من ذاكرة الاسر (13)../ راسم عبيدات

-

من ذاكرة الاسر (13)../ راسم عبيدات
... نعم إنهما رموز وعناوين للنضال الوطني الفلسطيني، وأحد أهم دعائم ومرتكزات الحركة الأسيرة، بل سنديانات هذه الحركة. وأنا شخصياً أعتبرهما البوصلة والهادي والمرشد لجموع الأسرى المناضلين، ففي الوقت الذي خلقت فيه أوسلو عند الكثير من المناضلين حالة واسعة من الإحباطات وفقدان الثقة والقهر الداخلي، وفقدان البوصلة والاتجاه، فإن هؤلاء العمالقة، ورغم مرور أكثر من تسعة وعشرين عاماً على اعتقالهما، لم يبد عليهما لحظة تراجع أو ندم أو أسف على ما قدماه من نضالات وتضحيات..

وشهادة لهم وللتاريخ والنضال، فهما ليسا من المتهالكين على أن يفرج عنهما من خلال صفقات ما يسمى بحسن النوايا الإسرائيلية، بل يطمحان إلى أن يجري الإفراج عنهما، بعد هذه السنوات الطويلة من النضال والمعاناة والصمود، من خلال صفقة مشرفة ترفع رؤوسهم، ويستقبلان فيها استقبال الأبطال والعظماء، وهم بحق عمالقة وعظماء ومنصهرون حتى نخاع العظم في قضايا وهموم شعبهم.

فالقائد المناضل فخري البرغوثي"أبو شادي"، وكما ضرب الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، درسا في النضال والتضحية، وما يجب أن يكون عليه القائد من قدوة ومثال لجيشه وشعبه وحزبه، فأولاده انخرطوا في النضال جنب إلى جنب مع باقي أبناء الحزب، حيث نال أحدهم الشهادة وجرح الآخر، ففي المقابل فإن "أبوشادي" لم يكن رأسماله سوى ولدين شادي وفادي الذي تركه والده نطفة في أحشاء أمه، ولم ير الحياة بعد.

"وأبو شادي" ترجم بالفعل والممارسة القائد في الميدان، بل قال "أنا وما املك من مال وعيال للثورة وليس للثروة"، فولداه شادي وفادي تشربا النضال، وتربيا على نفس المبادئ والمفاهيم والقيم التي تربى عليها الوالد، الثورة تأخذ ولا تعطي..

وآمن شادي وفادي أن حسن النوايا وترك الأسرى تحت رحمة الإسرائيليين وأجهزتهم الأمنية وتصنيفاتهم، لن يقود بالمطلق لتحرير الأسرى، وهذا الملف يحتاج إلى مناضلين أشداء، وقيادات تمتلك الإرادة وتضع مسألة تحريرهم على رأس سلم أولويات أولوياتها.

ويلتحق شادي وفادي بالنضال والمقاومة، ويدخلان السجن ويلتقيان بالوالد بعد أكثر من ربع قرن، ويجتمعان معاً في قسم ح غرفة 29، ومشهد اللقاء بينهما مهما حاولت توصيفه، لن تستطيع نقل أو وصف حرارته ودفء المشاعر فيه، دموع يخالطها شعور بالعز والفخار، والوالد يتفقد أولاده من قمة الرأس وحتى أخمص القدم، وكأنه يقول لهما "لقد كنتم كما أردت، وها أنا أشعر بأن رأسي يطاول السماء بكم"..

وكم من مرة زرت "أبو شادي" وأولاده في الغرفة، وكم مرة قلنا له "بطلعلك يا عم.. إنفش ريشك، أولادك عندك"، بس السكن في الغرف على أساس عشائري مرفوض، وكم مرة كان يقول لي مازحاً"مش عيب عليك تنحبس على لحمه"، قلي هي لحمة جدي وإلا خروف.. سبعة عشر شهراً يا "أبو شادي" على لحمه، كيف لو على شيء ثاني، كان أبدوك"..

و"أبو شادي" كان من أكثر المناضلين الداعين إلى إعادة الهيبة والاعتبار إلى الحركة الأسيرة، وإلى أن تتكاتف وتتوحد جهود كل المناضلين من أجل مواجهة إدارة القمع الصهيونية، والتي تشن حملات قمع متواصلة ضد الحركة الأسيرة، وتقوم بسحب منجزاتها ومكتسباتها بشكل منظم ومبرمج..

وهو أيضاً من المناضلين الذين دعوا إلى أن تكون الحركة الأسيرة بعيدة عن كل الخلافات التي تحدث في الخارج، فالعدو في المعتقلات يتربص بالجميع، وهو لن يرحم أحدا ولن يفرق بين حماس وفتح أو جهاد وجبهة، فالكل عنده فلسطيني ومستهدف، بل سيستغل أية خلافات بين أطراف الحركة الأسيرة، من أجل أن يرفع من وتيرة قمعه ضد الحركة الأسيرة، ويسحب منجزاتها ومكتسباتها التي عمدت بالدم ومعاناة الأسرى، وعدد لا بأس به من الشهداء.


أما الأسير المناضل نائل البرغوثي فإن أشد ما يكره في حياته المحسوبيات والفساد، والقيادات غير المناضلة والتي تصل إلى مناصبها ومراكزها بالتسلق والرياء والنفاق الإجتماعي وكل أشكال وأنواع التآمر والشلليات والعشائرية والجهوية..

والبرغوثي الذي كان على زمن الإشتراكية والمد الاشتراكي في المنطقة والموقف السوفيتي الداعم لحركات التحرر والشعوب المضطهدة يكنى بـ"أبو جهل".. وبعد الأسلمة وتراجع الإشتراكية أصبح يكنى بأبي النور..

وأبو النور هذا، اختار في أزمة حركة فتح في عام 1983، أن يكون ضمن الحركة التصحيحية "أو ما يسمى فتح الإنتفاضة"، والتي تطالب بإصلاحات جذرية في صفوف الحركة، ولكن ما حدث من تطورات لاحقه، أقنع أبو النور، كما أقنع الأسير أحمد عميرة لاحقاً عندما ترك الجبهة الديمقراطية وإلتحق بفدا، مبهوراً بشعارات الديمقراطية والإصلاح والتغير التي طرحها ياسر عبد ربه، والذي أثبتت التطورات السياسية اللاحقة، أنها كانت من أجل أن تكون تغطية لانحرافاته وتراجعاته وتنازلاته السياسية، وخدمة لمصالح وامتيازات فئة معينة..

ولو استشار احمد عميرة أبو النور فربما بقي في تنظيمه ولم يغادره، وأبو النور وجد أن الشعارات المرفوعة عن الإصلاح ومحاربة الفساد والمحسوبيات والإنحراف السياسي، ومحاسبة كل المتخاذلين في حرب عام 1982، لم يكن إلا لذر الرماد في العيون، والمسألة لا تتعدى المصالح والامتيازات وخدمة لهذه الأجندة أو تلك، أو لهذا الطرف أو ذاك..

وأبو النور كونه من القيادات المناضلة، حيث لم يفلح المعتقل وطول السنين بهز قناعاته أو تغيرها، كما فعل في البعض، فإنه ما زال مؤمناً وقانعاً، أنه مهما قدم الطرف الفلسطيني، والذي بعد التطورات الأخيرة، وما أصاب البيت الفلسطيني من انقسامات وتصدعات عميقة، أفرز سلطتين وجغرافيتين، لن يحقق الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، فليس العدو فقط بل والعالم أجمع لا يحترم الضعيف ومن يستجدي الحقوق، لأن الحقوق تنزع انتزاعا.

وأبو النور ليس بالإنسان العدمي، الذي لا يؤمن بالتفاوض، بل يرى أن التفاوض يجب أن يكون من موقع قوة، وقائم ومستند إلى أسس ومرجعيات، وإلا بدون ذلك فإننا سنستمر في الدوران في حلقة مفرغة، ونصبح كمن يخض الماء، أو يطحن الهواء، ومن يشاهد أبو النور يقود طابور الرياضة الصباحي، يشعر أن أبو النور مازال شابا في مقتبل العمر، وهو يحرص دائماً على متابعة كل التطورات السياسية، من خلال راديو يحمله معه بإستمرار.

"أبو شادي وأبو النور" يؤرخان للحركة الأسيرة الفلسطينية، وشاهدان على عمق المعاناة والمأساة التي تعيشها الحركة الأسيرة الفلسطينية، حيث القمع الصهيوني المتواصل والمستمر والمتصاعد. وفي المقابل إهمال وتقصير فلسطيني، لقضية على غاية الأهمية والجدية لشعبنا الفلسطيني..

فهل التسعة وعشرين عاماً التي قضياها، هما وغيرهما من الأسرى والمناضلين، كافية للطرف الفلسطيني، لكي يصحو ويقول، فلتذهب كل الإتفاقيات إلى الجحيم إذا لم تحرر أسرانا.. أم تستمر المأساة والمعاناة حتى يصبح أبو شادي وأبو النور في عداد الشهداء.؟

التعليقات