدولة إسرائيل على أنها الدولة القومية لليهود، وكما أنه من حق الفلسطينيون العرب الحصول على إقامة دولتهم الشرعية فمن حق اليهود أيضًا أن يكون لهم دولة يهودية محض، لا اعتراض عليها.. ما الذي يضمن لنا عدم ذلك؟ فيكون هذا بمثابة غطاء شرعي لترانسفير جديد لنا نحن عرب الداخل.. بعدين دكتور، "طز بدولة نص نصيص".
ضحك الدكتور. أنتِ من معسكري!.
 
لم أقابل في حياتي أشخاصًا يحلمون بالركض فوق السور، بمشاهدة البحر وصيد السمك قبل الآن.. لم أقابل أشخاصًا لم يروا البحر إلا في جيب الخارطة أو شاشة التلفاز.. انتقل الحلم إليّ، اشتد هذا الغيتو الخانق على معصمي وشظيتي. فتحت ذراعي على سعة الحلم أحتضن الشاطئ الطويل، أزقة عكا، البحر، القطط الشاردة، الميناء و الصيادين.. لكن لا شيء من كل ذلك يفتح ذراعيه ليلقاني، لا شيء مشتاق إليّ كما أنا مشتاقة له. خرجت من الحرب مع الغيتو سبيه على أقل تقدير، بكيت حتى الاختناق. نظرت إلى الكنيسة، إلى البيوت القديمة التي فيها كل شيء فلسطيني، الطريق المظلم الذي ننتظر قدوم السر فيس فيه كل مساء والشجيرة التي أقطف منها عند كل ذهاب وإياب زهرة لأمتص ما علق من منظرها، وهي تتسلق ظهر تصوينة تحيط ببيت جدي.
 
كنت في حالة هستيرية،لا أريد لهذا التداخل- نفسي مع الأشياء أن يتوقف، لا اعرف حقًا ما الذي حصل حينها..
أرغب بالبقاء في حالة السكر المسعورة، لكن الكلمات تطير من شباك حافلة (361) المتوجه في هذه اللحظة إلى حيفا، والجندية الأثيوبية بجانبي لا يعجبها التطريز المتناغم على حقيبة يدي، والإذاعة تصدح بلغة عبرية عشرات القتلى في سوريا..
 
إنه ضرب من ضروب المستحيل، نزعة شيطانية أن تنهي كتابة نص بين عشرات الجنود في حافلة.. أنا لست هُنا ولست هناك.. ولست بين بين.. كان على الكستناء التي سهرت على تقشيرها أن توصلني إلى هوية واحدة.. لكنني نمت وهي لم تفعل!.

التعليقات