17/01/2012 - 17:36

دعاء لفاتحة جديدة: حاكورة أم حسن / أنوار سرحان*

صرخنا مصعوقين بوجه إحدى الجارات يوم همست قانطةً ذات محاولةٍ فاشلة لإقناعهم: "لو أخذت الحكومة الحاكورة يمكن كانت بتعملها جنينة والا ملعب للولاد؟" - يا ربّ الكون.. هل صار خلاصنا من أقارب تنهشنا يكمن في بيع أنفسنا للــ...؟

دعاء لفاتحة جديدة: حاكورة أم حسن /  أنوار سرحان*


- صارت زراعة قبركِ بالنعنع والريحان ملاذي ريثما يتّفق وارثوكِ بشأن حاكورتكِ -

وحدكِ وكلّ هذا الزحام.. عبثًا انتظرتِهم من عيدٍ لعيد.. كانت روحكِ تشرئبّ متشامخةً إذ تطلّ إلى أفواج الوافدين.. ربّما بينهم قريب، ربما حبيبٌ بعيدٌ ما زال يخلص للذكرى.. شدّتكِ أصواتُ ضجيجهم.. مرّوا جميعًا مسرعين، لم يتوقف عند قبركِ أحد.. تذكرتِ صراخكِ البعيد قبل هذا الرقاد، يوم تشتّت أبناؤكِ في المخيمات، وصفعكِ زوجكِ كي تخمدي صرختكِ: "راجعين يا مرَة"، قالها جاهلاً كذبَه..

لم يعودوا.. ماتوا في لبنان والكويت والإمارات، ومن بقي خنَقه مخيمُ اللاجئين.. أمّا من مرّوا بقبركِ الآن عابرين فليسوا غيرَ أولئك الذين أقنعوكِ أن تورِثيهم تركتكِ كيلا تصنَّف أملاكَ غائبين..

ها الشمس ترتفع ليعودوا إلى احتفالاتهم، فأظلّ وحدي ها هنا، وتزدادين اندهاشًا من أكون..

ولماذا تلحّين عليّ بالسؤال مستهجنةً كلما وقفتُ فوق قبركِ يا أم حسن؟ وبأيٍّ منّي أجيبكِ؟ بأناي الطفلة التي ما أكثر ما زيّنتِ صباحات أعيادها، أم بامرأةٍ تسكنني حملَت في قلبها كونًا مجروحًا، تنزّ منه مأساةُ شعبٍ ما زالت نكباته تتناسل، وما زلتِ إحدى مراياه؟

لطالما رأيتكِ تسيرين مع هذه الوفود وصوتِ التكبير، تتكئين على عكازتكِ وتسندين عليها كيسًا من الفستق و"بيض الحمام"، حلواي المفضلة آنذاك، تمرّين إلى شرفتنا التي كانت مطلّتي إلى العيد لتمنحيني حصّتي منها كي أقسم أن العيد جاء، ثم تمشين معهم إلى قبر زوجكِ.. ككلّ أهل قريتنا الذين يستهلّون عيدهم بزيارة الموتى، كأنما أقسمنا على أنفسنا أو أقسم الدهر علينا ألا نعرف فرحًا إلا ممزوجًا بالموت..

وتغيبين لتعودي بعد أيامٍ لاهثةً، تتوسّلين أبي أن يبحث في المذياع عن صوت ابنكِ حسن يأتي من مخيم الرشيدية، بعد أن أبلغكِ جاركم للكذبة المليون أنه قد سمعه يهديكِ سلامه في محطةٍ ما، وأنّ التسجيل سيبث من جديد. يجاريكِ أبي البحث والانتظار ساعاتٍ قبل أن تغزوه دموعه ويهمس لكِ يائسًا: "والله يا خالتي ما فيه ولا محطة جايبة حسن".. فتنبعث تناويحكِ بصوتكِ الذي لم يفقد عذوبته ولم تشب الأحزان صفاءه:

"شمالي يا هوا الديرة شمالي

حبابي سافروا وراحوا شمالي

أنا لارافق الغيم الشمالي

ندى واسقط على كعاب لحباب

شمالي يا هوا الديرة والبلاد

انتو ضيّ عينيّ والبلاد

عسالله تعودوا يا حبابي عالبلاد

ويجمع شملنا عالي السما"

تنبعث دموعكِ -جفافًا يبابًا- فتجيبكِ أمي بصوتٍ أخشنَه الاختناق:

"يا عين يا عين لا تبكي وتبكّيني، لا أمّي حدّي ولا أختي تسلّيني

يا عين كوني على البلوات صَبّارة، وكوني يا عين عا كسر العظم جبّارة"..

حبّات حزنٍ تقطر، وفي ذاكرتي تحفر، حتى إذا ما استقّرت هناك عند مستودع القلب رأيتُها نهرًا تجمّع ثمّ فاض على ضفافه غامرًا روحي، فلم أكن بعدُ قد اكتشفتُ حلمًا ألوذ به من كمّ الوجع إن تدفق، بأني يومًا ما سأحيل هذا العالَم طائرَ رخٍّ قبل أن أحرقه، لعلّ من رماده ينبعث عالمٌ أجمل..

ويكون أن أكبر يا أمّ حسن، وأن أحبّ شابًّا من حارةٍ أخرى وأتزوّج، نعم، ما زال ثمة متّسعٌ أن نعشق بل ونتزوج ونرقص ونفرح.. ثمة في حياتنا أوجاعٌ جمّة، ولكن ثمة أيضًا متّسعٌ للبقاء، نتشبّث بالضحكة ونلحّ ألا يبقر أحدٌ لبّ أغانينا، فنخمد ما أوتينا وجع الغصات.. أتزوّج فألتقي قريبًا من بيتي الجديد "حاكورةًاشتعلت شهواتها هائجة صاهلة، قد شغفها الإهمال تعطشًا، تتشوق أشجارُها وأعشابها وتربتها ليل نهار ليدٍ حانية تمسّد عليها ببعض دفء، تبدو أشبه بمنفى لكلّ ما يبغي أهل الحي التخلص منه، فهمتُ أن جيرانك الذين أقنعوكِ بأن تورثيها لهم كيلا تستولي "الدولة" عليها بعد موتكِ، قد اختلفوا على تقسيمها بينهم، وأقسم كلٌّ منهم أن تظل بورًا ما لم ينل منها الحصة التي يشاء.. تتألم حاكورتكِ ليل نهار، وأصعق كلما خاب اقتراح أحد أهل الحيّ بزرعها والاعتناء بها، فشتموه بتهمة الطمع في سرقتها.

 صرخنا مصعوقين بوجه إحدى الجارات يوم همست قانطةً ذات محاولةٍ فاشلة لإقناعهم: "لو أخذت الحكومة الحاكورة يمكن كانت بتعملها جنينة والا ملعب للولاد؟" - يا ربّ الكون.. هل صار خلاصنا من أقارب تنهشنا يكمن في بيع أنفسنا للــ...؟

وكما كنتُ أطل إليك من شرفة طفولتي كلَّ صباح عيد، صرت أطلّ الآن إلى حاكورتكِ النازفة كلّ صباح ومساء، لأرى شعبًا سيرتُه اكتظّت بالبثور، واستمع إلى جارة تحدثني كم كنتِ يا أم حسن فلاحةً ماهرةً نشيطة، كم التصقتِ بهذي الحاكورة التي كانت جنةً في حياتكِ.. وكم زرعتِ فيها محصولاً أملتِ أن يأتي أبناؤكِ كلّ عام ويشاركوك أكله، وكم ادّخرتِ من المحاصيل لعودتهم.. قالت إحداهن إنهم يوم وفاتكِ عثروا على أكياس التمر والقطين والزبيب الذي جمعتِه لعودة الغائبين، ولم يعودوا!

صارت زراعة قبركِ بالنعنع والريحان ملاذي ريثما يتّفق وارثوكِ بشأن حاكورتكِ.. آتي إليكِ صباح كلّ عيدٍ لأذكر أعيادًا منحتِها لي، ثم أقرأ لكِ فاتحة الكتاب أملاً بأن يسمع الله دعاء شعبٍ لم تتوقف شلالات مآسيه منذ عقود، لعله يمنّ علينا بفاتحةٍ أخرى جديدة، فاتحةٍ لخيرٍ وأمل توصد أبواب الشقاء والمعاناة!



ملاحظة: أي تشابه بين هذا النص والواقع، يستلزم محاسبة الواقع لا النصّ!

* كاتبة فلسطينية من الجليل.

التعليقات