31/10/2010 - 11:02

الالتفاف على التسوية وتغيير قواعد اللعبة/ محمود عوض

-

الالتفاف على التسوية وتغيير قواعد اللعبة/ محمود عوض
كثيرون أصابهم الإحباط مما جرى في مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة العنصرية بعد انعقاده في جنيف في سويسرا في العشرين من الشهر الماضي. كثيرون حتى من غير العرب أو المدافعين عن حقوق الإنسان هالهم ذلك الاصطفاف الغربي بقيادة أميركية لمنع الإشارة إلى إسرائيل والشرق الأوسط بعد أن استبقت أميركا المؤتمر - الذي سمي ديربان - 2 - بالإعلان عن مقاطعتها للمؤتمر بحجة أن (ديربان - 1) الذي انعقد في جنوب افريقيا سنة 2001 كان قد صدرت عنه ست فقرات تدين السلوك العنصري الإسرائيلي. هذا النجاح الأميركي الغربي في منع إدانة إسرائيل ولو بمجرد إشارة عابرة عنها في الوثيقة الختامية جعل وزير خارجية فرنسا يعلق مُنْتَشِياً بقوله: "إن مؤتمر ديربان - 1 كان قد تضمن سيلاً من التصريحات العنصرية بينما خرج ديربان ـ 2 بنص يتضمن كل ما أرادته الدول الغربية حتى إن لم يكن ممتازاً"!

مع ذلك لم تكن تلك النتيجة مفاجئة تماماً على ضوء الاحتشاد الأميركي - الإسرائيلي استباقاً لمؤتمر جنيف، بل وحتى تعبئة المنظمات الصهيونية لأنصارها سعياً لما جرى. في المقابل لم نشهد أي تحضير عربي حقيقي للمؤتمر. وحتى وفد السلطة الفلسطينية في المؤتمر جرى "تجنيده" لمسايرة الاعتراضات الإسرائيلية - الأميركية بغير أن يسجل أي اعتراض ولو شفوياً.

هذا بدوره يمثل نذيراً سيئاً لما يقال إنه سياسة نشطة تبشر بها الإدارة الأميركية في التوجه نحو تسوية فلسطينية - إسرائيلية. الرئيس باراك أوباما أعلن مناصرته لتسوية تقوم على مبدأ الدولتين - فلسطينية وإسرائيلية - وبادر منذ ساعاته الأولى في السلطة الى تسمية جورج ميتشل كمبعوث رئاسي للعمل في هذا الاتجاه. وفي آخر زياراته للمنطقة اعتبر ميتشل أن السلام في المنطقة يمثل "مصلحة قومية أميركية". والملك الأردني عبدالله الثاني كان أول رئيس عربي يستقبله أوباما في البيت الأبيض ليخرج بعدها مصرحاً بأنه "لن نتوصل إلى سلام إلا إذا كانت هناك مظلة أميركية ورئيس أميركي مصمم على جمع الإسرائيليين والفلسطينيين على طاولة الحوار" وبأنه "إذا لم نتمكن من دفع مسيرة السلام إلى الأمام خلال الأشهر الـ18 المقبلة سيبدأ صراع جديد بين إسرائيل وطرف آخر في المنطقة". وفي الأسابيع القليلة المقبلة سيستقبل الرئيس الأميركي على حدة كلاً من رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس والرئيس المصري حسني مبارك.

رئيس الحكومة الإسرائيلية، وهي الأكثر يمينية وتطرفاً، بادر بإعلان رفضه حل الدولتين وبأن الأولوية عنده هي "السلام الاقتصادي" مع الفلسطينيين كبديل عن تسوية سياسية. كما دعا وزير خارجيته أفيغدور ليبرمان بشكل صريح إلى التخلص من فلسطينيي 1948 و "الإبقاء على من لديهم ولاء لدولة إسرائيل"... كما أنه لا يعتبر المستوطنات الإسرائيلية عقبة في طريق السلام. أما آخر الحيل التي طرحها فهي إعطاء الأسبقية للعمل مع أميركا ضد إيران كبديل عن التسوية مع الفلسطينيين.

التحايل على القضية الجوهرية بالالتفاف عليها أو القفز فوقها هو ما سلكته الإدارة الأميركية السابقة. فحينما أعلن الرئيس جورج بوش في 2002 عن تأييده لقيام دولة فلسطينية تتعايش مع دولة إسرائيل جرى التبشير بأن هذا تحول جذري في السياسة الأميركية. وفي حينها جرى إمطار العواصم العربية بمبعوثين أميركيين رسميين وغير رسميين ليكرروا نغمة واحدة: هذه أول مرة يتحدث فيها رئيس أميركي عن دولة فلسطينية، وعليكم يا عرب أن تبادروا بمكافأتنا عمليّاً بالانضمام إلى الحرب الأميركية الجديدة ضد الإرهاب... بغزو أفغانستان وتالياً باحتلال العراق.

وطوال السنوات السبع الماضية اكتفت السياسة الأميركية بترديد شعار «حل الدولتين» بينما ضاعفت إدارة جورج بوش من دعمها للسياسات الإسرائيلية التي تنسف هذا الحل على أرض الواقع. أقامت إسرائيل جدارها العنصري في الضفة الغربية ليلتهم الأرض وضاعفت من مستوطناتها لالتهام المزيد من الأرض وأعادت احتلال الأجزاء المحدودة في الضفة الغربية التي كانت قد أعادت الانتشار فيها حسب اتفاق أوسلو وتوابعه. وبعد أن حصلت من ياسر عرفات وسلطته الكرتونية على كل الشروط التي فرضتها انتهى الأمر بمحاصرته هو نفسه وتسليط الفلسطينيين على بعضهم البعض كسباً لرضاها عنهم أمنياً. وحينما ألحت مع أميركا واللجنة الرباعية على إجراء الانتخابات وجاءت بالنتيجة حكومة «حماس» رفضتها إسرائيل وأميركا معاً. وأصبحت الحجة الأميركية الجديدة هي أن على «حماس» أولاً الاعتراف بإسرائيل وبالاتفاقات القائمة ونبذ العنف. لكن هذا هو ما فعله عرفات وجماعته وبعده عباس وجماعته من دون أن تتحرك إسرائيل متراً واحداً نحو الوفاء بالتزاماتها.

والآن يدور الحديث عن تحرك استباقي تقوم به الإدارة الأميركية داخل الكونغرس تحسباً لخلافات محتملة مع نتانياهو وحكومته. وبصرف النظر عن جدية ذلك فإن الأولوية الحاكمة في أي سياسة أميركية جادة تكون بتصحيح التآكل المنهجي لمواقف سابقة كانت أميركا تعلنها وتلتزم بها منذ سنة 1967. فالمبدأ الحاكم لقرار مجلس الأمن 242 في تشرين الثاني (نوفمبر) 1967 وبموافقة إجماعية تتضمن أميركا هو عدم جواز احتلال الأراضي بالقوة بما يعني أن التزام إسرائيل الأساسي هو الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967. أميركا لم تعد تؤكد ذلك. وبعد أن كانت تعتبر المستوطنات الإسرائيلية غير مشروعة تعدل الموقف في إدارة رونالد ريغان إلى اعتبارها عقبة في طريق السلام. ومنذ تموز (يوليو) 2004 منح الرئيس جورج بوش لإسرائيل أول تعهد رسمي أميركي بقبول احتفاظ إسرائيل بالكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية والقدس ضمن أي تسوية.

كان نجاح إسرائيل الأكبر منذ اتفاق أوسلو في 1993، وبدعم أميركي كامل، هو التغيير المستمر في قواعد اللعبة. جرى القفز على السؤال الأساسي: هل تنسحب إسرائيل - أو لا تنسحب - إلى حدود 4/6/1967؟ تحولت القضية الجوهرية إلى شظايا والأرض إلى كانتونات والحكم الذاتي الإداري المحلي أصبح يسمى سلطة وطنية فلسطينية ووجهاء تلك السلطة تربطهم علاقات منفعة عضوية مع الاحتلال، وحتى من دون ذلك أصبحت السلطة تعني شيئاً في الضفة الغربية وشيئا آخر مختلفاً في قطاع غزة وتحولت المواجهة مع الاحتلال إلى مواجهة بين الفلسطينيين فيما تشهد السوابق التاريخية بأنها مقبرة نهائية لأي حركة للتحرر الوطني.

في السياق ذاته استدارت إسرائيل لتدمير كل مشروع تعميري سمحت به سابقاً، وموقتاً، قبل اكتماله. واستمر الفيلم الدامي يتكرر مرة بعد مرة. إسرائيل تسمح... ثم تدمر ما سمحت به... لينعقد مؤتمر دولي لجمع التبرعات لإعادة تعمير ما جرى تدميره قبل أن تدمره إسرائيل من جديد من دون أي اعتراض أميركي في أي مرة. بل إن الاتفاقية الأمنية التي أبرمتها إدارة جورج بوش مع إسرائيل قبل رحيلها بثلاثة أيام ضاعفت من وظيفة إسرائيل الأمنية باتساع المنطقة وفتحت شهيتها أكثر وأكثر لتعيد تغيير قواعد اللعبة من جديد. الآن تتحدث الحكومة الإسرائيلية الجديدة عن شرط إضافي هو الاعتراف الفلسطيني المسبق بيهودية إسرائيل... وأيضاً اشتراط تسوية المسألة الإيرانية أولاً قبل أي تحرك على المسار الفلسطيني. بالطبع إسرائيل تعرف أن الشرط الأخير هو على هوى الإدارة الأميركية الجديدة التي تسعى لتعبئة اصطفاف عربي ضد إيران لكن تلك مسألة أخرى.

أما الأكثر إثارة للدهشة فهو حال التكيف العربية خلال السنوات الأخيرة مع إسرائيل المتضخمة هذه. وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك أعلن حديثاً أن المناورات المشتركة التي قررتها تركيا وسورية مثيرة للقلق، مع أنها مجرد مناورات بين حرس الحدود للدولتين. في المقابل لم يعترض طرف عربي واحد على مضاعفة إسرائيل لبرامجها التسليحية لإدخال أجيال جديدة من الطائرات والصواريخ. وإسرائيل تنتهك الأجواء اللبنانية يوميّاً وانتهكت الحدود المصرية مع قطاع غزة في حربها الأخيرة، وشنت غاراتها التدميرية في شمال شرقي السودان بلا أي احتجاج في أي مرة أو حتى شكوى لمجلس الأمن. وبمجلس الأمن هنا أعني الدول الأعضاء فيه وليس موظفيها الممثلين لها في نيويورك كما لجأت إليهم وفود عربية عالية المستوى في انخفاض غير مسبوق لمستوى العمل العربي.

يجري هذا بينما تقطع إسرائيل الدعم الدولي عن العرب من منبعه، فهي تتعامل مع رؤساء الحكومات في روسيا والصين والهند مثلاً بينما يتوجه العرب بالمناشدات إلى سفرائهم لدى الأمم المتحدة في نيويورك. فإذا لم نقم نحن بواجباتنا المنزلية أولاً لن يقوم بها عنا هذا الرئيس الأميركي... أو أي رئيس آخر.

* كاتب مصري


"الحياة"

التعليقات