يوم طويل جدًّا: من "مريم الخرساء" لخالد جمعة

صمّم الغلاف، زهير أبو شايب

أصدر الشاعر الفلسطينيّ، خالد جمعة، رواية للفتيان والفتيات، بعنوان 'مريم الخرساء'، عن دار الأهليّة للنشر والتوزيع في الأردنّ، وهي تقع في ستّين صفحة من القطع المتوسّط، وقد صمّم غلافها الفنّان زهير أبو شايب.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة الفصل الرابع من الرواية، والمعنون بـ 'يوم طويل جدًّا'، بإذن من مؤلّفها.

***

يوم طويل جدًّا

خالد جمعة

لم تستطع حلا النوم بسهولة في الليلة التي سبقت الموعد الخطير مع تلك المجنونة مريم، بل إنّها فكّرت أكثر من مرّة في أن تسرد لوالدتها الحكاية لكي تمنع مريم من مزيد من الجنون، لكنّ شيئًا خفيًّا داخلها كان يريد القيام بتلك المغامرة، فهي فضوليّة، والكثير من الأطفال يغلبهم الفضول فلا يفكّرون في النتائج، ثمّ إنّ الدرج قد يؤدّي إلى مخزن للحلوى وينتهي الأمر عند هذا الحدّ، وهي بهذا تكون قد اصطادت عصفورين بحجر واحد: لم تتخلّ عن صديقتها، ولم تذهب بعيدًا في المغامرة.

تأخّرت حلا عن الموعد، بسبب أنّها لم تتمكّن من النوم إلّا بعد وقت طويل، وعندما وصلت إلى بيت مريم، وجدت صديقتها تنتظر بالباب وهي غاضبة وأنفها متّسع مثل أنف حصان، لماذا تأخّرتِ كلّ هذا الوقت يا آنسة حلا؟ فأجابت حلا والنعاس ما زال يلعق جفونها: لم أستطع النوم حتّى الفجر. وأتبعت ذلك بتثاؤب طويل لتثبت الأمر لمريم.

تحرّكت الفتاتان حتّى وصلتا إلى بيت مسعد. هذه المرّة تجرّأت حلا وألقت النقانق المغلّفة بورقة للكلب الذي بدا وكأنّه ينتظر هذه الهديّة. وما هي إلّا لحظات حتّى كانت الفتاتان تقفان أمام الفتحة المربّعة.

ضغطت مريم مفتاح مصباحها وأخذت تستكشف الدرج قبل أن تتّخذ أيّ إجراء. كان هذا درجًا حجريًّا قديمًا، يبدو أنّه بُنِيَ قبل البيت ذاته، وضعت قدمها وبدأت بالنزول، وبعد قليل من التردّد تبعتها حلا ومصباحها المضاء. أخذت مريم تعدّ الدرجات، خمس عشرة درجة وها هي قدمها تلمس الأرض.

أضاء المصباحان في اتجاهين مختلفين فبدا كلّ شيء واضحًا، مجرّد مخزن للأشياء القديمة ليس أكثر، أشياء متناثرة هنا وهناك بدون ترتيب. جعل هذا مريم تشعر بخيبة الأمل، فقد رسمت في رأسها مغامرة عظيمة تكتشف فيها مدينة تحت الأرض، فيها سكّان وأمراء وملوك. لكن حلا كانت تشعر بالسرور لأنّ المغامرة ستنتهي عند هذا الحدّ، وأخذت تتفحّص المكان مع صديقتها بجرأة أكبر حين عرفت أنّ المسألة لم تتعدّ غرفة لتخزين الأشياء القديمة، وهذا أمر شائع في القرى منذ قديم الزمن.

إلى جانب إضاءة المصباحين، أضاءت فجأة عينا مريم، فوراء الكرسيّ القديم المسنود إلى الحائط كانت هناك فتحة صغيرة سرعان ما اتّضح أنّها كبيرة بمجرّد إزالة الكرسيّ.

ابتلعت حلا ريقها دون أن تنبس بكلمة، وبالطبع فإنّ مريم تبعت ضوء المصباح دون تردّد. كانت الفتحة تفضي إلى ممرّ طويل في اتّجاه واحد. وبعد أن سارت الفتاتان لدقائق، شاهدتا ضوءًا يسقط مثل بقعة دائريّة على الأرض، وسلّم من حبال معقودة يصعد باتّجاه مصدر الضوء، بدا السلّم وكأنّه نازل من السماء.

تعلّقت مريم بالحبل مثل قرد صغير، وأخذت تتسلّق السلّم ببطء إلى أن وصلت إلى الحافّة، وهناك كانت تنظرها مفاجأة لم تكن أبدًا تخطر على بالها.

أشارت إلى حلا الواقفة أسفل السلّم مثل تمثال نصفه من الخوف وبقيّته من التساؤل والدهشة، اصعدي، فسوف تدهشين لهذا المنظر! صعدت حلا، وما أن وصلت الحافّة حتّى وجدت نفسها أمام ما يشبه الكهف، فيما المياه التي تنبثق من الجدول تغطّي نصف الفتحة. وهنا بالضبط، كان مسعد أبو خرج يعزف ألحانه. ولحسن الحظّ أنّ اليوم هو يوم السوق، وإلّا لوجدت الفتاتان نفسيهما وجهًا لوجه مع صاحب البيت الذي اقتحمتاه دون إذن.

قالت مريم: لهذا السبب إذًا كنّا نفاجأ به دون أن نراه مرّة واحدة يسير في الحرش، ما أشدّ غبائي، لماذا لم أسأل نفسي عن الطريق التي يأتي منها من بيته إلى هنا!

قالت حلا: أنا سعيدة أنّ مغامرتنا انتهت على خير، أرجو أن يكون بالك قد ارتاح أيّتها المغامرة العظيمة، هل نستطيع الآن أن ننزل من هنا ونذهب إلى البيت، أنا جائعة جدًّا.

ردّت مريم: لا أيّتها العبقريّة، علينا أن نعود من الطريق ذاته كي نعيد الكرسيّ إلى مكانه، كي لا يكتشف مسعد أن أحدًا دخل إلى بيته أثناء غيابه.

وافقت حلا على مضض، وفيما هما تعيدان الكرسيّ إلى وضعه السابق، كان وقع أقدام ثقيلة يقترب، لا شكّ أنّه مسعد، لكن هذا ليس وقت رجوعه، ارتبكت الفتاتان.

في الحقيقة، لقد كان مسعد موفّقًا ذلك اليوم، فقد باع جميع الحلوى التي أخذها إلى السوق في أقلّ من ساعتين، وبالتالي فقد عاد مبكرًا، هو الذي كان يقضي خمس ساعات في السوق ليبيع نصف الكمّيّة. كتمت الفتاتان أنفاسهما، فيما بدا واضحًا أنّ مسعد قد دخل البيت وانتهى الأمر.

لكنّ المشكلة لم تكن هنا فقط، فبعد قليل سوف يتّجه مسعد إلى الممرّ ليصل إلى الكهف كعادته ليجلس مستمتعًا بالعزف، وهنا كانت المصيبة، فإن بقيتا سيراهما وإن خرجتا فسيراهما. فما الحلّ إذًا؟!

لأوّل مرّة تقترح حلا حلًّا عمليًّا، وطبعًا بلغة الإشارات أوضحت أنّ مريم تستطيع الدخول من الفتحة فيما ستبقى هي لتعيد الكرسيّ إلى مكانه، ولأنّ جسم حلا صغير، فهي تستطيع أن تمرّ من المسافة بين الكرسيّ والأرض، وبذلك تحلّ المشكلة.

قبّلت مريم حلا من خدّها: أنت حقًّا صديقة ذكيّة. وفعلًا كما خطّطت حلا تمامًا، خلال دقائق، كانت الفتاتان تجلسان تحت الشجرة التي عليها اسماهما. وبعد وقت قصير، بدأ ناي مسعد يصدح وراءهما، فاطمأنّت الفتاتان إلى أنّ كلّ شيء على ما يرام.