19/12/2011 - 17:50

انتَبِهوا.. إنّهم حقيقيّون! / رأفت آمنة جمال

صدِّقوا أنّهم حقيقيّون.. ولا يفوتكم، وأنتم تحدّقون في الشّاشة، أن تحدِّقوا بثقوب وجوههم، قبل أن تصيرَ وجوهكم منفى! وانتَبهوا إليهم.. فالإنسانيّةُ أكبر من السّياسة، وطفولتهم أصدق من ابتسامة الله!

انتَبِهوا.. إنّهم حقيقيّون! / رأفت آمنة جمال

انتَبِهوا.. وأنتم تضغطون على أعقاب سجائركم الآخذة بالتقلّص، لإطفائها، وتهزّون أجسادكم المتقلّصة أيضًا، على مقاعد تميلُ إلى الخلفِ حينًا، وإلى الأمام حينًا آخرَ!

(إلى الأمام إذًا.. إلى الأمام).

انتَبِهوا إلى أنّكم مخطئون، وضالّون.. فلتتوقّفوا عن الهزّ إذًا، ولتُسكِتوا موسيقى "الخداع العربيّ" كلّها، بدءًا من "يا ورد مين يشتريك"، وصولًا إلى "منتصب القامة أمشي".. وامشوا، إلى حيثُ تشترون بالحقّ ضمائركم، وتضعون الوردَ على أضرحةِ التّخاذل المتعفّن، واللامبالاة الّتي آنَ للشّرف العربيّ أن يغسلَ عارَهُ منها.

*

أطفال سوريّة الّذين تصادفُ جُثَثَهُم أعيُنُ الكاميراتِ في الطّرق / حقيقيّون، ليسوا دُمىً أسقَطَتْها أيدي الأطفال الرّاجفةُ فوق شُرُفات الذّعر، أو عَبْرَ نوافذَ كان الموتُ أسرعَ من لحظة إغلاقها!

إنّهم أطفال حقًّا، استُشْهِدوا لحظَةَ ذَهَبَتْ بهم الحرّيّةُ إلى النّضجِ باكرًا.. نعم، لقد كبروا سريعًا، حتّى غدَوْنا قبالةَ قاماتهم الباسقة صغارًا، فشاخَ بعضُهم تحت وطأة الأحلام المستعجلة، واشتهاءهم لمطرٍ مؤجَّلٍ، على حساب رصاصٍ لم يكونوا يدركون سوى أنّه شكل من أشكال اللّعب والمرح.. قبل أن يغدُرَهم الكبار الّذين امتلكوا كلَّ شيء.. كلّ شيء حتّى أوطاننا، وأحلامَ أطفالٍ كبروا دون أن ننتبه إليهم، إلى أن قادَ موتُهُم كاميراتِ الفضول إلى أشلائهم الّتي لا يصدّقها بعضُنا..

رغم حقيقتها الصّارخة بكرامتنا جميعًا..

أطفال سوريّة الّذين بصقوا شتائمَهم البريئةَ على شرَفِنا قبل أن يصلَ المصوّرون، هم أطفالٌ حقيقيّون أمام كذبنا المتواصل باسم السّياسة والوطن.. هم مَن كانوا وقودَ ممانعةٍ ميّعها ممتطوها، ومقاومةٍ خَصَتْها جزمةُ جنديّ ضلّ طريقه نحو الحقيقة، فلم تعُد تصلح إلا لنشرات إخباريّة تُثير الضحكَ، كبرامج كرتون تفي للاستهبال!

أخجل منهم، حتّى حين أجلسُ لأكتب عنهم.. ذلك أنّ ثمّة أشياء كسرها موتُهم داخلي.. ولم أعد أشعر أنّ "أضعف الإيمان" قادرٌ على منحي شعورًا أخفّ حدّة ممّا يجتاحني في العادةِ.. ربّما لأنّهم ماتوا، ولا يزالون يموتون، قبالةَ صمتِنا المُطبق..

ولأنّني أتساءل اللحظةَ، وأنا أكتب عنهم.. هل بإمكان نصّي هذا أن يُعيد لـ "عُلا جبلاوي" عينها الّتي قلعتها رصاصة الأمن السّوريّ؟ لا.. لن يُعيد هذا النصّ عُلا حيّة، ولا إبراهيم.. ولا حمزة ولا أيّ شهيد من هؤلاء الأطفال الّذين شرّحونا فأخرجوا بشاعتنا لنرقبها مطوّلًا..

صدِّقوا أنّهم حقيقيّون.. ولا يفوتكم، وأنتم تحدّقون في الشّاشة، أن تحدِّقوا بثقوب وجوههم، قبل أن تصيرَ وجوهكم منفى!

وانتَبهوا إليهم.. فالإنسانيّةُ أكبر من السّياسة، وطفولتهم أصدق من ابتسامة الله!

التعليقات