ما بعد حرب غزة؛ مثقفون وناشطون لعرب48: الحرب لها مخلفات أهمها الآثار النفسية

"المسألة الآن هي مسألة ما بعد الحرب، وكيف يمكن معالجة هذا الحجم الكبير من الدمار، وكيف يمكن إعادة تأهيل شعب عانى بغالبيته من تأثيرات نفسية ليست بالسهلة، ودمار اقتصادي أعاد قطاع غزة سنوات طويلة إلى الخلف"..

ما بعد حرب غزة؛ مثقفون وناشطون لعرب48: الحرب لها مخلفات أهمها الآثار النفسية

(ا ف ب)

توقفت المعارك وخفتت نشوة الصمود، والآن "راحت السكرة وأتت الفكرة" كما المثل المتداول، وحان الوقت للوقوف بعقلانية أمام كل ما تركته الحرب الهمجية من آثار.

"تركت الحرب على غزة، والتي استمرت 51 يوما، الكثير من الآثار على شعبنا هناك، ويهمني هنا أن أشير للجانب الثقافي ما قبل وما بعد حرب غزة، فخلال الحرب شهدنا حراكا ثقافيا كبيرا سواء من خلال كتاب المقالات أو من خلال القصائد التي انهمرت علينا بمستوياتها المختلفة بالقوة أو الضعف، وحجم الندوات الأدبية والأمسيات الشعرية، سواء في الوطن أو خارجه، وعشرات إن لم نصل إلى المئات من القصائد سواء في داخل الوطن أو خارجه، والعرائض الكثيرة التي وقعها الكتاب والمثقفون سواء على المستوى الوطني أو العربي أو العالمي، إضافة لعشرات الصفحات على صفحات التواصل الإجتماعي والتي كرسها منشئوها للحديث أو التعريف عما يجري، والتي بدورها تفاوتت بقدراتها ومستوياتها، فمنها ما كان ضعيفا إن لم أقل مسيئا، ومنها ما كان على قدر عال من المسؤولية، وتمكن أن يثير الحوار مع الأجانب والأوربيين، ويمارس دورا عجز الإعلام الرسمي عنه".

هذا ما استهل به الكاتب والإعلامي زياد جيوسي حديثه لموقع "عرب 48" حول الحركة الثقافية ما بعد العدوان على غزة.

وأضاف: بعد أن توقف قصف المدافع وهدير الطيران، وهدأت نشوة الصمود الأسطوري، وبعيدا عن مناقشة المسميات حول ما جرى أنه كان نصرا أو وهم انتصار، علينا أن نرى الآن الوضع بعيدا عن كل ذلك، وبلغة الأرقام والنتائج، فالحروب تقاس بالنتائج وليس بالمقدمات، ودوما المقدمات الصحيحة تؤدي للنتائج الصحيحة وبالعكس".

جيوسي الذي تابع العدوان على غزة لحظة بلحظة من مكتبه في الطابق الرابع من مبنى منظمة التحرير الفلسطينية في رام الله، ويتابع ما تحفل به الساحة الفلسطينية من أنشطة وفعاليات ثقافية بعدسته التي تلتقط نبض الشارع الثقافي كما تلتقط صور المباني القديمة والأثرية في البلدات والقرى الفلسطينية التي يعمل على إبراز معالمها، قال: "عندما ننظر للواقع في قطاع غزة نجد وحسب لغة الأرقام أن الحرب التي شنتها دولة الاحتلال كانت حرب إبادة ومجموعة من جرائم الحروب، فهناك عائلات تمت إبادتها بالكامل، ووصل عدد الشهداء قرابة 2200 شهيد، ربعهم من الأطفال والنساء، وعدد الجرحى وصل الى قرابة 11000 جريح، نصفهم من النساء والأطفال، وهذا سيؤدي حسب طبيعة الإصابات إلى ما يزيد عن ثلث الإصابات من المعاقين إعاقات دائمة، إضافة إلى تدمير أكثر من 16000 منـزل، منها حوالي 2500 منـزل دمرت تدميرا تاما، كما لا ننسى حجم المؤسسات الحكومية والجمعيات التي دمرت، وحوالي نصف مليون مشرد بلا بيوت، وخسائر اقتصادية مباشرة وصلت إلى ثلاثة ونصف مليار دولار، إضافة للمواقع التاريخية والأثرية ودور العبادة ومحطات المياه والكهرباء ومحطات معالجة المياه العادمة".

وحول دور الثقافة والمثقف الآن في مرحلة ما بعد حرب غزة، قال جيوسي: أرى وأنا أتابع بعين مراقبة منذ البداية وحتى الآن ما قام به المثقفون خلال الحرب، وما يقومون به الآن، فأشعر أنه تم الابتعاد شبه الكلي عن الدور الذي يجب أن يستمر كي لا تصبح الحرب ونتائجها وكأنها شيء من التاريخ، فقد توقفت الندوات التي يجب أن يناقش بها أصحاب القلم والوعي والثقافة ما تم القيام به خلال الحرب وما يتم الآن، كي لا نبقى نتعامل كمثقفين وأصحاب فكر وقلم بردات الفعل على الحدث، وينتهي الفعل فتنتهي ردات الأفعال، وكأننا ننتظر فعلا قادما وردات فعل قادمة".

وركز جيوسي على أن المسألة الآن هي مسألة ما بعد الحرب، وكيف يمكن معالجة هذا الحجم الكبير من الدمار، وكيف يمكن إعادة تأهيل شعب عانى بغالبيته من تأثيرات نفسية ليست بالسهلة، ودمار اقتصادي أعاد قطاع غزة سنوات طويلة إلى الخلف، وكيف يمكن مواجهة كل ذلك، فمعالجة الآثار التي تركتها الحرب أهم بكثير من النقاش السفسطائي حول النصر وأشكاله، حيث لا أحد يمكنه نكران الصمود الكبير في مواجهة قوات لا تقارن بالقوات المقاومة من حيث العدة والعدد والقوة والتجهيزات العسكرية، فأنا أقدر التكافل الاجتماعي الكبير الذي اعتاد عليه شعبنا، لكن أتساءل لما لم تتم حملات لتأمين كميات من الكتب للمكتبات والمدارس والمؤسسات في غزة، فغزة لا تحتاج فقط المواد التموينية والألبسة، فهي تحتاج أيضا الغذاء الفكري، وأتساءل لماذا صمت الكثير من المثقفون والكُتاب الآن، والبعض منهم، وهذه شهادة مني، كان لما كتبوه خلال الحرب تأثيرات إيجابية ورائعة، والكثير من هذه الكتابات جرى ترجمتها من متطوعين خلال الحرب للغات أوروبية، وأثارت حوارات عديدة مع الأجانب واكتسبت الكثير للتعاطف مع قضيتنا".

واعتبر أن الوحدة التي حصلت خلال العدوان كانت من أهم النتائج الإيجابية تأثيرا على الشعب الفلسطيني، وأنه "بكل أسف ما أن توقفت المعارك حتى كانت معارك الخلافات الداخلية تشتعل من جديد، وهذه تركت نفسها أيضا على المثقفين والكُتاب أيضا، وهذا سيؤدي حتما إلى تأخر معالجة الخسائر الكبيرة على القطاع بما فيها النتائج الحضارية والثقافية، وسيجعل الشعب يزداد معاناة، وخاصة حين نرى أن آثار الحربين السابقتين لم تتم معالجتهما كما يجب، وهذه المعركة زادت من حجم المعاناة على شعبنا، فالشعب هو من يتحمل النتائج، وإن لم يتم معالجة كل ذلك وتجاوز كل أشكال الخلافات والانقسام، وإن لم يكن هناك دور متواصل للمثقفون ما بعد الحرب، فهذا سيعني أننا خسرنا الكثير، وأن الانتصار سيتحول إلى هزيمة على المدى البعيد، وهذا سيضعف من صمود الشعب في مواجهة أية معارك قادمة".

في المقابل، هاجم أمين أبو بكر القطاع الثقافي، وقال حتى وإن "زعل" البعض، أو أن ما أقوله سيزعل البعض لا يوجد نشاط ثقافي لا إبان الحرب على غزة ولا ما بعد الحرب، ولا يمكن اعتبار مشاركة مئتي شخص في وقفة تضامنية في بلد عدد سكانها ربع مليون نسمة ثقافة مقاومة، كما لا يمكن اعتبار هذه الوقفات التي تلونت بأعلام الفصائل على حساب العلم الفلسطيني ثقافة وطنية.

وحّمل أبو بكر، وهو ناشر فلسطيني ومتخصص في نشر وتوزيع الكتب، في حديثه لموقعنا على حملات الإغاثة التي تركزت على المواد الغذائية والمياه المعدنية التي قال إنها أصبحت فائضا ملقى على شوارع غزة، متسائلا في الوقت نفسه عن سبب عدم توفير الكتب واعتبارها صدقة جارية مثلا بدلا من شحن كل هذه المياه وبكميات زائدة عن الحاجة.

وحول الحالة الثقافية وحجمها في الساحة الفلسطينية، قال أبو بكر إن المثقفين اكتفوا بكتابة القصائد والمقالات، بل إن البعض منهم تعامل مع العدوان على غزة كفيلم ثقافي يشاهده كل مساء، وهو يأكل الكيك والمكسرات.

وأضاف "لا شك بأن كل العدوان على غزة ستختزله رواية أو روايتان في الأشهر القادمة، لذلك أنا أقول لك لا يوجد عندنا ثقافة، فعقد عدد من الندوات خلال شهرين من العدوان لا تعبر عن حالة ثقافية مساندة وداعمة ولا تعبر عن ثقافة وطن يواجه عدوانا".

واعتبر أبو بكر أن التردي الثقافي نابع من حالة عربية متردية، مشيرا إلى أن معرض عمان الدولي للكتاب الذي اختتم بالأمس وصف بالأسوأ على مدار عشرين عاما تنظيما وإقبالا. مضيفا أن "ما نحتاجه مراجعة نقدية.. لكن ليست على طريقة اليسار، ولا فوقية على طريقة اليمين".

من جهته قال عبد السلام العطاري مسؤول الأنشطة الثقافية في وزارة الثقافة "الحرب الساكنة في النصّ، والعدوان المسكون بالإنشاء، تلك حالة اعتدناها، ولا أظنها تختلف عن نشأتها في تكوين المعنى خلال سياق الكتابة الخاصة حول حالة الاشتباك بين احتلال ومقاومة منذ تأسيس فكرتها المعاصرة، ولم يغب النصّ الوطني الفلسطيني ّ عن فكر وفعل الكتّاب الذين رهنوا حبرهم من أجل تثويرٍ ونعيٍ وبكاءٍ ومديحٍ لحياة الفلسطيني في مشوار كفاحه الطويل... الطويل...الطويل الذي لا ينتهي، كان هذا في مرحلة (صحافة ومجلات) يسهل ذكرها وعدّها وحفظها وحفظ رئيس تحريرها، ولكن يسجل لتلك المرحلة كل تقدير واحترام الكثرة بالفعل والقلّة في عددها التي تكتب وتحكي وتروي عنّا وإن كتبنا عن حالتنا وشاطرناهم في تثوير الحالة".

وأضاف "في مرحلة الفضاء والفضائيات، واختلاف الحالة بالكثرة والقلّة وعدد الوسائل التي يمكن أن نكتب ونتحدث من خلالها إلا أنني أجد أن قلّة قليلة من تستطيع أن تعطي أصل النص وحكايته، ولعل العدوان الأخير على غزة، وكمتتبع وجدت مئات ومئات من كتبوا لغزة لا عنها، فثمة فرق بين أن نكتب عنها ونكتب لها، فكانت الكتابة (لها) هي مخاطبة حالنا ومخاطب المزروعين تحت الردم وتحت سقف الهدنات المتتالية، ونعيد وصف حالتهم أكثر مما نصف الواقع الأصل، والُمسبب والسبب، ولم نكتب عنها للعالم برسالة تحكي واقع النصّ الأصل الذي بدأ منذ بداية القرن، فالحكاية الفلسطينية مشكلتها أننا نكتب لها ولا نكتب عنها، نخاطب ذاتنا وذات الجيرة وجيرة الجيران السابعة، ولا نكتب لما بعد خطوط العرض وخلف السور ونخاطب هذا الظلم والعدوان، ما أصعب حالنا ونحن نحب أن نعيش دور الضحية ولا صورة للجلاد، ما أصعب أن نعيش واقع الظلم ونخفي الظالم في لهفتنا العاطفية كي نبكي أو نصرخ داخل بئر مهجورة. ما نحتاجه هو إعادة واقع الكتابة الصحفية تحديدا وواقع كتابة النص فيما يخصّنا، مراجعة نقدية ولكن ليست على طريقة اليسار ولا عنقودية على طريقة اليمين".

الجوانب النفسية ما بعد العدوان (الحرب) على غزة

من جانبها قالت المستشارة الصحية والناشطة في حقوق الإنسان واللاعنف منى عساف في حديثها لموقع عرب48، "الحرب على غزة لها مخلفات عديدة، ومن أهمها الآثار النفسية على جميع من عاش العدوان خلال 51 يوما متتالية التي كانت تمثل محرقة في القرن الحادي والعشرين. أسطورة الصمود التي حدثت تجعل الجميع يقف ويؤدي التحية لجميع سكان القطاع دون استثناء. لكن هذا الصمود لا يلغي الآثار النفسية والبسيطة على الإنسان فهو بشر وله مشاعر واحتياجات ولديه مخاوف".

وأضافت لقد ترك هذا العدوان (الحرب) أثرا كبيرا على الذات الإنسانية لكل فرد عاش وعايش الحرب في قطاع غزة، فهو ما بين الصمود الأسطوري والضغط والخوف من الموت الذي يحيط به من جميع الجوانب جعلته يعيش حالة من التناقض والصراع النفسي الداخلي العنيف وبسرية، لكي يساعد من حوله على استمرار الصمود. وحماية نفسه ومن حوله من القتل. ومن جهة اخرى عليه الصمت والقبول وعدم التذمر وعدم الاحتجاج على أي شيء لأنه لو احتج سيتم توصيفه بالجبان والخائن. وفي خضم هذا الصراع تكون مخرجات العدوان قاسية ولها آثار نفسية على جميع الفئات العمرية، وتكون أكثر تأثيرا على نفسية الأطفال حيث يظهر عليهم الخوف والهلع والتبول اللاإرادي والاضطرابات السلوكية والحزن والاكتئاب والعدوانية، ومن جهة أخرى الآثار النفسية على البالغين، والتي تتمثل بالاكتئاب والحزن والغضب وممارسة العنف تجاه الآخر بسبب الضغوطات التي يواجهها، ولا يعرف كيف يتخلص منها أو يتعامل معها. وهذه الحرب واحدة من نتائجها المباشرة التي باتت تملأ الأخبار الهجرة إلى الخارج بشكل غير شرعي بحثاً عن حياة أخرى بسبب الشعور باليأس من استمرارية الحياة في ظل الظروف المحيطة بقطاع غزة.

وأكدت على ضرورة النظر للعدوان على غزة وآثاره النفسية على جميع أفراد المجتمع دون استثناء، لأن هذا العدوان شمل جميع قطاع غزة دون استثناء وبلا رحمة. الذي حصل في غزة هو عملية إبادة وتطهير عرقي بكل وحشية وإجرام، وخلفت هذه الحرب آثار سيئة ومدمرة على الجميع وفي جميع مجالات الحياة.

وأكدت أنه لا بد من العمل وتضافر جميع الجهود من جميع المؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني للعمل وكافة الشرائح الثقافية في الوطن على إعادة بناء الذات الإنسانية وتحقيقها لجميع من عايش العدوان على غزة، وإعادة الروح للروح وعودة الشعور بالأمن والأمان والسلام النفسي لـ"نحمي مجتمعنا من مخلفات العدوان النفسية الجسيمة، وليكون قادرا على ممارسة حياته وبشكل إنساني وطبيعي وتوفير جميع احتياجات الفرد الفسيولوجية والاجتماعية التي لها تأثير مباشر في تحقيق وتقدير الذات لدى الفرد".

وأضافت عساف "قبل أن نتطرق للشق الثقافي والمساحات الأدبية يجب أن نعترف أننا أمام وقائع تقول إن الواقع في غزة بحاجة لوجود عيادات للعلاج الأسري في كافة أنحاء القطاع تقدم خدمات الدعم النفسي والمجتمعي وتركز على احتياجات الفرد السلوكية والمعرفية والروحانية لتعيد التوازن ما بين العقل والجسد وتستهدف الجميع للمساهمة بحماية الشعب من التدهور النفسي الحاد في حال تم إهمال الموضوع وعدم متابعته بشكل علمي صحيح. من أجل إعادة البسمة للوجوه، وعودة الأمل للنفوس والشعور بالأمن والأمان من أجل تعزيز صمودهم ودعم الجميع دون استثناء".
 

التعليقات