باليستاين بوست: صحيفة نسفها الحسيني، وأهداها عبّاس لسلمان

محمود عبّاس يسلّم سلمان بن عبد العزيز هديّته: THE PALESTINE POST

لوحة مؤطّرة بإطار ذهبيّ فخم، وأخرى بإطار خشبيّ بنيّ، تضمّان وثيقتين لنشرتين صحافيّتين قديمتين، عنوانهما 'THE PALESTINE POST'، كانتا كفيلتين بإثارة انتقاءات شديدة وتساؤلات عديدة حول زيارة الرّئيس الفلسطينيّ، محمود عبّاس، إلى السّعوديّة، الأسبوع الماضي، إذ كانت اللّوحتان من ضمن مجموعة هدايا قدّمها عبّاس لملك السّعوديّة، سلمان بن عبد العزيز، وُصِفَتْ في وسائل الإعلام بأنّها تمثّل 'التّاريخ الفلسطينيّ'.

محمود عبّاس، الحاصل على شهادة دكتوراه في تاريخ الصّهيونيّة من كلّيّة الدّراسات الشّرقيّة في موسكو، وطاقم من المستشارين والموظّفين في مقرّ رئاسته، لم ينتبهوا، ربّما، إلى أنّ الصّحيفة المهداة إلى ملك السّعوديّة ممثّلة لتاريخ فلسطين، ليست سوى صحيفة صهيونيّة، صدرت قبل نكبة 1948، معلنة أنّ أهمّ أهدافها دعم إقامة وطن قوميّ لليهود في فلسطين! وهو ما عدّه كثيرون استخفافًا بالثّقافة والتّاريخ الفلسطينيّين، بل مسًّا سافرًا بهما، مطالبين الجهة المسؤولة عن ذلك بتوضيح ما حدث، بل وبالاعتذار.

في هذه المقالة، نسلّط الضّوء على تاريخ هذه الصّحيفة، منذ تأسيسها وحتّى تحوّلها إلى THE JERUSALEM POS.

من أجل 'وطن قوميّ لليهود'

بعد أن أصدرت بريطانيا وعد بلفور وصكّ الانتداب على فلسطين، قرّرت إنشاء حكومة مدنيّة فيها، وعيّنت هربرت صاموئيل، أحد زعماء الصّهيونيّة، مندوبًا ساميًا، وكانت الحكومة البريطانيّة معنيّة بترقية وتعميم المواصلات والاتّصالات بما يخدم مصالحها؛ وقد كانت معنيّة بالصّحافة أساسًا، واحدًا من أشكال الاتّصال الجماهيريّ. في هذه الفترة، سعت الحركة الصّهيونيّة إلى تأسيس عدّة صحف في المستوطنات الصّهيونيّة بفلسطين، مستغلّة إيّاها من أجل تحقيق وظائف متعدّدة.

جرشون أرجون، مؤسّس The Jerusalem Post

يشير الباحث حبيب كنعان إلى أنّه، وعلى الرّغم من الاختلافات الأيدلوجيّة بين الصّحف،  كان ثمّة إجماع بين هذه الصّحف على التّجنّد لخدمة أهداف الحركة الصّهيونيّة ومساعدتها في إقامة 'وطن قوميّ لليهود' على أرض فلسطين. ويبيّن كعنان أنّ هذه الصّحف أجمعت على ما يلي:

* رفض المسّ بأهداف الوجود اليهوديّ في أرض فلسطين، والّذي كان توطئة لإقامة الدّولة اليهوديّة المنشودة.

* الدّعوة إلى تكثيف الهجرة اليهوديّة إلى أرض فلسطين.

* مساندة حقّ اليهود في البناء والسّكن في أيّ بقعة من أرض فلسطين.

* رفع شعار 'العامل العبريّ' من أجل تكريس اعتماد الوجود اليهوديّ على نفسه وليس على الأغيار.

من بين هذه الصّحف، نشرة كانت تَصدُر باللّغة الإنجليزيّة في القدس، اسمها THE PALESTINE BULLETIN (فلسطين بولتين)، أي النّشرة الفلسطينيّة.

باللّغة الإنجليزيّة

يقول د. عبد الوهّاب المسيري في مؤلّفه 'موسوعة اليهود واليهوديّة والصّهيونيّة'، وفي إطار حديثه عن ماير جروسمان: 'وفي عام 1919، شاركه جيكوب (يعقوب) لانداو في إنشاء مكتب الاتّصالات اليهوديّ. وأسّس عام 1925 نشرة كانت تَصدُر باللّغة الإنجليزيّة في القدس، بالستاين بوست، والّتي تحوّلت فيما بعد إلى جيروساليم بوست.'

جريدة فلسطين لعيسى داوود العيسى، صدرت أوّل مرّة عام 1911

من الواضح أنّ المسيري [رحمه الله]، اختلط عليه الأمر بين نشرة THE PALESTINE BULLETIN (فلسطين بولتين)، و THE PALESTINE POST (فلسطين بوست)، فما أُسّس عام 1925 هو THE PALESTINE BULLETIN على يد يعقوب لانداو، والّتي كانت تُعَبّر عن الوكالة اليهوديّة تحت الإشراف البريطانيّ.

في افتتاحيّته جريدة  فلسطين سنة 1929، الموسومة بـ »'فلسطين في مرحلتها الجديدة، مساهمتنا في نهضة الصّحافة'، كتب مؤسّسها عيسى العيسى: 'تصدر جريدتنا ابتداء من العدد القادم في ثماني صفحات، ثلاث مرّات في الأسبوع، إنجازًا لما وعدت به، ونحن نخطّ هذه الأسطر نحسّ بألم عميق، لأنّ فلسطين لم يَحِنْ بعدُ أوان صدورها يوميّة، مع أنّها صحيفة الأكثريّة السّاحقة في البلاد، مع أنّ الأقليّة اليهوديّة صار لها ثلاث صحف يوميّة تصدر باللّغة العبريّة، هذا غير البالستاين ويكلي والبالستاين بولتين، اللّتين تصدران باللّغة الإنجليزيّة، وغير المجلّات الأسبوعيّة والشّهريّة الكثيرة العدد'. هنا يؤكّد لنا عيسى العيسى ما هو مؤكّد، أنّ صحيفة  THE PALESTINE BULLETIN (فلسطين بولتين) صحيفة يهوديّة.

دعم وايزمان وتشكيك أرلوزوروف

وبتاريخ 1 تشرين الثّاني (نوفمبر) 1931، عُيّن الصّحافيّ الصّهيونيّ جرشون أجرون Gershon Agron، رئيسًا لتحرير نشرة THE PALESTINE BULLETIN، وفي آذار (مارس) 1932، نشأ نزاع بين لانداو وأجرون. قرّر أجرون إنشاء صحيفة جديدة مستقلّة، فحثّ القيادات الصّهيونيّة لدعمه من أجل إصدار صحيفة يوميّة باللّغة الإنجليزيّة، وقرّر الذّهاب إلى لندن لجمع الأموال، وكان حاييـم وايزمان، رئيس المنظّمة الصّهيونيّة العالميّة في حينه، متحمّسًا لذلك، فأعطى أجرون رسالة يتقدّم بها إلى المستثمرين الصّهاينة هناك.

حاييم وازيمان، أبرز الدّاعمين لتأسيس THE PALESTINE POST

لم تأت رسالة وايزمان بالكثير لأجرون، لكن دعم وايزمان كان عنصرًا مساعدًا مهمًّا. حدّدت الصّحيفة منذ بداياتها هدفها المركزيّ، وهو المساهمة في تغطية نشاطات التّجمع الاستيطانيّ الصّهيونيّ في فلسطين، وأُطْلِقَ عليها اسم THE PALESTINE POST (فلسطين بوست).

من الجدير ذكره، أنّه عندما عرض جِرشون أجرون على الدّائرة السّياسيّة الصّهيونيّة فكرة تأسيس صحيفة جديدة يوميّة باللّغة الإنجليزيّة، كان حاييـم أرلوزوروف، رئيس الدّائرة في حينه، يشكّ في خطّة أجرون، وسجّل ذلك في يوميّاته، حيث كتب: 'يريد أجرون أن يؤسّس صحيفة يوميّة إنجليزيّة ثابتة، يريد إبادة نشرة  THE PALESTINE BULLETIN (فلسطين بولتين). بالتّأكيد لم يقنعني مخطّطه، وأخاف إذا ما جرى التّخلّص من نشرة THE PALESTINE BULLETIN، أنّه سيجري التّخلّص بعدها من كلّ الصّحف الإنجليزيّة الّتي وضعها اليهود، وستكون هناك صحف إنجليزيّة مسيحيّة، وربّما صحف بشراكة بريطانيّة عربيّة'. 

استمرار لـ Palestine Bulletin  

مع ذلك، نجح جِرشون أجرون في تأسيس صحيفته، وترأّس تحريرها منذ البداية. ولكن اتّفق لاحقًا على الشّراكة بين النّشرة والصّحيفة الجديدة، وبتاريخ 30 تشرين الثّاني (نوفمبر) 1932، نُشِرَ العدد الأخير من  نشرة THE PALESTINE BULLETIN (فلسطين بولتين).

بتاريخ 1 كانون الأوّل (ديسمبر) 1932، صدر العدد الأوّل بعد دمج نشرةPALESTINE BULLETIN  (فلسطين بولتين) وصحيفة  THE PALESTINE POST (باليستاين بوست)، تحت عنوان مشترك:  THE PALESTINE BULLETIN THE PALESTINE POST. وقد طُبعت الصّحيفة الجديدة في قبو صغير، إذ طُبِع زهاء الـ 1050 نسخة مكوّنة من ثماني صفحات، وأُعْلِنَ عن انطلاق الصّحيفة الصّهيونيّة عند نشر أوّل عدد لها.

Palestine Bulletin - النّشرة الفلسطينيّة، العدد الأخير (30/11/1932)

 بتاريخ 25 نيسان (أبريل) 1933، بدأت الصّحيفة تصدر بالاسم الجديد: THE PALESTINE POST (ذا باليستاين بوست)، وكُتب في  عددها الأوّل أنّها استمرار لنشرة Palestine Bulletin (باليستاين بولتين)، وجاء فيها: 'هدفنا هو أن نقدّم للجمهور في أرض إسرائيل صحيفة عبريّة باللغة الإنجليزيّة، وأن يكون مسؤولو الإدارة البريطانيّة في فلسطين قادرين على فهم الشّؤون اليهوديّة والصّهيونيّة. بالإضافة إلى ذلك، هدفنا توفير معلومات يوميّة حول أعمال اليهود وتطلّعاتهم في الشّتات وفي البلاد'.

1800 نسخة يوميًّا

ومع حلول شهر نيسان (أبريل) من عام1933 ؛ كان أجرون قادرًا على إرسال الصّحيفة إلى خارج فلسطين، واشترك فيها من الخارج 500 مشترك، وبلغ التّوزيع اليوميّ أكثر من1800  نسخة يوميًّا، وكانت الإعلانات تأتي من الأردن، والعراق، وقد وصل الدّخل من الإعلانات إلى 200 جنيه فلسطينيّ كلّ شهر.

ساهمت THE PALESTINE POST (فلسطين بوست) خلال الحرب العالميّة الثّانيّة (1939 - 1945)، في تشجيع المستوطنين الصّهاينة على المساهمة في جهود الحلفاء، وأصدرت طبعة خاصّة لقوات الاحتلال البريطانيّ.

التزمت صحيفة THE PALESTINE POST (باليستاين بوست) بالخطّ السّياسيّ الصّهيونيّ، وبالدّعوة لتكثيف الهجرة اليهوديّة إلى أرض فلسطين؛ ففي عددها الصّادر يوم 29 نيسان (أبريل) 1941، هاجمت حكومة الدّفاع الوطنيّ العراقيّ لأنّها منعت اليهود الإيرانيّين من الهجرة إلى فلسطين، إذ قالت: 'ثمّة بعض المهاجرين اليهود في إيران، ولديهم شهادات هجرة إلى فلسطين، لكنّهم لم يستطيعوا ذلك بسبب رفض الحكومة العراقيّة منحهم تأشيرة مرور'.

نسف مبنى THE PALESTINE POST بتاريخ 02/02/29148

'استهدفوا المبنى ولا تؤذوا الموظّفين'

وبسبب مواقف الصّحيفة العدائيّة تجاه أهل فلسطين، وتشجيعها على الاستيطان ودعمها لسياسات الانتداب البريطانيّ، قرّرت المقاومة الفلسطينيّة بقيادة القائد عبد القادر الحسيني، مهاجمة مقرّ الصّحيفة، وحصل ذلك بتاريخ 1 شباط (فبراير) 1948. كتبت صحيفة المصري بتاريخ 18 شباط (فبراير) 1948 ما يلي: 'لقد تحدّث القائد عبد القادر الحسينيّ عن نسف المباني في فلسطين فقال: إنّ العرب لم يُقْدِموا على مثل هذه الأعمال إلّا رًّدا على عدوان اليهود، مع مراعاة إحداث أقلّ عدد ممكن من الإصابات بين النّساء والأطفال المدنيّين على وجه العموم، لكنّ أعداءنا اليهود يواصلون عدوانهم وأعمالهم الخسيسة، ونحن نضطّرّ إزاء ذلك إلى أن نلقي عليهم دروسًا قاسية، وإذا ما أصرّوا على اتّباع أعمالهم العدوانيّة الخالية من الشّجاعة، فسنريهم أنّنا قادرون على نسف مبانيهم إذا شئنا، وأذكر هنا حادث نسف جريدة بالستاين بوست، فقد أمرت بأن يراعي العرب عدم إصابة أحد لا تدعو الضّرورة لإصابته. وقد قمت بدراسة هذه المنطقة بنفسي، وأمرت بألّا يبدأوا عملهم إلّا عند التّأكّد من خلو المبنى من الأشخاص. ولمّا سُئِلَ السّيّد عبد القادر الحسينيّ عن الحركة المقبلة الّتي يضطّلع بها، أبى أن يصرّح بأكثر من ذلك.'

أمّا جريدة الشّرق، فقد كتب أحد المراسلين الّذين أجروا مقابلة صحافيّة مع عبد القادر الحسينيّ، بتاريخ 22 شباط (فبراير) 1948: 'لقد انتقل العرب من طور الدّفاع إلى طور الهجوم، والعرب اليوم، سواءً أكانوا في القدس أو يافا أو بقيّة القرى العربيّة، هم الّذين يبادئون بالهجوم، وذلك بالرّغم من قلّة أسلحتهم بالنّسبة لاستعدادات الصّهيونيّين، لكنّنا نحن أقوى منهم بكثير. ثمّ أخذ (الحسينيّ) يعدّد لي أمثلة عن آخر ما تلقّاه من تقارير عن المعارك وعن تفوّق العرب في هجوماتهم،  ثمّ أوضح القائد الحسينيّ كيف أنّ رجاله حين قاموا بنسف بناء جريدة البالستاين بوست، راعوا عدم وجود عمّالها.'

'ولادة دولة إسرائيل' (16/04/1948)

وبتاريخ 16 نيسان (أبريل) 1948، كان العنوان الرّئيسيّ للصّحيفة: ' STATE OF ISRAEL IS BORN' (ولادة دولة إسرائيل).

بعد النّكبة وتأسيس الكيان الصّهيونيّ، في حوالي عام 1950، سُمّيت الصّحيفة JERUSALEM POST (جيروزاليم بوست)، وهي ما تزال حتّى يومنا هذا تحمل الاسم نفسه، وتعدّ من الصّحف المهمّة إسرائيليًّا، وتصدر باللّغة الإنجليزيّة، ومواقفها تعدّ يمينيّة ومتشدّدة وداعمة لسياسات حكومة بنيامين نتنياهو الحاليّة.