’بلد‘... ضبط القلب وفقًا للتقسيمات

من ملصق عرض الستاند أب كوميدي «بلد»

 

ضمن مشروع «مساحات»، قدّم «نادي فلسطين للكوميديا» عرض الستاند أب كوميدي «بلد»، من إخراج سام بيل وعلاء شحادة، في دورته الثانية، والّذي أُنْتِجَ ضمن منحة «أستوديو الفنون الأدائيّة للعام 2022» الّتي تقدّمها «مؤسّسة عبد المحسن القطّان». جمع العرض فنّانين من عدّة مناطق فلسطينيّة وأخرى مستعمَرة، بين الجولان السوريّ والضفّة الغربيّة وأراضي 1948؛ ليسلّطوا الضوء على قضيّة التقسيمات الجغرافيّة في فلسطين، وتجلّياتها الفكريّة والنفسيّة، بطريقة كوميديّة ساخرة، مليئة بالسرديّات والمشاعر المتناقضة حول هويّتنا الذاتيّة والجمعيّة، والأفكار النمطيّة الّتي أصبحت متجذّرة في ركن عميق من عقلنا اللاواعي.

توزّعت أدوار العمل على إباء منذر، ابنة الجولان السوريّ المستعمَرْ، الّتي تتمحور قصّتها حول إيجاد الحبّ وتعريف الذات في ظلّ واقع سياسيّ مركّب، وخليل بطران الّذي انتقل من إحدى القرى إلى مدينة رام الله؛ لينكشف على العالم النيوليبراليّ، ويصوّر لنا ’رام الله الشقراء‘ كما أسماها عباد يحيى. إضافة إلى علاء شحادة، الّذي تتمحور قصّته حول علاقته فنّانًا من جنين بمدينة رام الله، وما تحمل من غلاء معيشيّ وبهرجة اجتماعيّة، وحنّا شماس، ابن مدينة حيفا، الّذي يشعر بعقدة ذنب المرتاح الحاصل على امتيازات طبقيّة؛ ممّا يجعله يبحث عن المعاناة. أيضًا، ديانا سويطي الآتية من بيت عوّا، حيث سوق الثلّاجات والغسّالات، الّتي تعكس لنا شكل الحياة القرويّ، بما يحمل من أعباء على الأنثى، ورائد شيوخي، من الخليل، الّذي ينقلنا إلى شوارع الخليل بما فيها من تفاصيل يوميّة مملّة ومتعبة.

 

الذات، الآخر، الإقليم

في حديث أجريتُه مع علاء شحادة، المشارك أيضًا في إخراج العرض، قال "إنّ اختيار موضوع التقسيمات الجغرافيّة جاء من مدى تأثيرها في الحياة اليوميّة للفلسطينيّين، وطريقة تفكيرهم المليئة بالصور النمطيّة والأحكام المسبقة، وطريقة إدراكهم لمعنى الوطن، لذواتهم وللآخر".

يكشف العرض أنّ التقسيمات الجغرافيّة مسار لا يمكن النظر إليه حدثًا عارضًا أو عابرًا في المشروع الصهيونيّ في فلسطين، بقدر ما هو بنية متجذّرة...

بالفعل، يكشف العرض أنّ التقسيمات الجغرافيّة مسار لا يمكن النظر إليه حدثًا عارضًا أو عابرًا في المشروع الصهيونيّ في فلسطين، بقدر ما هو بنية متجذّرة تلقي بظلالها على جميع جوانب الحياة؛ إذ إنّها ليست قضيّة سياسيّة فحسب، بل أيضًا ظاهرة نفسيّة تساهم في تشكيل نظرتنا عن الآخرين وذواتنا؛ الأمر الّذي لمسناه في شخصيّة حنّا شمّاس مثلًا، ابن حيفا المحتلّة، الّذي يعتذر، قائلًا "متأسّف"، على كلّ شيء؛ لتصبح هذه الكلمة لازمته الكلاميّة.

يذكّر هذا السلوك بفانون الّذي ينظر إلى اللغة بوصفها تعبيرًا عن الممارسة والتفكير العنصريّين، إذ يعتقد أنّ اللغة ليست محايدة، بل تفعل الكثير على صعيد رسم معالم الهويّة في المجال الاستعماريّ. في حالة حنّا شمّاس، تعبّر اللغة عن مشاعر ذنب داخليّة لكونه من الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، حيث يحظى بامتيازات مادّيّة ومناطقيّة مقارنة بغيره من الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة أو قطاع غزّة أو القدس، بسبب حمله للجنسيّة الإسرائيليّة، إضافة إلى عدم مواجهته للاستعمار بشكله العسكريّ الموجود في مناطق فلسطينيّة أخرى.

 

عقدة ذنب المرتاحين

يمكن التفكير بعقدة الذنب بوصفها عقدة ذنب المرتاح، الّتي يشعر بها عادةً البيض عند انكشافهم على العالم المستعمَرْ، أو عقدة ذنب الناجي الّتي تصيب الأشخاص الّذين نجوا بينما فقد الآخرون حياتهم، في حين اسْتُخْدِم مصطلح ’عقدة الناجي‘ بداية لوصف المشاعر الّتي اختبرها الناجون من المحرقة اليهوديّة (الهولوكوست). لكنّه ينطبق أيضًا على مجموعة من الأحداث والمواقف المهدّدة للحياة، بما فيها حوادث السيّارات، والحروب والكوارث الطبيعيّة.

ورغم اختلاف السياقات الّتي برزت فيها هذه المفاهيم، إلّا أنّ عقدة الذنب في حدّ ذاتها يمكن إسقاطها على بعض فلسطينيّي أراضي 48، الّذين استدخلوا الصورة النمطيّة المأخوذة عنهم بصفتهم ناجين ومرتاحين، وبدأوا يتصرّفون على هذا الأساس. في هذا الصدد، يقول علاء شحادة "إنّ العرض لم ينفِ الصور النمطيّة؛ فالكوميديا لا تفعل ذلك بل تعمّق هذه الصور عن طريق المبالغة في وصفها، وهذا التكنيك كفيل في الإشارة نحو خلل ما، فعندما تقول للجمهور إنّ هذه الفكرة والصورة النمطيّة خاطئة لن تنجح في زعزعتها، في حين أنّك عندما تبالغ في وصفها كأنّك تشير نحو غبائها".

الألم في حالة عقدة ذنب المرتاح يصبح الرغبة المحضة، والجرعة الّتي يبحث عنها ليُسكت صوت ضميره الملتهب، الّذي يجعله يتأسّف على كلّ شيء...

يبيّن العرض كيف يأتي فلسطينيّ من أراضي 48 إلى رام الله محمّلًا بالحاجة إلى إثبات وطنيّته، في رحلة بحث عن المعاناة؛ فالألم في حالة عقدة ذنب المرتاح يصبح الرغبة المحضة، والجرعة الّتي يبحث عنها ليُسْكِتَ صوت ضميره الملتهب، الّذي يجعله يتأسّف على كلّ شيء؛ فيتأسّف على زيارته لمعالجة نفسيّة لِما يعني العلاج النفسيّ من امتياز طبقيّ غير متوفّر عند العديد من الأشخاص؛ كما يتأسّف على أنّه يعيش في الساحل الفلسطينيّ، وهنا يحلو لي أن أسمّي عقدة الذنب الّتي تتملّك حنّا شمّاس بأنّها عقدة ذنب البحر.

كما تظهر المبالغة عند تأسّفه أنّ لديه أمًّا مثلًا، فيقول "إمّي قالتلي... متأسّف إنّه عندي إمّ"، ليضحك الجمهور كثيرًا. في هذا سخرية ليس من الأفكار النمطيّة فحسب، بل من ذواتنا وعقدنا النفسيّة الّتي تتشكّل بفعل السياق السياسيّ والاجتماعيّ والطبقيّ، خاصّة عند الحديث عن عقدة ذنب مَنْ يعيش في أراضي 48، الّذي يُكَفِّر عن رفاهيّته؛ فثمّة علاقة وثيقة بين رفاه الفلسطينيّ وإحساسه بالذنب؛ فهو يتعرّض بشكل يوميّ إلى مادّة بصريّة وسمعيّة تتمثّل بالحواجز والاعتقال والاستشهاد، وكأنّ العالم يقول له: "كيف تجرؤ على الراحة في ظلّ استعمار استيطانيّ؟". أخيرًا يصل حنّا شمّاس إلى فعل استشفائيّ من عقدة ذنبه؛ إذ يتبادل هو وابن الخليل الفنّان رائد شيوخي القمصان، ويشعر بأنّه الآن أصبح يتّسم بالرجولة بما تحمل من خشونة ناتجة عن المعاناة والألم.

 

حبّ في ظلّ التقسيمات

حالة حنّا شمّاس ليست الوحيدة الّتي تبيّن كيف تتسلّل التقسيمات الجغرافيّة إلى أعمق نقطة في البناء النفسيّ والكينونة الإنسانيّة، وتناقش مفهوم الخشونة والليونة. إذ نرى إباء، ابنة الجولان السوريّ المستعمَرْ، كيف تواجه صعوبة في إيجاد الحبّ، بحلّته العصريّة الّتي ميّعت الحبّ وسط ظروف سياسيّة فرضت عليها أن تكون امرأة تتّسم بالقوّة والشراسة والحزم، إضافة إلى قلّة فرصها في إيجاد شريك مناسب ضمن المعايير الهويّاتيّة والدينيّة؛ فالتقسيمات الجغرافيّة نالت حتّى من فكرة الحبّ بصفته انفتاحًا على الممكن والاحتمالات والصدف، إذ يجب على الفلسطينيّة أن تضبط نبضات قلبها بما يتناسب مع «اتّفاقيّة أوسلو»؛ لما يمكن أن يبرز من صعوبات وتحدّيات في ما لو أحبّت شخصًا من منطقة جغرافيّة مختلفة، من حيث لون الهويّة والجنسيّة، إلى درجة أنّ قصص حبّ من هذا النوع تحوّلت إلى سرديّات قصص الحبّ المستحيلة الّتي تغذّيها الأفلام والأغاني، كأغنية «حبّ ع الحاجز» الّتي تنتهي بجملة "صار الحبّ هو الكلمة اللّي بتمحي كلّ الحواجز".

يجب على الفلسطينيّة أن تضبط نبضات قلبها بما يتناسب مع «اتّفاقيّة أوسلو»؛ لما يمكن أن يبرز من صعوبات وتحدّيات في ما لو أحبّت شخصًا من منطقة جغرافيّة مختلفة...

يناقش العرض هذه الاستحالة بطريقة ذكيّة؛ فقد رأينا كيف تشكّلت مشاعر المحبّة والانتماء بين الشخصيّات الستّ؛ بعد أن اكتشفوا ذواتهم في لحظة لقائهم ببعضهم بعضًا، واختبروا مشاكلهم كأنّهم أمام مرآة واحدة.

المثير في العرض أنّ هذه الشخصيّات والبنى النفسيّة ظهرت على السطح عند لحظة اللقاء بالفلسطينيّ الآخر الّذي يواجه شكلًا آخر من الاستعمار، في حين ساعدتهم لحظة اللقاء هذه على لملمة فتات هويّاتهم؛ إذ يعرف الإنسان ذاته من خلال احتكاكه بالآخر والانخراط معه.

في حالتنا الفلسطينيّة، يكون الانخراط مع الفلسطينيّ الآخر بمنزلة رحلة بناء هويّة جمعيّة، تساعد على فهم الهويّة الذاتيّة المكوّنة من مجموع السرديّات التاريخيّة، الّتي لا  بدّ من معرفتها من خلال بناء جسور مع الكلّ الفلسطينيّ.

 

الهويّة الجمعيّة

في شهر كانون الثاني (يناير) عام 2021، أطلق نشطاء على منصّات التواصل الاجتماعيّ وسم «#متواصلون»، ردًّا على ممارسات المخابرات الإسرائيليّة الّتي شملت حملات ملاحقة في حقّ نشطاء من فلسطينيّي 48؛ لتواصلهم مع أهاليهم، وأقاربهم وأصدقائهم في المنطقة العربيّة والضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، واتّهامهم بالتواصل مع جهات أجنبيّة. وفي شهر أيّار (مايو) من نفس العام، شهد الشارع الفلسطينيّ ما أُطْلِق عليه «هبّة الكرامة»، الّتي امتازت بامتدادها لكلّ المناطق الفلسطينيّة دون استثناء، وبرزت فيها الهويّة الجمعيّة؛ إذ جرى خلالها صياغة شعارات تحاكي الكلّ الفلسطينيّ من النهر إلى البحر، الأمر الّذي جعلها مؤثّرة، وتحمل جماليّة خاصّة.

يعيد المشهد الأخير من العرض التذكير بالهبّة، عندما ركب الفنّانون الستّة باصًا متخيّلًا يتوقّف في محطّات عدّة في فلسطين. كانت المحطّة الأكثر تأثيرًا غزّة؛ فطوال العرض لم يذكر أحد غزّة، كانت مغيَّبة كما تريد لها التقسيمات الجغرافيّة الاستعماريّة أن تكون، وكأنّ العرض يحاول أن يشير إلى أنّ استحضارها كوميديًّا غير وارد، وأنّها لا تحتمل السخرية، ولا يمكن ذكرها إلّا في سياق يحمل هذا التوق الجدّيّ إليها. عندما سألت علاء شحادة عن سبب غياب غزّة طيلة العرض، وظهورها في المشهد الأخير، قال إنّ "الألم جزء من واقعنا الفلسطينيّ، بعد كلّ مشاهد الكوميديا، كان لا بدّ من وجود مشهد يذكّرنا بأنّ استحضار غزّة صعب، حتّى في عرض كوميديّ يتحدّث عن التقسيمات الجغرافيّة، ولكنّ هناك متّسعًا لها في مخيالنا مع الكثير من الألم، فأنا عندما كنت أؤدّي الدور، كنت متأثّرًا كثيرًا في هذا المشهد، وكان ثقيلًا جدًّا، ولا سيّما بعد عرض كوميديّ يحاول رؤية فلسطينيّ بخفّة".

 


 

غدير محاجنة

 

 

 

باحثة وطالبة ماجستير في برنامج «علم النفس المجتمعيّ» في «جامعة بير زيت». كتبت في عدد من المجلّات والمنصّات العربيّة.