31/05/2014 - 15:50

صديقي البدوي../ محمد برغال

فأنا بطبعي متفائل بالخير لبلدي ولأهل بلدي، والكتابة عن الواقع البائس إن لم يكن بها ما يضيء الطريق نحو المخارج الصحيحه فهي، وإن بشكل غير مباشر، تسهم في تكريسه

صديقي البدوي../ محمد برغال

منذ أن عدت إلى بلدي وقلمي يحك أصابعي مستحثا وملحا بالكتابة حول الكثير الكثير مما يوجب الاستفاضة بالكتابة عنه، مما يجري من أحداث وتدهور بالأحوال. ذلك أنني لم أسمع من كل من قابلت أو توجهت إليه، ولم أجد، سوى ازدياد في التدهور على جميع المستويات، والأخطر هو تدني مستوى الإنسان ذاته. هذا التدهور الذي يضل فيه مجتمعنا، جملة لا أفرادا، عن كل فهم موضوعي لواقعه، وتضطرب فيه القيم، وتختل الموازين، وتختلط المقاييس، وتتحول الرموز والشعارات والمبادئ التي ميزت الأمم المتحضرة، إلى كلمات جوفاء، ويغدو المضمون الحقيقي لكل نشاط فكري أو ديني أو فني، انشدادا لسلطة أو للتمتع باللذائذ الرخيصة أو الحصول على وسائل هذا التمتع. فكل مجتمع يصل إلى هذا الطور، يغدو مستواه الحضاري بانحدار متواصل لا يمكنه معه أن يتفادى السقوط والانهيار، أقول رغم كل ما ذكر إلا أنني لم اكتب!

فأنا بطبعي متفائل بالخير لبلدي ولأهل بلدي، والكتابة عن الواقع البائس إن لم يكن بها ما يضيء الطريق نحو المخارج الصحيحه فهي، وإن بشكل غير مباشر، تسهم في تكريسه.

وحين أطرح بالتفصيل والمنطق الذي يشق الصخر فهمي للسبب الرئيس وراء هذا التدهور، ألا وهو عدو همه الدائم هو ضمان تفكك مجتمعي ليكون مجموعة أفراد متفرقين رغم كمهم الذي هو بازدياد، ستجد من يرفع حاجبه ليقول "هذا ما نستفيده من هؤلاء أهل السياسة!"

فالنظرة التشاؤمية في بلدي هي سيدة الموقف تلمسها في صدى الضحكات، وتنطق بها حتى الشفاه المبتسمة والكثير من الشباب، قد بلغ بهم اليأس حدا باتوا معه يبحثون عن بلد أو حتى دولة يهاجرون إليها.

والمشكلة أن الكثيرين ممن يحاولون فهم ما يجري يضيعون البوصلة حين يعتمدون تفسيرات مجزوءة ومنقوصة وبالتالي مشوهة. فتجد البعض ينسب سبب ذلك التدهور إلى تكويننا نحن كعرب فيرى أن "لا خير فينا"، ويقول على سبيل المثال "انظر باقي شعوب العالم تجد الألفة والتكافل بينهم، يساعدون المحتاج، ولا يحسدون الناجح من بينهم، بل يفرحون لنجاحه"! والبعض الآخر ينسب تدهور الأوضاع لانعدام الأخلاق أو الابتعاد عن الدين أو لتهافت الأغلبية على عبادة دين جديد هو دين المال، وبين ضيقي الأفق تجد من يعزو السبب إلى النزعة العنصرية لدى فئة اجتماعية، بعينها فبعض المسلمين يتهم المسيحيين بذلك ويسوق" الأدلة"، وبعض المسيحيين كذلك ينسب للمسلمين صفة العنصرية. وكم نبهنا بالماضي وأوضحنا مدى كذب وضعف وضحالة وسخافة وخطورة هذه الطروحات المفرقة، ومع ذلك فهي تزداد بل وتضاف إليها تقسيمات أخرى بين هذا مدني وذاك فلاح أو بدوي.

وفي أسفل سلم التصنيفات المفرقة ننغلق على العشيرة والعائلة، فلكل إنسان فينا دوائر انتماء تتسع كلما ارتقى مستواه الحضاري، وبالاتجاه العكسي فهي تضيق، فحين تضعف لدى الفرد دائرة انتمائه لأمته العربية أو الإسلامية أو لنقل يجد أن هذا الانتماء المهم والأساسي لم يعد بالمردود عليه يسمن أو يغني من جوع، فإنه يحاول الاستفادة من مواطنته في الدولة، وحين تنقطع تلك الدائرة ويفقد الانتماء لدولة لا تتقبله فهو يحاول التشبث والاستفادة من انتمائه للقرية أو المدينة، وحين ينعدم ذلك الانتماء فإنه يلجا إلى طائفته، وبعد ذلك إلى العشيرة والعائلة، ومنهم من يتحجر ويجمد ويضيع أخيرا عن معاني الحياة الصحيحة، ويغرق في أشياء تتسم بالتفاهة أو القصور، كان ينصرف إلى جمع المال والاستغراق المطلق في تكديسه، أو يعتزل الناس فلا يرى بعد فيهم خيرا، أو يتلهى بالسفاسف والقشور، أو يزهد ويتنسك ويصطنع لباس المسكنة، عن غير وعي ولا تفكير.

بينما نجد بالمقابل دولة كاليونان تتمسك بوجودها في الاتحاد الأوروبي رغم أن خروجها سيعود عليها بالربح الوفير على المدى القريب، فهي بعملة محلية رخيصه ستكون محجا للأوروبيين وستتضاعف بها السياحة أضعافا، ويزدهر وضعها وتخلص من ديونها، لكنها تدرك أن حفاظها على الدائرة الأوسع أفضل لها ولشعبها إستراتيجيا، فهي تؤثر تحمل الأعباء الاقتصادية والتقشف والديون على أن تخسرالوحدة مع الاتحاد الأوروبي والفائدة المستقبلية من ذلك لشعبها.

لكن ذلك كله وأكثر كان أمام عيني ورغم علمي بأن عدو أمتي الذي يهتم بالإضرار المنهجي بشعبي وتفتيت مجتمعه مستعينا بكل ما ذكر أعلاه هو هو العامل الأساس وراء كل ما ذكر، إلا أنني لم ابدأ الكتابة، إلى أن حصل بالامس ما استحثني على البدء بالكتابه!

فقد كنا ثلاثة إخوة وأصدقاء على موعد لنذهب سويا لتعزية صديق آخر. كنا اثنين ننتظرصديقنا البدوي الذي وعلى غير عادته قد تأخر عن موعده، ولكنني عذرته طبعا بعد أن علمت السبب. فصديقي ذاك يعمل سائقا لسيارة أجرة كان قد أقل سائحا أتى للبلاد قبل يومين من مطار اللد إلى الجنوب، وبعد أن أوصله وعاد، اكتشف أن السائح قد نسي معطفه في السيارة وبه محفظة ملأى بالنقود وبطاقات اعتماد والكثير من المستندات القيمة، فما كان منه إلا أن عمل ما يلزم من الاتصالات للوصول إلى ذلك السائح، وليطمئنه أن معطفه وماله بامأن، ويستطيع الحضور لاستلامهم متى شاء. فكان أن تأخر سائق الأجرة الذي أحضر السائح وأخّرنا نحن كذلك. وحين وصلت أخيرا سيارة الأجرة التي أقلت السائح خرج صديقي من سيارته وسلم الأمانة لصاحبها.

هذا أيها السادة يحصل أيضا باللد! بكل التواضع والشموخ عاد صديقي للسيارة، وقادنا لنؤدي واجب العزاء وكأنه لم يفعل شيئا يستحق عليه الثناء والتقدير. يصعب أن تصف بكلمات ما رأته عيناي من إعجاب السائق الذي أوصل السائح وذهوله، وكان هالة عز صديقي وروعة شموخه قد شدهته وأسرته وهو ينظرعاليا باتجاه صديقي حسن الخلق بنظرة فيها اعتراف برقي إنسان يفرض عليه المهابة والاحترام.

وحين عاد للسيارة لم يستمع مني أو من صديقنا الآخر أي كلمة ثناء. لم يجد من يربّت على كتفه ليقول على الأقل كل الاحترام يا صديقي، وأنا على الرغم من معرفتي بمستوى أخلاقه واعتزازي بصداقته وافتخاري به إلا أنني تفاجأت بما حصل، فأنا في اللد حيث لا حديث الا عن الأمور السيئة! ولكنني انتظرت قليلا علني أستمع إلى مزيد من التفصيل ينتظر بعدها صديقي أن يأتي أي رد فعل مناسب أو ثناء من جانبنا، إلا أن ذلك لم يحصل.

شعرت برغبة باحتضان صديقي وتقبيله لأبين له كم أنا فخور به وبصداقته، لكنني وجدت أن ذلك لا يكفي، وأن سلوكا كهذا يوجب، على كل من يحترم نفسه في بلدي، أن يكرم صديقي، كل من يهمه أن يكون لأولاده في بلده قدوة وأنموذجا تربويا للرجل بمعناه العربي الإسلامي الصحيح، معنى الصدق والكرم والمروءة.

فصديقي ربما يختار أن لا يقص حكايته على أحد لكنني سأحكي حكايته لأولادي بكل فخر واعتزاز. فأنا أعلم كم أنه كان بحاجة إلى ذلك المال، ولكنه اختار أن يكون بهذا المستوى الراقي ممارسة لا كلاما فقط. هذا نموذج يجدر بنا أن نتناوله بالحديث، ويجدر به أن يكون بالنسبة لنا أكثر تشويقا من خلاف العائلة الفلانية مع العلانية أو من أطلق الرصاص على فلان، ومن سيطلقه على علان!

وهذا السلوك هو مسؤولية كل من ينشد الخير منا لأولاده، فنحن وما نتبنى وما نفعل نشكل أقوى قدوة يقتدي بها أبناؤنا. فتماما كما أن على من يستطيع القراءه لكنه لا يمارسها كهواية أمام أبنائه، أن لا يتوقع أبناء قارئين، كذلك على من لا يريد لأبنائه أن تكون نهايتهم في مصاف القتلة والمجرمين أن يهتم إضافة إلى شجب تلك الأعمال، وعدم التحدث عنها بإعجاب وانبهار، وأن يهتم أيضا بقدر لا يقل أهمية بتكريم رجال سلكوا مسلك صديقي، وأن يدرك أهمية الحديث عن ذلك بالاحترام والإعجاب والتقدير الذي يستحقونه.


 

التعليقات