06/10/2009 - 19:00

الخيانة الوطنية....! / أيمن اللبدي*

الخيانة الوطنية....! / أيمن اللبدي*
ندرك أن التوصيف الصحيح لما أقدم عليه محمود عباس في فضيحة «غولدستون» ليس أقل من الخيانة العظمى في كل القواميس الوطنية والأخلاقية والسياسية، والفعل الصحيح للتعامل مع هذه الفضيحة ذو شقين، الأول: إجراءات فعلية للمحاكمة والعقوبة لمن شارك في هذه الجريمة، وعلاج الخلل الذي استشرى في حلقة التعاطي القيادي الفلسطيني برمته بالتغيير الجذري، والشق الثاني: الشروع فوراً في استدراك هذه الخطيئة التاريخية، والجريمة العظمى بإعادة الطلب الفوري لعقد جلسة طارئة لمجلس حقوق الإنسان لإدراج هذا التقرير من جديد للتصويت في أقرب وقت ممكن.

مسألة التحقيق المطلوبة الآن يجب أن تنحصر في مهمة واسعة ووطنية أيضاً، وهذا شيء طبيعي وصائب، لكن ليس في معرفة من هو المسؤول كما تحاول حلقة مرتكبي هذه الخطيئة الدفع بالغبار الكثيف لتحويلها نحو هذا المعلوم في عناصر الجريمة، بل يجب أن تكمن في ملابسات وأسباب اتخاذ القرار بالمشاركة في هذه الجريمة، الأسباب الحقيقية التي دفعت بمحمود عباس وطاقم العصابة السياسية من حوله من قراصنة القرار الوطني، في أن تسوّل لهم أنفسهم مدخل هذه الجريمة الوطنية بكل الخفة والنزق الذي اعتادوا عليه في التعاطي مع القضايا الوطنية والمصيرية منذ فترة ليست بالقليلة.

من حقنا أن نعلم ما هي الأسباب التي دفعت محمود عباس فعلاً لهذا القرار الغاشم ؟، هل حقاً كانت هذه الجريمة مطلوبة الثمن، للتغطية على حقائق الجريمة الأكبر في العدوان على غزة، ومساحات المشاركة فيها من هذه العصابة ذاتها؟ ما هي الأدوار الفعلية التي اضطلعت بها طغمة رام الله في جريمة الحرب على غزة؟ وما هي مقادير الأضرار التي نشأت عن هذه الأدوار؟ وكم هو حجم الدم الفلسطيني البريء الذي غدرته هذه الأدوار ؟ أم هل هي أسباب تتعلق بالفساد المالي والسياسي، «البزنس» وصفقاته مع العدو وأركان الاحتلال الصهيوني؟ أم هي أسباب تتعلق بحصة في الدور المفترض، لفرض الحل الصهيوني في شطب القضية الفلسطينية؟ ما هي قائمة العار الشاملة في هذه القضية وما سبقها من قضايا ممااثلة الخطورة مثل قضية وثيقة القدومي؟ وقضية بناء الجدار العنصري؟ وقضايا سرقة أموال الشعب الفلسطيني؟

المحاكمة المطلوبة اليوم ليست محاكمة شكلانية من خارج الإطار السياسي، بل هي محاكمة وطنية وشعبية وقانونية، ذات أبعاد وطنية وقومية وإسلامية، فالمسألة في ولاية الدم لم تنعقد يوماً لا لمفرّط ولا لمستهتر، والدم الفلسطيني الذي ينوب عن هذه الأمة بأكملها اليوم في الدفاع عن الحق العربي والحق الإسلامي على الأرض الفلسطينية، وفي ساحات المقدسات الإسلامية والمسيحية، هو دم منتدب لمعركة الأمة، وليس دمَ قاصٍ عنها أو لمنفعة شاردة، وعليه فإن مسألة استعمال صيغ الهروب من الواجب العقدي والشرعي والقومي، من نمط «فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين»، واستخدامها هذا الاستخدام المشين في تبرير التقاعس، لا يقع إلا في طائلة « من يسلم المسلم» بمدلول الحديث الشريف، وطائلة توصيف «التولي يوم الزحف»، ولا شيء أقل.

لا يجوز أن نتحدث عن إصلاح خلل وتدارك للمصائب دون أن نعرف ما هي موّلدات هذه الخطايا الحقيقية!. صحيح أن عناصر الجريمة تبدأ بالجريمة والمرتكبين، لكنها يجب أيضا أن تقف على الدوافع والظروف، وأن تستخلص العبر لتحقيق بعض العلاج الوقائي مما هو أخطر منها إن لم يؤخذ ذلك بعين الاعتبار، والذهاب إلى مجرّد علاج الخطر الآني ممثلاً في خطوة عزل المتهمين المباشرين ومحاكمتهم وإيقاع العقوبات عليهم، ومحاولة استعادة حق الضحايا والمظلومين من خلال الدفع بكل قوة لاستدراك هذه الخطيئة بطرح الملف من جديد في أقصر وقت ممكن، هذا سيكون علاجاً لواقعة منفردة، لكن المطلوب الحقيقي هو العلاج الشامل التام بما فيه الشق الوقائي.

ثمة حقيقتان لا بد من الإطلالة عليهما بكثير من التبصّر والعدالة، وهما مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً بمسألة شق إصلاح الخلل في حلقة التعاطي القيادي الفلسطيني درءاً لمفسدة أكبر قد تنبجس في أية لحظة. أما الحقيقة الأولى فهي تمس ما درج الإعلام على تسميته بالمصالحة الوطنية، وأما الثانية فما درج أيضا على تسميته بالحالة الفتحوية، وفي كلتي هاتيك الحقيقتين كلام كثير وهام، نرجو أن لا يغفل عنه الحريصون، وأن لا يتم استخدامه تحت بنود المناورات السياسية الداخلية، وعين قصيرة النظر على فائدة صغيرة ممكنة في مثل هذا الاستخدام، تصبح كليلة عن خطر عظيم سيأكل الأخضر واليابس جرآء هذه الطفولة السياسية، والمراهقة الوطنية، ولأنها كذلك يجب أن تكون هذه جميعاً موضع المصارحة التامة، والحقيقة الباردة التي لا ظلال ملّونة لها.

الحقيقة الأولى في شأن ما يعرف بـ «المصالحة الوطنية»، تبدأ من هذا المصطلح الذي ثبت اليوم أنه ما عاد يصلح إطلاقا للاستخدام، وأن الحقيقة في هذا المصطلح أنه «مصالحة سلطوية» بحت، حيث أن المصالحة التي يجري الحديث عنها هذه الأيام، مصالحة بين شقي السلطة نفسها والتي يحتل جزء منها في مقاطعة رام الله، من هو مغتصب صفة فتحاوية تم تزويرها مؤخرا في المؤتمر المشئوم في بيت لحم، وجزء آخر منها في قطاع غزة المحاصر، تشغله حركة حماس منذ قرارها الدفاع عن خيارها بالسلطة على حساب دورها المقاوم، بغض النظر عن مساحة وحجم هذا الدور الذي جرى صرفه من حساب المقاومة في حماس لحساب السلطة والحكومة في تجربتها، وأن عملية إجراء ترميم شقي السلطة التي يتم التحضير لها إن تمت هي عملية محلية في نطاق ضيّق، إنما يلزم مشروع إداري محض، وهو هام لجهة رفع الحواجز الوهمية عن فصل الشق الولاياتي التعسفي بين الضفة وغزة، والذي نتج عن صراع هذين الشقين في السلطة، وأن الملف السياسي الفلسطيني بكامله هو ملك اللقاء الوطني الفلسطيني الجامع، وهو بالقطع ولا يجب أن يكون رهنا لمواعيد هذه العملية الترميمية.

أما المسألة الوطنية الحقيقية، فهي ليست بالقطع تحت بند هذا المصطلح، وإنما هي كما نرى تحت بند «المصارحة الوطنية»، والوصول إلى صيغة لقاء وطني حقيقي بين كافة الفصائل وقوى الشعب العربي الفلسطيني، أولا لتقييم كل ما جرى منذ العام 1988 وإعلان الاستقلال في الجزائر مروراً بتجربة أوسلو وحتى الآن، وفي استخلاص برنامج كفاحي وطني فلسطيني حقيقي يعيد صياغة الأجوبة الاستراتيجية، وينتخب قيادة وطنية جامعة كفء ومخلصة، كل ذلك تحت خيمة منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها الأصيل، ويطلق دليل عمل شامل لاستنهاض وتحشييد طاقات الشعب العربي الفلسطيني، ومعه الأمة العربية والإسلامية في مواجهة التحديات المصيرية التي تعتري القضية الوطنية الفلسطينية، ومستقبل الأمة العربية معها، ومثل هذه المصارحة لا يمكن لها أن تتم دون جلسة شاملة للمجلس الوطني الفلسطيني تحضرها كل القوى والفصائل والشخصيات الوطنية، وذلك في إطار مؤتمر وطني فلسطيني تأسيسي لهذه المرحلة القادمة.

أما الحقيقة الثانية في شأن الحالة الفتحاوية، فإن الفصائل والقوى المختلفة التي تقبل أو قبلت التعامل مع هذه الحالة التي جرى تزويرها على هذا النحو، وترضى أن تكون شريكة في تمرير هذا الزور وهذا التدليس الواضح، هي شريك في تمرير حالة التقسيم الظاهري غير الحقيقي، والاستقطاب الشكلاني غير الصحيح في الجوهر، بين حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» وبينها، والاختلاف في طريقة استغلال هذا العامل لفائدة حسابات المناورات الفصائلية السياسية، فبينما يقوم ما تبقى من مصطلح اليسار باستخدام ذلك لفائدة الموازنات المالية التي تستتبع قبولها بهذا الأمر الواقع من المشروط الأوروبي الذي يصل السلطة الفلسطينية في رام الله، وهي بذلك تخضع لشروط المانح التي يستخدمها سلام فياض ومحمود عباس الاستخدام الأمثل حتى آخر بنس فيها، تقوم حركة حماس – جزء من قيادتها- باستخدام هذا الواقع الظلامي على أساس إدامة مستوى الاستقطاب السياسي وعين على انتخابات السلطة المقبلة، وعين أخرى على أجندة أيديولوجيا مشروعة لما بعد التحرير، وقصيرة النظر إن تقدمت في غير ذلك.

إن العامل المثير للاستغراب اليوم والاستهجان الشديد، كيف تريد هذه القوى عن اليمين وعن الشمال من المتابع الفلسطيني والعربي، أن يثق بما تطرح من حرصها على الحقيقة الوطنية والصوابية فيها، بينما هي تسكت عن الضلال البيّن والغش المفضوح، كان موقف جميع هذه القوى سيكون مفهوماً في الحياد الذي أطريناه قبل عملية التزوير التي حدثت في مؤتمر بيت لحم ورام الله، أما اليوم فإن التعامل بغير ما تمليه المسؤولية الوطنية والأخلاقية مع هذا العامل على ذات المنوال هو تعامل مشبوه الهدف، صحيح أن الجسم الذي فرض نفسه على أنه المتحدث اليوم باسم حركة «فتح» عقب مؤتمر التزوير في بيت لحم، ومؤتمر التكريس لهذا التزوير في رام الله هو الأمر الواقع، ولكن أليس من المنطق وفرض النزاهة الوطنية والأخلاقية التعامل مع الحركة الفتحوية الحقيقية حيث كوادرها وأبناؤها ومؤسسوها في موقع آخر؟ لماذا يكون هناك عند البعض من الأخوة في قيادة حماس حرص على ربط «افتح» بموقف قراصنتها؟ على الأقل ننتظر من الناس أن تقول الحقيقة، «فتح السلطة» و «فتح الثورة»، وفي حين أن الأولى هي شريك السلطة مع حماس التي تتم عملية محاولة ترميمها، فإن الأخيرة كما ثبت للداني والقاصي لم تكن أصلا لا في وارد السلطة ولا في وارد الصراع عليها، فضلاً عن أنها نأت بنفسها عن أحداث القطاع المأساوية في حزيران الشؤم، وقاتلت إلى جانب كل الفصائل الوطنية والإسلامية في معركة صد العدوان على غزة، صحيح أنها كانت بالأمس ذات موقف ملتبس مع وضعها العام حيث الفرز الواضح لم يكن قد تأتى بعد، وكان على موعد مؤتمر حركي شرعي، إلا أنه اليوم ما عاد كذلك إطلاقاً.

الذين يودون أن يتغاضوا عن جملة هذه الحقائق، وأن يتعاملوا مع هذه القضية بالذات أو القضايا السابقة أو حتى اللاحقة لها، بإغفال هذه الحقائق، يعملون في الواقع على هدف من المنطقي لنا أن نستنتجه على أساس شطب «فتح» الحقيقية نفسها بعامة، ولا شك أن ربطها من البعض – نقول البعض- بمثال هذه الخطيئة وهذا الملف هو خطوة في اتجاه تخوين «فتح» وتصفية حسابات قصيرة النظر مع مرتكز الوطنية الفلسطينية من حيث صوابية المرتكز والمرجع الوطني في التجربة بغض النظر عن التسميات، ففي نهاية الأمر ثمة حاجة لا يمكن إغفالها لجسم قوة سياسية وطنية عامة داخل الساحة الفلسطينية دون مرتكز أيديولوجي، سواء أكانت «فتح » أم وارث لمكان يراد إقصاؤها منه، وما دامت كذلك فلم التضحية اليوم من أجل إنشاء قد يكون مكلفاً وطويل الصيرورة بدلاً من كلفة ترميم في القائم بدعم ومؤآزرة!

إن «فتح الثورة» لا زالت على عهدها مع شعبها وربها، وهي شريك وطني كامل في معركة التحرير، وشريك فعلي في مرحلة التأسيس القادم لقيادة فلسطينية حقيقية وفاعلة، وهي وارثة العهد والجماهير والطريق، وهي في صلح مع نفسها ومع باقي فصائل شعبها الوطنية والإسلامية، وهي كذلك تحتاج من الجميع أن يقف إلى جانب صوابية رؤيتها والقيمة الحقيقية فيه، لأنها ضمانة وطنية، ولأنها مستقبل وطني.



* نائب رئيس تحرير صحيفة «الحقائق»

التعليقات