البطّيخ علمًا لفلسطين... خيال ضابط إسرائيليّ

للفنّانة التركية Elif ÇELEBİ

 

منذ بدء العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة في تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، تنتشر بشكل كبير رسوم و’إيموجي‘ البطّيخ على مواقع التواصل الاجتماعيّ، بصفته، أي البطيخ، رمزًا بديلًا عن العلم الفلسطينيّ. في هذه المقالة، أحاول الإجابة عن سؤال هل البطّيخ رمز فلسطينيّ متجذّر في الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة؟ وكيف نشأت وانتشرت هذه الظاهرة؟ وهل حقًّا ارتضى الشعب الفلسطينيّ رمز البطّيخ بديلًا عن العلم الفلسطينيّ؟

انتشرت خلال الأحداث الأخيرة رسومات وتصميمات على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وفي بعض التظاهرات المؤيّدة للفلسطينيّين في دول غربيّة، تتمركز حول البطّيخ رمزيّةً لا تحيل إلى العلَم فحسب، بل استبداليّة له أيضًا؛ أي أنّه يُسْتََخْدَم بديلًا عنه. وبالعودة إلى محرّكات البحث، نجد عشرات التقارير الإعلاميّة الّتي تتحدّث عن البطّيخ بصفته رمزًا أو أيقونة أصيلة ومتجذّرة في الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة. 

هذه التقارير نموذج على المبالغة الّتي تصل حدّ الإيهام، عبر التناقل المستمرّ للمعلومات دون التحقّق من صحّة مصادرها؛ ليصبح الأمر أشبه بانتشار الشائعة، الّتي قد تعتمد بعضًا من الحقيقة في سطورها، لكنّها تبقى بشموليّتها بعيدة عن الحقائق وأرض الواقع؛ إذ إنّ البطّيخ لم يكن رمزًا أصيلًا، ولم يستخدمه الفلسطينيّون بديلًا عن العلم الفلسطينيّ، لا في الوطن ولا في مخيّمات اللاجئين في الشتات، ولا في أيّ فترة من تاريخ النضال الفلسطينيّ[1].  

 

ماذا يعني الرمز؟

تعني كلمة الرمز "الإشارة إلى علامة ما، أو فعل من نوع ما، يُسْتَعْمَل في نقل معنًى معيّن لفرد ما، استنادًا إلى مجموعة من المعايير أو الممارسات العرفيّة المعتادة العامّة"[2]. مثل علَم الدولة، أينما شوهِد يُشِر إليها.

وهكذا غدا العلم الفلسطينيّ، وخارطة فلسطين الكاملة، والكوفيّة، وحنظلة، وقبّة الصخرة المشرّفة، والمفتاح، وشجرة الزيتون، وغيرها، رموز تؤدّي وظائف دلاليّة معيّنة تشير إلى الهويّة والقضيّة الفلسطينيّتين، وهي حاضرة بقوّة في الحياة الفلسطينيّة، سواء في أشكال الاحتجاج، أو في مشهديّة البيت الفلسطينيّ، تظهر ضمن معلّقات على الحائط، وعلى الصدور، ومنتجات أخرى، وحظيت بممارسات عرفيّة تراكميّة عبر الزمن.

العلم الفلسطينيّ، وخارطة فلسطين الكاملة، والكوفيّة، وحنظلة، وقبّة الصخرة المشرّفة، والمفتاح (...) رموز تؤدّي وظائف دلاليّة معيّنة تشير إلى الهويّة والقضيّة الفلسطينيّتين...

غير أنّنا لا نعثر على البطّيخ في القاموس الرمزيّ الفلسطينيّ، لا في أشكال الاحتجاج المختلفة في الوطن ومخيّمات اللجوء خارجه، ولا في المخرجات البصريّة للأحزاب الفلسطينيّة المختلفة، ولا في مشهديّة الحياة اليوميّة الفلسطينيّة.

تعتمد التقارير الإخباريّة والمقالات على معلومات عدّة تؤكّد استخدام رمزيّة البطّيخ في الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة عبر مراحل تاريخيّة؛ ومن هذه المعلومات أنّه اسْتُخْدِم بعد عام 1967، عندما حظر الاستعمار الإسرائيليّ رفع العلم الفلسطينيّ، لكنّ أيًّا من هذه التقارير لا يشير إلى مصدر تاريخيّ أو أكاديميّ يؤكّد هذه المعلومة. وخلال بحثي للدكتوراة في العلاقة بين الهويّة والفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ، اطّلعت على مصادر تاريخيّة وثقافيّة كثيرة، ولم يشر منها إلى شيء من هذا. وبالاطّلاع على أعمال فنّيّة كثيرة لروّاد الفنّ الفلسطينيّ، ومَنْ بعدهم من أجيال التشكيليّين، سواء في فلسطين أو الشتات، فإنّنا لا نعثر على رمز البطّيخ فيها، غير أنّنا نعثر وبكثرة على الرموز السابق ذكرها، إضافة إلى غيرها من الرموز[3]

يقول عصام نصّار، الباحث في تاريخ فلسطين: "اعتمادًا على ذاكرتي، ليس هناك أيّ دليل على استخدام تاريخيّ للبطّيخ في السياق الوطنيّ الفلسطينيّ، يُقال إنّ الأمر يعود إلى أواخر السبعينات أو الثمانينات، عندما صَدَرَ أمر عسكريّ بمنع استخدام ألوان العلم، ولا دليل على ذلك - أي على استخدام البطّيخ بديلًا عن العلم - غير أنّ هناك حادثة - غير مؤكّدة أيضًا - عن حالة اعتقال شخص بسبب أنّه رسم نصف بطّيخة على باب دكّانه أو عريشته[4]. ولم تُسْتَعْمَل رمزيّة البطّيخ حتّى ظهور الأعمال الفنّيّة الحديثة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، غير أنّني متأكّد من أنّه لم يكن يومًا من الأيّام رمزًا يشير إلى القضيّة الفلسطينيّة"[5]

 

البطّيخ والضابط الإسرائيليّ

تتّضح مسألة البطّيخ على لسان الفنّان سليمان منصور، الّذي يقول إنّه في أواخر عام 1980 أقام معرضًا في «جاليري 79»، الّذي أسّسه في رام الله مع زميلين فنّانين آخرين؛ لتغلق سلطات الاستعمار المعرض، وتأخذ مفاتيح الجاليري. بعد أسبوعين، استدعت الفنّانين لتوجّه إليهم أوامر تتعلّق بقوانين معيّنة، من بينها أنّه يُمْنَع عليهم استخدام ألوان العلم الفلسطينيّ الأحمر والأخضر والأبيض والأسود في أعمالهم الفنّيّة؛ بحجّة أنّه يُمْنَع ظهور العلم الفلسطينيّ في المناطق الّتي يسيطر عليها الاستعمار. يسأل الفنّان عصام بدر، الّذي كان حاضرًا، يسأل الضابطَ: "افرض رسمت زهرة/ وردة فيها الألوان هذه الأربعة؟"، فيجيب الضابط: "اللوحة طالما فيها الألوان هذه نصادرها... وكمان إذا بترسم بطّيخة بنْصادرها"[6].

يكمل منصور، فيقول: "فكرة البطّيخ أَجَت من الضابط الإسرائيلي، وقتها حكينا إحنا للصحافة مباشرة... عن هذه القوانين، وعن منع الرسم بهذه الألوان، وصار في حملة تضامن من فنّانين كتير من العالم، والصحافة كتبت عن الموضوع كتير، بسّ وقتها ما صار في اهتمام كبير لقضيّة البطّيخ، كان اهتمامنا أكثر بإبراز العلم الفلسطينيّ والتركيز عليه كعَلم... في 2007، ولما صار في نوع من الاهتمام بالفنون المعاصرة وبالفنّ المفاهيميّ (Conceptual) الّذي يعتمد على الفكرة... والحدث، أحد الفنّانين... هو خالد حوراني، عمل لوحة كبيرة، اللّي هو شقحة بطّيخ يعني... وصار في تقريبًا نوع من الانتباه لموضوع البطّيخ، ورجعوا الناس يحكوا في القصّة... بعدين الناس نسيوا الموضوع... ما كانش فيه اهتمام إلّا بفترة حملة الشيخ جرّاح، صار في اهتمام بموضوع البطّيخ بطريقة أنا شخصيًّا ما بقدر أفسّرها..."[7].

 

علم فلسطين الجديد: بطّيخة!

يقول خالد حوراني: "استعرت، لاحقًا، من هذه القصّة وهذا الضابط، فكرة العمل، أي رسم بطّيخة بألوان العلم الفلسطينيّ، ليس إعجابًا بما تفتّق عن خياله المريض، بل سخرية من منعه رسم العلم الفلسطينيّ. هكذا، عندما سمعت بالقصّة من زملائي الفنّانين لأوّل مرّة، واتتني فكرة رسم بطّيخة، واستغربت أنّ أيًّا منهم لم يُنْتِج عملًا عن هذه القصّة الطريفة، وفي سنة 2007 غامرتُ بعمل ساخر في إطار مشروع «أطلس فلسطين الذاتيّ»، ورسمت العلم البطّيخة... نُشِر العمل في كتاب «أطلس فلسطين الذاتيّ» في عام 2007، جزءًا من فكرة عن علم فلسطين الجديد، وذُكِرت القصّة فيه"[8].

 

علم البطّيخ، للفنّان خالد حوراني.

 

إذن، قرّر الفنّان أن يصبح هناك علم جديد لفلسطين، وهو بطّيخة! وبغضّ النظر عن دوافع السخرية من الضابط وقوانين المنع، لكنّ فكرة استبدال العلم ببطّيخة يجب أن يقابلها نقد ثقافيّ-وطنيّ؛ فعلى مدار عقود من الاستعمار، لم يتجاوز حتّى كبار الفنّانين الفلسطينيّين، العلَم الفلسطينيّ إلى درجة استبداله بموضوع بصريّ آخر، بل رسموه بكلّ الأساليب والأشكال، واحترموا مكانته ورمزيّته وقدسيّته؛ وللعلم الفلسطينيّ قدسيّة خاصّة، مستمدّة من رمزيّة القضيّة الفلسطينيّة، وارتقاء الشهداء لأجل رفعه ورفعها، ومن جثامين الشهداء الّتي تُلَفّ به. إنّ إهانة أيّ نظام سياسيّ أو شعب أو دولة، تكون عبر محو علمها وإلغائه وإهانته، كحرقه أو الدوس عليه في التظاهرات، أو إنزاله من علوّ، من هنا تُدْرَك أهمّيّة رمزيّة العلَم، أيّ علم، ومكانته.

ثمّ إنّ استبدال العلم في أعمال حوراني، أو في مواقع التواصل، أو في التظاهرات المؤيّدة، يُعَدّ استجابة لفكرة المنع ذاتها، وتطبيق عمليّ - وإن كان غير مقصود - لهدف الاستعمار، والأنظمة المؤيّدة له الّتي منعت رفع العلم الفلسطينيّ في بلدانها؛ فكان الردّ بالاستجابة لذلك؛ أي لفكرة إلغاء العلم، الّذي هو أصل الأزمة، بدلالته على شموليّة الهويّة والقضيّة، واستبدال شيء آخر به. إن دلّ هذا الشيء عليه أو على ألوانه، فإنّ فكرة الاستبدال ذاتها، تُقْرَأ أيضًا في إطار الاستجابة للمنع. من ذلك ما يحتجّ به بعض نشطاء مواقع التواصل؛ أي أنّهم يستخدمون ’إيموجي‘ أو رمز البطّيخ بديلًا عن العلم الفلسطينيّ، للتحايل على الخوارزميّات، خاصّة في ظلّ التقييد على المحتوى الفلسطينيّ، وذلك المناصر للفلسطينيّين. لكنّ الحقيقة أنّ «فيس بوك» أو «تويتر» وغيرهما من المواقع، لا تمنع ولا تقيّد منشورًا بسبب احتوائه على العلم الفلسطينيّ؛ بدليل وجوده بكثرة عليها، كـ ’إيموجي‘ ورسومات وتصاميم وغيرها. 

ويتحدّث الفنّان حوراني عن الخيال المريض للضابط الإسرائيليّ؛ أليست أعماله «العلم البطّيخة» هي بالأصل استلهام من هذا الخيال المريض؟ فضلًا على الدلالات الثقافيّة للبطّيخ في الثقافة الشعبيّة العربيّة والفلسطينيّة، فهو، وإن كان فاكهة لذيذة يحبّها الأكثريّة، إلّا أنّه يُسْتخدَم لفظًا في المحكيّ اليوميّ في عبارات مثل (بَلا ’أي كلمة‘... بَلا بطّيخ)؛ ليحيل اللفظ إلى معاني السخرية والاستخفاف بالعبارة السابقة على كلمة بطّيخ، ومن ذلك عنوان أغنية «بلا حبّ بلا بطّيخ»؛ أي: حبّ كاذب لا يؤمَن به، أو مُنتهٍ، أو أصبح محلّ سخرية، وما إلى ذلك. ولا شكّ في أنّ الفنّان، أيّ فنّان، يدرك دلالات الأشياء في الوعي الجمعيّ، فيكون على حذر من استخدامها وتوظيفها في أعماله. وهكذا يُطْبَع علم جديد لفلسطين، عبارة عن رسم شريحة من البطّيخ على قماش أبيض، ويكون التسويق له وبيعه عبر موقع على الإنترنت

 

 

الانتفاضتان الأولى والثانية

تشير تقارير إعلاميّة إلى استخدام البطّيخ في الانتفاضة الأولى، والثانية أيضًا[9]، دون الرجوع إلى مصادر مكتوبة أو بصريّة كصور وفيديوهات من الانتفاضتين، تؤكّد استخدام الفلسطينيّين للبطّيخ بديلًا عن العلم. بل كان هناك تقليد يقوم به المتظاهرون، في الانتفاضة الأولى، وهو رفع العلم على أعمدة الكهرباء وأسطح المنازل؛ وهو ما قد يكلّف الفاعل حياته أو السجن على أقلّ تقدير[10]

عايشتُ الانتفاضتين الأولى والثانية، ولم أرَ قطّ استخدام الفلسطينيّين للبطّيخ رمزًا فيهما، أو في المراحل التالية عليهما. يستخدم الفلسطينيّون البطّيخ فاكهة لا أقلّ ولا أكثر. يؤيّد ذلك شهادات من جيل الانتفاضة الأولى، من القدس ورام الله والخليل، يذكر جميعهم أنّ البطّيخ لم يستخدم في الانتفاضة الأولى ولا في الثانية، ولا في أيّ فترة من تاريخ النضال الفلسطينيّ[11]، بل إنّ أحدهم استغرب سؤالي قائلًا: "ماذا يعني رمز البطّيخ؟ لِمَ السؤال أصلًا؟"؛ لأنّه لا يعرف البطّيخ الرمز كما هو حال الكثير من الفلسطينيّين. إلّا أنّ زميلًا من رام الله كان مقيمًا في لندن، فترة الانتفاضة الأولى، ذكر أنّ رسم البطّيخ استُخْدِم بشكل محدود بين النشطاء الفلسطينيّين في لندن في تلك الفترة، وربّما استُخْدِم، بشكل محدود جدًّا، في الانتفاضة الأولى في رام الله أو القدس، ولا يؤكّد ذلك[12]

 

ظاهرة وليس رمزًا 

إذن، يمكن القول إنّ البطّيخ يُعَدّ، في السياق الوطنيّ الفلسطينيّ، ظاهرة وليس رمزًا؛ فاعتبار شيء ما رمزًا يعني بالأساس تبنّيه من قِبَل أصحاب القضيّة أو الجماعة القوميّة ذات العلاقة، باتّفاق شبه جمعيّ، يكون عبر التراكم التفاعليّ والممارسة الزمنيّين، كما هو الحال مع حنظلة والكوفيّة مثلًا. وبما أنّ البطّيخ غير حاضر في الحياة اليوميّة - الوطنيّة الفلسطينيّة، فهو لا يُعْتَبَر رمزًا، كما أنّه غير حاضر برمزيّته المدّعاة تلك في الفنون والآداب الفلسطينيّة، الّتي استوحِيَتْ من الرموز الفلسطينيّة، بل خلقت رموزًا، مثلما أبدع ناجي العلي رسم حنظلة، فتبنّاه الشعب الفلسطينيّ رمزًا لشدّة تماهيه مع الطفل الفلسطينيّ ابن المخيّم. ووجود البطّيخ في أعمال فنّان أو اثنين أو قلّة من الفنّانين لا يعني أنّه اعْتُمِد رمزًا. في المقابل، فإنّ فنّانًا واحدًا قد يبدع رسمًا فيصبح رمزًا لتبنّيه من قِبَل الشعب؛ إذ إنّ عمليّة تكوّن الرمز تستند إلى اجتماع ضمنيّ عليه، وإلى صيرورة تفاعليّة تراكميّة بين فئات المجتمع، من شبّان ومحتجّين وأحزاب وفنّانين وأدباء.

من الإشكاليّات الأخرى المحيطة بالبطّيخ انتشاره الواضح في سياق تضامنيّ احتجاجيّ ثقافيّ جغرافيّ، بعيد عن الثقافة والوطن الفلسطينيّين، بما في ذلك مخيّمات الشتات. وذلك عبر استخدامه في مسيرات التضامن في أوروبّا وأمريكا، بل في إسرائيل أيضًا من قِبَل جماعات معارضة وحقوقيّة[13]، خاصّة مع تداول أخبار عن منع رفع العلم الفلسطينيّ والاحتجاجات المؤيّدة للفلسطينيّين في بعض هذه الدول. إضافة إلى استخدامه بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعيّ. 

بالاطّلاع اليوميّ منذ بداية الأحداث بتاريخ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، نستطيع أن نستقرئ أنّ معظم الصفحات والمصمّمين الّذين اعتمدوا البطّيخ رمزًا يشير إلى القضيّة الفلسطينيّة هم أجانب بشكل رئيس، ثمّ عرب بشكل أقلّ، ثمّ فلسطينيّون بشكل أقلّ كثيرًا. ثمّ إنّ رسومات البطّيخ تظهر في صور اللافتات، وغيرها من أدوات الاحتجاج البصريّ؛ في التظاهرات في أوروبّا وأمريكا، ولا تظهر في صور التظاهرات القادمة من فلسطين.

البطّيخ يُعَدّ، في السياق الوطنيّ الفلسطينيّ، ظاهرة وليس رمزًا؛ فاعتبار شيء ما رمزًا يعني بالأساس تبنّيه من قِبَل أصحاب القضيّة أو الجماعة القوميّة...

وقد يُطْرَح السؤال الآتي: هل يمكن اعتبار البطّيخ رمزًا إلى التضامن مع الشعب الفلسطينيّ، وليس رمزًا فلسطينيًّا؟ وهو سؤال منطقيّ في ظلّ هذا الانتشار لرسوم البطّيخ؛ ففي حين أنّ الشكل الأوّل، أي الرمز التضامنيّ مع الشعب الفلسطينيّ، يحيل إلى جماعات متضامنة مختلفة الثقافات، اتّفقت ضمنيًّا على رمز ما يشير إلى فلسطين أو علَمها، يحيل الثاني، أي الرمز الفلسطينيّ، إلى ما هو متجذّر في الثقافة الفلسطينيّة. لكنّ هذا السؤال أيضًا يخلق إشكاليّات، من بينها بعض ما سبق، وأهمّه إشكاليّة استبداليّة العلَم؛ إذ علينا أن نسأل الشعب الفلسطينيّ إذا كان يوافق على استبدال رسم أو رمز البطّيخ بعلم فلسطين من قِبَل المتضامنين، خاصّة أنّه يمكن القول إنّ هؤلاء؛ أي المتضامنين، ضُلِّلوا إعلاميًّا، عبر كمّ هائل من المحتوى والتقارير الّتي تتحدّث عن البطّيخ بصفته رمزًا متجذّرًا في الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة.

الإشكاليّة الثانية تتعلّق باستمراريّة الممارسة الزمنيّة؛ فاستخدام البطّيخ على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وفي بعض التظاهرات في الخارج، بشكل موسميّ، ردَّ فعل على انفجار أحداث في فلسطين، أيضًا هذا الاستخدام الموسميّ المتقطّع، لا يجعل منه رمزًا فلسطينيًّا، ولا حتّى تضامنيًّا مع الشعب الفلسطينيّ؛ إذ إنّ عمليّة تكوّن الرمز واعتماده تحتاج إلى زمن قد يمتدّ لعقود، فضلًا على وجوب إشراك الشعب الفلسطينيّ؛ من باحثين ومثقّفين وإعلاميّين وفنّانين وأدباء وناشطين ومن كلّ الفئات، في مسألة استبدال أيّ رمز بصريّ آخر بالعلم الفلسطينيّ، سواء كان بطّيخًا أو غيره. 

 


إحالات

[1]  من ذلك مثلًا تقرير لــ «بي بي سي» (BBC) تقول فيه المذيعة: "لِمَ يظهر البطّيخ رمزًا في المسيرات المؤيّدة لفلسطين؟ الإجابة ليست وليدة اليوم، فوراء هذه الرمزيّة للبطّيخ تاريخ طويل على ما يبدو، تتشابك فيه الروايات وتختلف حول أصولها، لكن بالعودة قليلًا إلى الخلف يتبيّن أنّ البطّيخ كان لعقود رمزًا يستخدمه الفلسطينيّون بديلًا للعلم الفلسطينيّ؛ فحضوره كان بمنزلة إشارة إلى العلم وألوانه الأربعة!". السؤال هو: على ماذا اعتمد التقرير للوصول إلى هذه النتائج؟ وتقول: "بعد أسابيع من توقيع اتّفاقيّة أوسلو بين إسرائيل و«منظّمة التحرير الفلسطينيّة»، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريرًا في تشرين الأوّل (أكتوبر) 1993، أشارت فيه بإيجاز إلى اعتقالات لشباب فلسطينيّين لحملهم شرائح البطّيخ، وبعد أشهر عدّة عادت صحيفة «نيويورك تايمز» لتشير إلى أنّه لا يمكن تأكيد مزاعم الاعتقال، تلك الّتي وردت في التقرير السابق، لكنّها أضافت أنّ متحدّثًا باسم الحكومة الإسرائيليّة قال إنّه لا يستطيع أن ينكر احتمال وقوع مثل تلك الحوادث...". وتستمرّ المذيعة في المبالغة حول البطّيخ فتقول: "كلّ تلك التفاصيل حوّل البطّيخ بمنزلة أسطورة... أسطورة معاصرة يعتبرها الفلسطينيّون أيقونة تلخّص تجربة نضالهم، بينما يدعو آخرون إلى ضرورة التمحيص في الروايات المتعلّقة بتلك الفاكهة ورمزيّتها". ربّما الجملة الأخيرة، عن ضرورة التمحيص، كانت الأكثر موضوعيّة ومصداقيّة في كلّ التقرير. يُنْظَر: البطّيخ الأحمر، لماذا يظهر كرمز في المسيرات المؤيدة لفلسطين؟، BBC News عربي، https://www.youtube.com/watch?v=gWPTm1_YdD4. 

[2] أندرو إدجار وبيتر سيدجويك، موسوعة النظريّة الثقافيّة: المفاهيم والمصطلحات الأساسيّة، هناء الجوهري (مترجم)، (القاهرة: المركز القوميّ للترجمة، 2009)، ص 331 - 332.

[3]  يؤكّد ذلك أيضًا نصر الجوابرة، الباحث في الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ. حديث بين الكاتبة ونصر الجوابرة عبر مسنجر «فيس بوك»، 20/11/2023.

[4]  يقول عصام نصّار إنّ حادثة اعتقال شخص بسبب أنّه رسم نصف بطّيخة على باب دكّانه أو عريشته (غير المؤكّدة) حصلت في فترة الثمانينات قبل الانتفاضة الأولى، ولعلّ ذلك يتطابق مع ما يتناقله بعض المواقع مؤخّرًا، ومرّة أخرى دون الإشارة إلى مصادر موثوقة، كما جاء في موقع «رصيف 22»، تقول الكاتبة: "في عام 1984، نشرت صحيفة «حدشوت» الإسرائيليّة الخبر التالي: أصدرت المحكمة المركزيّة في نتانيا حكمًا على محمّد تايه، الملقّب محمّد بطّيخ، من قرية قلنسوة في المثلّث، بالسجن لمدّة خمس سنوات، بتهمة بيعه بطّيخًا يحمل ألوان «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» في الكشك الّذي أقامه في مفرق بيت ليد. قبضت الوحدة الخاصّة لمكافحة الإرهاب على محمّد؛ بتهمة بيعه البطّيخ الّذي يحمل ألوان العلم الفلسطينيّ؛ أي الأخضر، والأحمر، والأبيض، والأسود، وذلك وفق قانون منع الإرهاب. وقد عرض المدّعي العامّ اللافتة الّتي علّقها محمّد على كشكه، حيث حملت اللافتة صورة لسكّين وبطّيخة، وكتب عليها: "عالسكّين يا بطّيخ". وطلب المدّعي العامّ أن تعاقب المحكمة المتّهم أشدّ العقاب، وذلك لدعمه للإرهاب، وبسبب رغبته في القضاء على اليهود، وفق تعبيره، وطعنهم بالظهر. وافقت المحكمة على طلب المدّعي العامّ، وحكمت بالسجن لخمس سنوات على المتّهم، وغرامة قيمتها 50,000 شيكل". يُنْظَر: مرام مصاروة، عَ السكّين يا بطّيخ... الهوس الإسرائيليّ برمزيّة البطّيخ الفلسطينيّ، رصيف 22، 18/06/2023، https://bit.ly/3QZm0e5

وتقرّر كاتبة المقال رمزيّة البطّيخ دون العودة إلى مرجعيّات حول ممارسة فعليّة لهذا الرمز بين الفلسطينيّين، فتقول: "أمّا لدى الفلسطينيّين فيُعْتَبَر البطّيخ رمزًا للمقاومة، ونوعًا من أنواع الحراك الفنّيّ - السياسيّ، بألوانه الّتي تعكس العلم الفلسطينيّ". وهي تعتمد على حادثة محمّد بطّيخ، وعلى معارض فنّيّة لم تُذْكَر منها سوى أعمال خالد حوراني «علم جديد لفلسطين»، كما أنّ هناك خلطًا في المقال بين التاريخ السياسيّ لفاكهة البطّيخ وبين رمزيّته المدّعاة، والحقيقة أنّ كلّ المحصول الزراعيّ الفلسطينيّ ذو تاريخ سياسيّ إن جاز التعبير، في ظلّ احتلال يسعى إلى السيطرة على الموارد الطبيعيّة والأراضي، وإقامة المستوطنات والجدار والحواجز، ما كان على حساب المحاصيل الزراعيّة المختلفة لا البطّيخ فحسب. أمّا حادثة محمّد بطّيخ الّتي تذكرها، فهي وإن أيّدتها بصورة تبدو من صحيفة «حدشوت» الإسرائيليّة، فلا ذكر لمصدر الصورة على أنّها من أرشيف الصحيفة، وبالعودة إلى أسماء قوائم الأسرى الفلسطينيّين المدرجة على «وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينيّة» (وفا)، على الرابط https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=8744، فلا نعثر على أسير اسمه محمّد تايه، لا في عام 1984 ولا في الأعوام الثلاثة الّتي قبله، على اعتبار أنّه قد يكون قد اعْتُقِل قبل عام الحكم عليه. وحتّى لو كانت حادثة محمّد تايه مؤكَّدة، فإنّ رسم شريحة بطّيخ مع سكّين، وعبارة "على السكّين"، لا يشير إلى البطّيخ رمزًا تتبنّاه الثقافة الوطنيّة - الشعبيّة الفلسطينيّة، بديلًا عن العلم.  

[5]   حديث بين الكاتبة وعصام نصّار عبر مسنجر فيسبوك، 16/11/2023.

[6]  يُنْظَر: ما سرّ إيموجي البطّيخ وعلاقته بالمحتوى الفلسطينيّ؟، RT Online، 17/07/2021.

[7]   مرجع سابق.

[8]  استمرّت أعمال خالد حوراني في الفكرة ذاتها «العلَم البطّيخة» أو «البطّيخة العلَم» في السنوات اللاحقة عبر العديد من المعارض؛ يُنْظَر: خالد حوراني، هذه ليست بطّيخة، مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، العدد 127 – صيف 2021، https://www.palestine-studies.org/ar/node/1651433.

[9]  يُنْظَر: سيلين غيريت ومارك شيا، "كيف أصبح البطّيخ رمزًا للتضامن مع الفلسطينيّين؟"، بي بي سي عربي (BBC)، 16/11/2023، ويدّعي المقال أيضًا تجذّر رمزيّة البطّيخ لدى الشعب الفلسطينيّ، فيقول: "كان البطّيخ يُعْتَبَر رمزًا سياسيًّا لعقود من الزمن في فلسطين، خاصّة في الانتفاضتين الأولى والثانية، واليوم كثيرون لا يعتبرون البطّيخ فاكهة شعبيّة فحسب، بل رمزًا قويًّا لدى أجيال من الفلسطينيّين، ولدى أولئك الّذين يدعمون نضالهم". 

[10]   كما كتبت صفحة «الدهيشة - ذاكرة مخيّم» تقول: "في ذلك الوقت، كان رفع العلم من ضروب البطولة الّتي قد تكلّف الفاعل حياته أو على الأقلّ سجنه مدّة ليست بالقليلة... طوبى لمن حافظوا على الراية خفّاقة". يُنْظَر: صفحة الدهيشة - ذاكرة مخيّم، فيسبوك، https://bit.ly/3STo89H

[11]  وهما إسماعيل مسلماني من القدس، ونصر الجوابرة من الخليل، محادثات عبر مسنجر فيسبوك وواتس أب خلال الشهر الحاليّ. 

[12]  وهو موسى إزحيمان، رام الله، محادثات عبر مسنجر فيسبوك خلال الشهر الحاليّ.

[13]  يذكر ذلك تقارير (BBC) السابق ذكرها.

 


 

مليحة مسلماني

 

 

كاتبة وفنّانة فلسطينيّة من القدس. حصلت على الدكتوراه عن أطروحتها: «تمثّلات الهويّة في الفنّ الفلسطينيّ المعاصر في المناطق المحتلّة عام 1948». نُشِرَت لها دراسات ومقالات عديدة في الفنون البصريّة والثقافة، من بينها «تجلّيات الحرْف: جماليّات النصّ في الفنّ الفلسطينيّ المعاصر» (2015)، و«غرافيتي الثورة المصريّة» (2013). من إصداراتها الأدبيّة: «عَنْقاء مُمْكن» (شعر، 2015)؛ و«سكّةُ الطير» (2012).