كوكب سمر عبد الجابر المنسيّ

'عليّ فقط أن أبحث جيّدًا/ فلا بدّ في هذه المدينة الّتي تُسوّرها الجبال/ لا بدّ من صخرةٍ ما/ أتسلّقها ذات يوم/ وأختفي بعد ذلك/ إلى الأبد'. بهذا النّصّ المعنون بـ 'صخرة طانيوس'، تفتتح سمر عبد الجابر مجموعتها الجديدة. نتذكّر سيلفيا بلاث وفرنها؛ لكن مهلًا، الاختفاء هنا قد لا يعني الانتحار، إذ إنّ معرفتنا السّابقة بنصوص الشّاعرة تدفعنا إلى الجزم بأنّ اختيارها صخرة طانيوس لا لكي تقفز، بل كي تنأى بنفسها.

الوحدة

في مجموعتها الشّعريّة الجديدة، 'كوكبٌ منسيّ' (الدّار الأهليّة للنشر والتّوزيع - بدعم من "صِلات: روابط من خلال الفنون")، وبعد باكورتها الأولى، 'وفي روايةٍ أخرى' (2010)، يبدو كأنّ الشّاعرة ما زالت تصرّ على أن ترعى الوحدة، تكثّفها، وتجعل منها  كتلةً ضخمةً تضعها تحت رأسها وتحاول أن تنام في 'مكانٍ يقع خارج الماضي/ وخارج المستقبل/ حيث النّدم ينتفي/ والقلق لا يتواجد'.

نقلّب 103 صفحاتٍ محمومةٍ، تحكي عن حبٍّ غير موجودٍ، وإن وُجد فهو وقعةٌ، وعن موتى نَسِيَت الكاتبة أنّهم ماتوا، وعن ذاكرةٍ طازجةٍ تسقط منها وجوهٌ وأماكنُ وأحداث: 'في الرّأس أيضًا/ حيث تختفي الأحلام/ الّتي نعجز عن تذكّرها صباحًا/ يحدث كذلك أن تسقط/ وجوهٌ وأماكنُ وأحداث/ دون أن نجد لها أثرًا بعد ذلك'.

من أذيال الوحدة واليأس، والأرض والآلهة، تخلق عبد الجابر مفرداتها، وتنسج حياةً تحاول أن تتذكّر 'متى أصبحت ثقيلة، كسقفٍ من الإسمنت'. ولأنّ 'الأرض تتّجه إلى حتفها'، يبدو أنّ شاعرتنا متصالحةٌ ببلادةٍ مع كلّ التّناقضات. ولأنّ 'الآلهة انصرفت إلى أكوان أخرى وتركتنا وحدنا'،  فنحن لا 'نملك إلّا أن نمضي الوقت في حربٍ مع أنفسنا لكي لا يقتلنا الملل...'، هكذا وبكلّ بساطةٍ تغدو الحياة لدى عبد الجابر وكأنّها 'مسوّدة قصيدة، تشوّهها الكلمات المشطوبة بالحبر'.

أسئلة الخوف والفقدان

الشّاعرة الفلسطينيّة الّتي لجأت عائلتها من حيفا إلى لبنان، تعيش الآن في دبيّ الّتي تكتب عنها: 'زرعوا أشجارًا كثيرة/ صنعوا بحيرات/ ومباني شاهقة/ يملؤها أناسٌ كثر/ لكن/ ما زالت/ رائحة الصّحراء'؛ تلك الصّحراء الّتي تقاومها بشرب القرفة في الصّباح، والزّعتر في المساء، والتّكلّم مع أمّها مرّتين.

في مجموعتها الجديدة، تحضر فلسطين بشكلٍ غير مباشر، بأسئلة الخوف والفقدان وشعور الغربة الدّائم، من خلال وثيقة السّفر ومحطّات الانتظار، أو من خلال جدّتها الّتي مات الله بموتها: 'يوم رحلتِ يا جدّتي/ شعرت أنّي فقدت الله إلى الأبد../ ثماني سنوات: عمر موت اللهّ في قلبي'.  أو من خلال جدّها الّذي كتبت له مرثيّة وداع: 'إذًا/ يوم الغد/ المسحّر لن ينادي اسمك.. وعصاك المسنودة على الحائط/ ستظلّ تنتظر يديك/ إلى الأبد/ صوتك لن يخبرني قصص فلسطين.. ولأنّك أنت العيد/ لن يكون ثمّة عيدٌ بعد الآن/ بالأمس حين توّقف قلبك/ حيفا، بحاسّتها السّادسة/ عرفت/ رياحٌ غامضةٌ هبّت هناك فجأة.. في المنزل الّذي كان بيتك هناك/ عتمةٌ شديدةٌ حلّت فجأةً: لعنةٌ ستلاحق ساكنيه إلى الأبد.. تغادر سريرك/ للمرّة الأخيرة../ محمولًا على الأكتاف../ مغمض العينين/ جسدك يهبط إلى قبره: التّراب ينهال عليك/ أحدهم يحفر اسمك برفقٍ على شاهدة الضّريح.. جسدك يهبط/ إلى ضريحه اللّاجئ الآن../ وفي ذات اللّحظة في حيفا/ يولد طفلٌ جميلٌ/ له عيناك الزّرقاوان/ واسمٌ مثل اسمك'.

غلاف ديوان 'كوكب منسيّ' لسمر عبد الجابر

سيرةٌ يوميّةٌ… نهاياتٌ مفتوحة

'كوكبٌ منسيّ' بمثابةٍ سيرةٍ يوميّةٍ للشّاعرة؛ نعثر فيها على لغةٍ بسيطةٍ متحرّرةٍ من البلاغة، رشيقةٍ وثقيلةٍ، صاخبةٍ وساكنةٍ في آنٍ معًا، لن نشغل أنفسنا بالبحث عن الشّعر في النّصوص، إذ تحيلنا المجموعة بأكملها إلى حالةٍ شعريّةٍ خاصّةٍ.

تأتي بعض النّصوص كأنّها نهاياتٌ مفتوحةٌ قادمةٌ من أفلامٍ لعبد اللّطيف كشيش، وبعضها الآخر كأنّها اقْتُطِعَتْ من ذروة فيلم أكشن: 'أتخّيلنا جميعًا/ سكّان هذي الأرض/ نتّخذ قرارًا جماعيًّا بالانتحار: نذبح أنفسنا/ نقفز من السّطوح/ نفجّر بيوتنا/ نشعل النّيران في الغابات/ نذهب إلى حيث العواصف والأعاصير/ نصدم سيّاراتنا عمدًا بالأشجار/ نحدث أعطالًا في الطّائرات/ نساعد بعضنا البعض على الموت… نقدّم استقالتنا الجماعيّة/ من هذا العالم/ تحت أنظار كلّ الآلهة/ العاجزة/ عن إيقاف ذلك'.

لوهلةٍ قد نشعر بأنّ غالبيّة النّصوص تفتقر إلى القفلة المحكمة (ضربة الطّبل الأخيرة)؛ لكن من قال إنّ الشّاعرة تأبه بالخواتم، حتّى نصوصها لا تنتهي بنقطة! ربّما هو اعترافٌ ضمنيٌّ بلا جدوى الشّعر، ربّما، أو حتّى لا جدوى حياةٍ بأكملها قد 'تُلَخَّصُ بأحسن الأحوال/ في كتابٍ من مئة صفحة/ يجلس على رفّ/ يغطّيه الغبار..'.

قد تبدو مجموعة عبد الجابر وصفةً مثاليّةً لهواة الاكتئاب، ولكلّ من يحاول الاختفاء، وقد نخرج من صفحاتها بمناعةٍ أقلَّ وجزعٍ أكثر، كالشّعور الّذي تحيلنا إليه 'النّهاية الحزينة' للمجموعة الّتي تختمها الشّاعرة بسؤال: 'ولكن كيف يمكننا احتمال كلّ ذلك/ ونحن نعرف أنّه لا مهرب/ من نهايةٍ حزينة؟'

هكذا تقف الشّاعرة على قمّة طانيوس بوجهٍ محيّاه البلادة، وتمدّ لسانها الطّويل لنا ولعالمٍ يتداعى أمامها.