شرّدتهم الحرب... والتقوا أمام مركز لإيواء الهاربين

منذ عام ونصف لم يلتق جمعة القاسم ابنته رشا، عام ونصف كانت كافية ليجثو على ركبتيه وينفجر بالبكاء حين رآها لأوّل مرّة، أمام مركز جبرين لإيواء الهاربين من شرق حلب

شرّدتهم الحرب... والتقوا أمام مركز لإيواء الهاربين

منذ عام ونصف لم يلتق جمعة القاسم ابنته رشا، عام ونصف كانت كافية ليجثو على ركبتيه وينفجر بالبكاء حين رآها لأوّل مرّة، أمام مركز جبرين لإيواء الهاربين من شرق حلب، وهي برفقة طفليها الصغيرين. كانت الأمور بهذه البساطة، حيث نهض جمعة القاسم ليحدّق بابنته ويقبّلها ويحضنها بيده اليمنى، بينما يحمل في اليُسرى ابنها عبد الرازق البالغ من العمر ثمانية أشهر.

كانت ابنته قد فرّت مع الآلاف الذين فرّوا بعد تقدّم جيش النظام في الأحياء الشرقيّة من حلب، بعد هجوم استمرّ لأكثر من أسبوعين. نزع القاسم معطفه الأسود الطويل ليغطّي كتفي ابنته المبللة من المطر، بعد اضطرارها لقطع مئات الأمتار من حيّ كرم ميسر في شرق حلب، باتجاه منطقة النقارين الواقعة تحت سيطرة النظام.

من امام المركز الواقع في قرية جبرين، يقول القاسم "كنت أظنّ أنّني لن أراها مرّة أخرى، بعد أن أصبحت المسافة بيننا طويلة، كنت أحلم برؤية وجهها ولو للحظات قبل وفاتي، وها هو حلمي قد تحقّق".

تنهمر دموع القاسم كما ينهمر المطر فوقهما امام المركز. وبدون أن يخفي دموعه، يُساعد ابنته في الصعود إلى الحافلة التي ستقلّهم إلى منطقة الشيخ نجّار الصناعيّة شمال شرق حلب، حيث تنتظرهم والدة رشا في غرفة صغيرة يقطنونها سويّة، بجانب أحد معامل الحديد المهجورة.

وتتصل الوالدة بزوجها عدّة مرّات، للاطمئنان على رشا قبل وصول الحافلة إلى الشيخ نجار، وتطلب من السائق الإسراع "بأقصى ما يمكن"، لاستعجالها لمعانقة ابنتها بعد غياب.

- "هل تشعرين بالبرد؟" -

تصل الابنة أخيرًا إلى باب المعمل، وتندفع نحو أمها مريم شحادة التي تنتظرها عند الباب، تعانقها بقوة وتغرق المرأتان بالبكاء لدقائق من دون أن تنطق أي منهما بكلمة.

وتزيح الأم النقاب الذي يغطى وجه ابنتها، وتتحسّس وجهها بأطراف أصابعها، وتقول باللهجة المحكية "بردانة يوم؟".

في الغرفة المتواضعة، لا تشبع مريم التي حملت حفيدها الصغير عبد الرزاق بين ذراعيها، من النظر الى ابنتها الجالسة الى جانبها قرب مدفأة على الحطب.

وتقول لوكالة فرانس برس "لم أملك طيلة الفترة الماضية أي وسيلة تواصل مع ابنتي سوى الهاتف. كنتُ أسمع صوتها، لكن الطريق بيننا مقطوع. ذابت عيوني من البكاء كي ألقاها، لا أنا أتمكن من الذهاب إليها، ولا هي تتمكن من العودة إلينا".

وتضيف "كانت تبكي وتشكو: لا طعام، لا خبز، ونحن عاجزون عن مساعدتها".

وتمسح الوالدة التي تغطي رأسها بمنديل صغير، بشالها الأسود دموعها، تمعن النظر في أصابع يدي حفيدها، تضع ماء على الموقدة لتتمكن العائلة القادمة من جحيم الحرب من الاستحمام. وتقول "هي المرة الأولى التي أرى فيها حفيدي، لقد حرمتُ منه هو الآخر. لن أفارقهم بعد اليوم، سأعوض ابنتي وحفيدي عن كل لحظات الغياب".

ويشعلُ جمعة سيجارته متنهدًا، ثم يقول "الحمد لله، الآن يمكنني أن أموت مرتاحًا، فقد أوصلتُ ابنتي إلى برّ الأمان".

لم تخلع رشا (17 عامًا) والتي غطت وجهها بنقاب أسود، معطفها المبلل. تطلب من والدتها حليبا لطفلها الآخر إليان الذي كان يصرخ باكيًا، قبل ان يبدأ بشرب الحليب من زجاجة الرضاعة وهو ينظر الى جدته تلقي الحطب في الموقدة المتوهجة.

وتروي رشا ان زوجها قتل بصاروخ سقط على منزلهما في شرق حلب، بينما كانت هي عند احدى قريباتها.

وتقول "بقيت وحيدة مع طفليّ، فقررتُ الخروج والذهاب إلى بيت والدي منذ فترة طويلة".

وتضيف "حاولتُ الهروب لكنهم لم يسمحوا لي (في اشارة الى مقاتلي المعارضة). اليوم رأيتُ جميع جيراني يخرجون من منازلهم، وخرجتُ معهم الساعة الثالثة ليلاً".

- قصص أخرى -

تلقي رشا رأسها عل كتف أمها، وتعانقها مجددًا، ويتجدد البكاء في الغرفة المظلمة التي تدخلها أشعة الشمس بصعوبة. وتقول "لا زالت خالتي عالقة هناك، وكذلك الكثيرون. قصتنا ليست الوحيدة، هناك آلاف المدنيين ينتظرون الفرصة للقاء ذويهم وأحبّائهم".

وفي كلام يختصر المأساة، يقول جمعة "ابنتي التي كانت في حلب الشرقية رأيناها اليوم اخيرًا الحمد لله بعد سنة ونصف.

اقرأ/ي أيضًا | الجثث منتشرة في كل مكان بشوارع شرق حلب

ابنتي الثانية في الرقة لم نرها منذ ثلاث سنوات. ابنتي في تركيا لم نرها منذ سنتين. الحرب شردتنا وفرقتنا عن بعضنا".

 

التعليقات