22/07/2013 - 17:29

في الركن البعيد / أحمد أطرش

أنزح إلى هذه الحانة كلما طوقت عنقي بقايا شعرك التي أجبرت على البقاء في سريري. كلما تآمرت عليَّ الأغاني، أنزح منك إلى هذه الحانة، أكثر زوايا القدس اكتظاظًا بكِ.

في الركن البعيد / أحمد أطرش

أنزح إلى هذه الحانة كلما طوقت عنقي بقايا شعرك التي أجبرت على البقاء في سريري. كلما تآمرت عليَّ الأغاني، أنزح منك إلى هذه الحانة، أكثر زوايا القدس اكتظاظًا بكِ.

في هذه الحانة المهملة بذكاء، كنتُ جالسًا في الركن القريب من الباب. الساعة تشرف على الثالثة بعد منتصف الليل، والنادل يتظاهر بتنظيف الكؤوس ملمحًا إلي بالمغادرة. لم يمض الكثير من الزمن مذ كنت هنا برفقتكِ. كمن يتمعن لوحة فنية تكسوها التفاصيل، كنت أنظر إليك خلسةً بينما تأخذين نفسًا عميقًا من السيجارة بنهم وتنفثين بهدوء دخانها نحو السقف بعينين نصف مغمضتين وابتسامة طفيفة.

كم كنتُ مبتذلًا يومها حين سألتك، بعد أن حطت يدي فوق يدكِ بشكل مفاجئ:

"ولااو... إيديكي كثير باردات... سقعانه؟!"

تسلقت أصابعك راحةَ يدي، فتسللت موجة من يدك إلى جسدي لتبدد كلس السنوات الأربع التي مكثتها في هذه المدينة ونمت على قمة روحي آلاف زهور الأقحوان. نغادر الحانة بعد وقتٍ قصير. كل شيء بدا مثاليًّا كليلة مقمرة في أواخر أيار. نقف في وسط الطريق، تنظرين إلى السماء وتسألينني بثقة مبالغ فيها:

- بتعرف كيف تعرف الجهات حسب النجوم؟!

- إسا راح أصير.

- شايف هذول إللي هناك؟ مشكلوش رح ينفع!!

كانت الغيوم تثقل صدر السماء، لا نجومَ نبصرها ولا "جهات"، نكمل السير بضحكات دامعة بسبب الموقف المحرج. كم كانت غبية ضحكاتنا، وكم كان من الغباء أن ندع أزقة المدينة تشربنا دون أن ندرك الجهات.

في هذه الحانة المهملة بذكاء، كنت جالسًا في الركن القريب من الباب. تمامًا على هذين المقعدين جلسنا يومها، وها أنا الآن أجلس على أحدهما وأضع حقيبتي فوق الآخر خشيةَ فقدانه، أو فقدان ما تبقى منك هنا. 

محاولةً منه لأن يطردني على الفور، سألني النادل بنبرة حادة:

- شو كمان نص ولا خلص؟! 

- لا خلص... بدي أشرب هالشوي إلي ضلوا وأروح... أخّرتك بعرف.

"لا بسيطة" جاوبني بابتسامة مصطنعة. 

أشيح بوجهي عنه شاتمًا إياه في سري. هو النادل ذاته الذي قدم لنا المشروب يومها، بدا لطيفًا والابتسامة تعبق من وجهه، يضحك كلما ضحكنا، يسألنا عن أسمائنا ويشاركنا الحديث ثم يشغل الموسيقى التي نرغب. كان يقدم لنا المشروب مجانًا ويسهب بابتسامة طفولية قائلًا: "هذول عحساب المحَل". وها هو الآن بوجهه المتحجر يغير عليَّ بعينيه الباردتين كلما التقت أحداقنا كمن يريد أن يركلني خارجًا. 

أشعل سيجارة أخرى وأشرب آخر ما تبقى من الكأس، أسحب نفسًا بكل ما أوتيت من تعب، يهبط قلبي، يكاد أن يغمى عليَّ، تتزاحم في رأسي الصور وتتداخل السنين. مشاهد من الطفولة تدَوّي في رأسي كشريط فيلم قديم...

عشرة أطفال نعدو كما لو نحاول مسابقة أجسادنا، نتسلق سور المدرسة الابتدائية متجهين نحو "البساتين"، كما كانت عادتنا في كل يوم خميس بعد انتهاء الدوام. نذهب إلى البساتين المحاذية للمدرسة لتصفية الحسابات، أو لإعادة ترتيب موازين القوى فيما بيننا.

الجو حارق والعرق يقطر من جباهنا. نتعارك لساعات حتى يغطي وجوهنا التراب ويدخل في أعيننا، وبعدها نجلس على السور كأن شيئًا لم يكن.

في طريق العودة إلى البيت، نتبع "شادي" بخطى مثقلة بالتعب والفضول. شادي هو أكثرنا خبرة في معرفة مواقع أشجار الليمون والأسكدنيا الموجودة في طريق المدرسة. كان يقطف الثمار بسرعة في الوقت الذي نحدق فيه بحذر. كان ينتبه لنا ويقول مطمئنًا: "تخافوش، صاحب الدار بقربلي". كنا نعرف حق المعرفة أنه يكذب، لكننا كنا بحاجة لمثل هذه الأكاذيب. في مثل تلك المواقف، كان يراودني دائمًا السؤال نفسه: "ما الذي نريده من وراء سرقة الثمار، هل هي الثمار فعلًا أم هي لذة الخوف؟".

نفترق في منتصف الطريق، أسلك طريقًا مختصرًا إلى البيت، تكسوه أشجار الصنوبر والزيتون. أكياس قمامة على جانب الطريق، رائحة الجيف تملأ الهواء، كنت أعبر هذا الطريق يوميًا رغم الخوف الذي يسكنني بمحض الدخول إليه. أتذكر الحلم الذي رافقني لسنوات طويلة في الطفولة؛ كنت أحلم بأني أقوم بدفن رجل ما في هذا الطريق الوعر، كان يشبهني جدًّا، شامة صغيرة في مقدمة أنفه، تمامًا كتلك التي على أنفي. لكنه بدا أكبر مني سنًا. أستحضر تقاسيم وجهه مرةً أخرى، أركض كمن أصابه العمى فجأة، ألهث، أصرخ ملءَ حنجرتي، يربك الخوف قدميَّ، أتعثر فأرتطمُ بالأرض. أشرعُ جفوني ببطء..

في تلك الحانة المهملة بذكاء، كنتُ جالسًا في الركن القريب من الباب. أدفع الفاتورة وأهم بالخروج، أنظر في المرآة المعلقة بجانب الباب الخشبي، ذلك الرجل الذي دفنته مرارًا في أحلام الطفولة يشبهني حد التطابق الآن. 

أدفع باب الحانة وأخرج راكضًا، أقف في وسط الطريق وأنظر إلى السماء. كانت الغيوم تثقل صدر السماء، لا نجومَ أبصرها ولا جهات.

التعليقات