"مصائر" ربعي المدهون: رؤى المنفيّين والأسئلة المشرعة

نال ربعي المدهون جائزة الرّواية العربيّة، 'البوكر'، للعام 2015، عن روايته 'مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنّكبة'، بعد منافسة شديدة مع خمسة روائيّين عرب وصلت أعمالهم إلى قائمة الجائزة القصيرة.

ربط ربعي المدهون روايته بالموسيقى من خلال العنوان 'كونشرتو' والبنية الّتي اختارها لها، الشّبيهة بهذا النّمط الموسيقيّ. والكونشرتو نوعٌ من الموسيقى يُقسّم اللّحن وفقه إلى ثلاث حركاتٍ موسيقيّةٍ، تعدّ الأولى أهمّها، تمامًا كما في الرّواية، حيث قدّم الكاتب شخصيّاته الواحدة تلو الأخرى بأسلوبٍ سرديٍّ وبلغةٍ رشيقةٍ اعتمدت، كما في الموسيقى، على القيادة الموسيقيّة 'مايسترو' حينًا، باستخدام أسلوب الرّاوي العليم، أو 'العزف المنفرد'، من خلال منح الشّخصيّات خيوط الحوار، لتتولّى السّرد منفردةً.

احتمالات

تتناول الرّواية في حركاتها الأربع التّركيبات المعقّدة الّتي طرأت على الهويّة الفلسطينيّة بعد نكبة عام 1948 ونكسة 1967، دون أن يدخلنا الكاتب في مسألة الصّراع بين هذه الهويّات، إذ حسمت الرّواية مسألة الهويّة الفلسطينيّة ولم تكن موضوعًا جدليًّا. لم يتخلّ أيٌّ من الأبطال عن هويّته الفلسطينيّة، وظلّت هي الثّابت الوحيد في مسار الأحداث الّتي انتقلت بحرفيّةٍ سرديّةٍ بين الشّخصيّات.

جمع ربعي المدهون في الرّواية رؤى المنفيّين عن الوطن قسرًا، والتّحوّل الّذي يطرأ على صورة فلسطين المتخيّلة وفلسطين على أرض الواقع، دون أن يضع على لسان أيٍّ من شخصيّاته نهايةً ما، فكلّ الأبواب مشرعةٌ للاحتمالات، وما من قولٍ فصلٍ في الأحداث، الّتي تحتمل، ربّما، جزءًا ثالثًا بعد 'السّيّدة من تل أبيب' (2010)، وهذه الرّواية، 'مصائر'.

فراغات الرّاوي... خيال القارئ

أحالنا المدهون في روايته إلى تصنيف (أمبرتو إيكو) في فنّ الكتابة الرّوائيّة، حيث الرّوائيّ والقارىء المثاليّان، فالأوّل ترك، قاصدًا، ثقوبًا سرديّةً حتّى يفتح مخيّلة القارئ ليملأ فراغًا محسوبًا في السّرد، والثّاني يخرج من الرّواية مشبعًا بالأسئلة الّتي تتراكم في ذهنه، ليس فقط على صعيد الشّخصيّات، بل أيضًا على الصّعيد المكانيّ وما ارتبط به من أحداث.

تقول تشارلوت برونتي، إنّ الواقع يرسم شخصيّات الرّواية ويوحي بها، ولقد سهّل الواقع الفلسطينيّ على الكاتب ذلك التّنوّع الغنيّ في رسم شخصيّاتٍ قلّما نجدها في مجتمعاتٍ أخرى، وهذا يظهر بوضوحٍ في الهويّات الثّنائيّة لدى كلّ شخصيّةٍ من شخصيّات الرّواية.

الأسئلة المفتوحة

كسرت 'مصائر' ربعي المدهون نمطًا كتابيًّا فلسطينيًّا فيما يتعلّق بشخصيّات الرّواية، وعالجت هموم الشّخصيّات وهواجسها بسخريةٍ سوداء أحيانًا، تعكس أثر المكان فيهم وما أحاط بهم من أحداث.

تبدو الرّواية صادمةً لمن يريد أن يحاكمها بعيدًا عن قيمتها الفنّيّة وما تمثّله من إضافةٍ لرصيد الرّواية العربيّة الحديثة، وهي لم تقدّم أيّ إجابةٍ على أيٍّ من أسئلة الصّراع مع المحتلّ، سوى سؤال التّعايش وتسليم الأبطال بالأمر الواقع، وهذا من وظيفة الرّواية بعامّة، فالرّوائيّ يجب أن يترك أسئلةً للقراء ليتفاعلوا حولها دون تدخّلٍ منه، ولو بقي سؤال التّعايش مفتوحًا للقارىء دون حسمٍ، لراكم من رصيد الأسئلة الّتي على القارئ مواجهتها بعد انتهائه من قراءة الرّواية.