سفينة جبرا

جبرا إبراهيم جبرا، مؤلّفٌ ورسّامٌ وناقدٌ تشكيليّ، وُلِدَ في بيت لحم بفلسطين عام 1920، وتوفّي في بغداد عام 1994، وقد كان العراق مستقرّه بعد نكبة عام 1948 .

يُعدّ جبرا من أهمّ الرّوائيّين العرب الّذين رفعوا الرّواية العربيّة إلى مصافّ العالميّة، كما أنّه امتداد حضاراتٍ وثقافاتٍ في شخصٍ واحد، حتّى أنّه لا يمكن الحديث عن الأدب الفلسطينيّ والعربيّ دون الحديث عن جبرا، قاصًّا ومترجمًا وروائيًّا وشاعرًا وناقدًا.

لجبرا العديد من الأعمال الرّوائيّة، من أهمّها: السّفينة؛ صيّادون في شارعٍ ضيّق؛ عالمٌ بلا خرائط (بالشّراكة مع عبد الرّحمن منيف)؛ البحث عن وليد مسعود؛ صراخٌ في ليلٍ طويل.

حداثةٌ عربيّة

تميّز مشروع جبرا الرّوائيّ بأسلوب الكتابة الحداثيّ، الّذي تجاوز أجيال الكتابة الرّوائيّة العربيّة السّابقة له، مع حرصه على النّكهة العربيّة في رواياته، فقد نجحت رواياته في الإفادة من التّقنيّات الحديثة للرّواية الغربيّة، وتكسير التّابوهات والمسلّمات الفنّيّة، وفي الوقت نفسه حافظت على خصوصيّتها العربيّة والفلسطينيّة.

فمن خلال أسلوبي التّناص والتّهجين، تلاقحت نصوصه مع نصوصٍ غربيّةٍ، على المستويين الدّلاليّ والشّكليّ، ما ساهم في إثرائها وصبغها بالعالميّة، كما اتّسعت لتشمل مجالاتٍ معرفيّةً شتّى، منها علوم النّفس، والاجتماع، والفلسفة، والأديان، لا سيّما توظيفه للرّموز المسيحيّة بكثرة، والأساطير، والموسيقى، والمسرح، والسّينما، والنّحت، والرّسم. وقد تداخلت الأجناس الأدبيّة وانصهرت فيها، من شعرٍ ومسرحيّةٍ وقصّةٍ، ضمن ما اصطلح عليه بالكتابة عبر النّوعيّة.

اتّسمت معظم روايات جبرا بالحنين، كونها تمزج بين الذّاتيّ والوطنيّ والقوميّ والإنسانيّ؛ فلا يمكن لكاتبٍ أن يكتب عملًا مرتبطًا بالجذور والأصالة دون التّطرّق لمآسي شعبه وأفراحه، بل وأبسط عاداته وأسلوب حياته اليوميّة، حتّى يُكتب لهذا العمل البقاء؛ ولهذا السّبب، كُتب لجلّ أعمال هذا الكاتب البقاء، وما زالت حتّى يومنا تُقرأ وكأنّها صدرت قبيل سنواتٍ قليلة..

المرايا

تدور أحداث رواية السّفينة حول مجتمعٍ مركّبٍ بمحض التّنسيق وبرغبةٍ من أفراده، إضافةً إلى أنّ الأحداث فيها تجري في فضاءٍ متنقّلٍ موغلٍ في الحركة والتّزامن، ومحمّلٍ بأبعادٍ إنسانيّةٍ شاسعةٍ بشكلٍ يثير فضول القارئ.

هذا المجتمع المركّب ما هو إلّا نتاج رغباتٍ جامحةٍ تدور في نفوس ساكنيه؛ فكلّ واحدٍ منهم لديه الرّغبة في الهرب بصورةٍ أو بأخرى من شيءٍ ما يرتبط بالماضي ويتمسّك بذاكرة الحاضر.

يستخدم جبرا في السّفينة أسلوب المرايا، إذ يحكي كلّ فردٍ ويسرد ما لديه بصيغة 'الأنا'، حيث تتناوب على السّرد فيها أربع شخصيّات؛ هم وديع عسّاف، وعصام السّلمان، وإميليا فرانزي، والدّكتور فالح،الّذي تُعَدّ رسالة انتحاره بمثابة صوتٍ رابعٍ في الرّواية، حتّى لو كان ذلك من خلال رسالته فقط.

سرديّة الموسيقى

يبدو واضحًا تعلّق جبرا بالموسيقى، ودليل ذلك ما جاء في الرّواية على لسان شخصيّة وديع عسّاف، الّذي قال في أحد المقاطع الحواريّة: 'الموسيقى حشيشتي وأنا مدمنٌ عليها'. ويُعدّ جبرا من الرّوّاد الّذين وظّفوا الموسيقى في العمل الرّوائيّ والقصصيّ، إذ قدّم عدّة رواياتٍ وأعمالٍ توضح هذا التّوظيف، مثل رواية السّفينة، ومجموعته القصصيّة الأولى، 'عرق وقصص أخرى'.

من وظائف الموسيقى السّرديّة لديه نبش الذّاكرة، فحين تستمع إحدى شخصيّاته للموسيقى تبدأ بسيلٍ من الاسترجاعات أو 'الفلاش باك'، والعودة إلى الماضي الجميل، مثل تألَق الشّخصيّة في حقبةٍ ما، أو المأساويّ، مثل النّكبة الفلسطينيّة. وقد عمد جبرا في رواية 'صيّادون في شارعٍ ضيّق'، إلى استخدام الموسيقى ومضةً للتّدليل على ما سيحدث بعد؛ فكانت الموسيقى تعريفًا بالفكرة القادمة. ويتّضح لنا في معظم أعماله التّشابه بين شخصيّة الفلسطينيّ القادم من القدس أو بيت لحم، والمولع بالموسيقى، ذي الثّقافة الغربيّة والموسوعيّة، إنما هي انشطارات لأجزاء منه وكأنه يتحدث عن نفسه.

التّاريخ… فضول المعرفة

تطرّق جبرا إلى ذكر بعض الشّخصيّات المؤثّرة عبر التّاريخ، مثل توما الإكوينيّ، رجل الدّين الّذي ارتكزت فلسفته على اللّاهوتيّة الطّبيعيّة، أي المنبثقة عن التّجربة والأفعال والأعمال الواقعيّة. وجاء أيضًا على ذكر 'سيرانو دي برجراك'، وهي مسرحيّةٌ للشّاعر الفرنسيّ إدموند روستان، و سيرانو هو بطل المسرحيّة؛ لكنّه في الواقع شخصيّةٌ حقيقيّةٌ لفارسٍ كانت معضلة حياته أنفه الكبير الّذي حال بينه و بين حبيبته، وقد كان يقاتل مَنْ يسخر منه بشراسةٍ، فتكون له الغلبة، وتوفّي هذا الفارس، وفق ما يقال، بسقوط لوح خشبٍ على رأسه، وبعضهم يقول إنّه توفّي بالزّهريّ.

تُعدّ تلك الإشارات التّاريخيّة علاماتٍ تدلّ على الكتابة الحداثيّة عند جبرا، غير المألوفة آنذاك بين أقرانه من الرّوائيّين، كما أضفت على الرّواية نكهةً ثقافيّةً حاذقةً تثير فضول القارئ النّهم نحو معرفة المزيد.

الفلسفة

جمعت رواية السّفينة بين الأدب والسّياسة والفلسفة؛ إذ أسهب جبرا في الحديث عن الرّوايات والمسرحيّات العالميّة، وأمعن في وصف الشّعراء والحالة الشّعريّة، وتناول القضايا السّياسيّة الحارقة في زمن كتابة الرّواية، كاللّجوء والأزمة اللّبنانيّة والعراقيّة وغيرها.

ولا شكّ أنّ عنوان الرّواية بحدّ ذاته يحمل في ثناياه بعدًا رمزيًّا وفلسفيًّا تناوله جبرا بشكلٍ أنيقٍ، كالوجود والفضيلة والرّذيلة والحقيقة المطلقة، وقضايا إنسانيّةٍ أخرى، تُظْهِرُ بوضوح النّزعة الفلسفيّة لديه.

لقد بدت السّفينة وكأنّها كوكبٌ كاملٌ، وهي أقرب إلى أن تكون الوطن العربيّ كلّه بجميع أطيافه: الثّوريّ والمثقّف والشّاعر والعالم والمنفتح الّذي يحمل فكر الغرب والمتمرّد، وكلّ شخصيّةٍ فيها تمثّل شريحةً بذاتها، قائمةً بكيانها وتأثيرها ووجودها. كما أنّه طرح في نصّه عادات المجتمع العربيّ المقيتة، الّتي تَحول بين الإنسان وأحلامه أحيانًا، ورأى أنّ ما ينقص العالم في يومه، وفي كلّ يوم، هو النّظام.

'ما عرفته قبل يومين وما تعرفه اليوم ليس واحدًا. الحياة تسيل، تجري، تسابق البشر. وهي كلّ يومٍ تغيّرك، تأكل منك، تقضم من حواشيك، تُوَسِّع رقعة الخدر في قلبك، وكلّ يومٍ تضيف إليك، وتُضَخِّمُك، وتدقّ في قلبك مسامير المتعة والألم، ولكنّك متغيّرٌ أبدًا. طفولتك ترافقك، ولكنّها ما عادت جزءًا منك، إنّها هناك - بعيدةٌ عنك، مع ذلك الموج في أقصى الأفق، في الجزيرة الّتي تراها في بحر أحلامك'. (السّفينة: ص 15-16).

أحد أنشطة مبادرة أسفار

مبادرة أسفار الثّقافيّة: مبادرةٌ شبابيّةٌ فلسطينيّةٌ مستقلّةٌ أُنْشِئت عام 2014 بمدينة نابلس. اهتمّت أسفار، بدايةً، بعقد نشاطاتٍ ثقافيّةٍ شهريّةٍ، كمناقشة الكتب والرّوايات، إضافةً إلى استضافة الكتّاب الّذين من الممكن استضافتهم لمناقشة أعمالهم. وفي المرحلة الثّانية، بدأت أسفار بإدخال مجالي السّينما والأعمال التّطوّعيّة إلى دائرة أنشطتها. تهدف أسفار، ابتداءً، إلى أن تكون جسر تعارفٍ بين المهتمّين بشؤون الثّقافة في نابلس، وفي عموم فلسطين لاحقًا، عن طريق نشر الفكرة في محافظات الوطن؛ كما أنّها تطمح إلى أداء دورٍ مهمٍّ في نشر ثقافة القراءة وخدمة المجتمع عبر الأعمال التّطوّعيّة.

صفحة أسفار على فيسبوك.