31/10/2010 - 11:02

العدل النسبيّ: العلاقة المجهولة بين الكلاسين الملونة والقانون الدوليّ../ حسين أبو حسين

-

العدل النسبيّ: العلاقة المجهولة بين الكلاسين الملونة والقانون الدوليّ../ حسين أبو حسين
فقدت الحركة الوطنية الفلسطينية في مناطق فلسطين 48، الشخصية الوطنية المحامي رياض أنيس، الذي نشط في العمل السياسي والأهلي والدفاع عن أسرى ومعتقلي الحرية والرأي، ولذكراه الطيبة نسوق مشهداً مميزاً وساخراً من القامعين وجهلهم:

كان ذلك في آب 1988، حيث كان الصيف ملتهبًا والطقس صحراويًا في السّجن العسكريّ الجديد، „أنصار 3” (كتسيعوت)، الذي أقيم في قلب الصحراء مقابل الحدود المصرية، والذي أُعِدّ لحبس آلاف المعتقلين الفلسطينيين إعتقالاً إداريًا بعد اندلاع الانتفاضة الأولى في العام 1987. كانت تلك أيامًا شديدة، وكان المحتلّ „المتنوّر” في أوج تجلياته الإبداعية حين أقام سجنًا عسكريًا في أتون الصحراء، بعيدًا عن المناطق المحتلة لعام 67، كي يعزل المعتقلين عن بيئتهم الطبيعية ويعرقل وصول المحامين الفلسطينيين من تلك المناطق.

وحتى ذلك الوقت، كان اعتقال آلاف المعتقلين الإداريين يجري بحضور طرف واحد، ومنذ لحظة توقيع قائد عسكري على الأوامر الإدارية، تتعامل المنظومة القضائية مع الموضوع كأمر مُسلّم به. كما أنّ المحامين من المناطق المحتلة لم يأتوْا لزيارة أو تمثيل المعتقلين كخطوة احتجاجية سياسية على الاعتقالات وعلى لجان الرقابة القضائية.

وقد تُنوقِلتْ الشائعات حول فظاعة السّجن الجديد والظروف الصعبة والشديدة التي عاش فيها المعتقلون. وحتى ذلك الوقت، كان ممثلو منظمة „الصليب الأحمر” الوحيدين الذين زاروا المكان والذين أوردوا التقارير حول أكثر السّجون فظاعة، حيث حُشرَ عشرات المعتقلين في كل خيمةٍ، ظروف المعيشة فيها صعبة، وتفتقر لصيانة الصحة العامة المعقولة وللغذاء الطازج.

وقد دعت المؤسسة العربية لحقوق الإنسان في الناصرة، والتي أسّسها المرحوم منصور كردوش، إلى عقد جلسة تشاورية بين أعضاء إدارتها وبين محامين، حيث تقرر في ختام الجلسة تقديم طلب لزيارة سجن „أنصار 3” ومحاولة اشتراط الزيارة بإدخال ملابس إلى السجن. وقد شاركتُ في هذه الجلسة سوية مع المحامي محمد نعامنة والمرحوم المحامي رياض أنيس.

في النهاية، قُدّم الطلب ووافقت إدارة السجن على أن لا نحضر معنا شيئاً باستثناء الملابس الداخلية. وقامت المؤسسة العربية لحقوق الإنسان بجمع تبرعات كبيرة لشراء الملابس الداخلية، حيث اشتملت هذه الملابس على المئات من الملابس الداخلية الملونة.

عند وصولنا إلى السّجن، في ساعات الصباح، طَلبوا منا العودة بعد بضع ساعات لأنّ سلطات السّجن لم توافق على إدخال الملابس، وطلبتْ مهلة زمنية كي تتأكّد من الاتفاقات التي أبرمت مع السلطات العليا. وهكذا توجهنا مرغمين إلى المقصف المحلي، وهناك „تسفعنا” في الشمس لساعات طويلة وعُدنا إلى بوابة السّجن في السّاعة الواحدة، وبدوْنا مثل „جان فلجان”، البطل في رواية „البؤساء” (Les Miseerables) لفيكتور هوغو: عيون مُحمرّة، بشرة ووجوه جافة، وملابس مُشبعة بالرمل الغباري، والتي تأتي للإيهام بجوّ كاذب من الرونق والاحترام- لها وللابسيها.

وكان من دواعي سروري، أننا اقتنينا -رياض وأنا- قبعتيْ „أبله” من السّوق الشعبية في بئر السبع، حمتْ رأسيْنا من حرّ الشمس القائظة، بينما بدت صلعة المحامي نعامنة مثل طنجرة أُنزلت للتوّ عن „البابور”.

قيل لنا عند بوابة السّجن إنّ سلطات السّجن ستسمح لنا بإدخال الملابس الداخلية البيضاء فقط، وإنّه يترتب علينا أن نعيد جميع الملابس الملونة التي كانت غالبيتها حمراء وزرقاء. ولكننا أعلنا بإصرار: إما أن ندخل كل الملابس وإما فلا.

في نهاية المطاف، اتفقنا مع النيابة على أن نطرح ادعاءاتنا أمام القاضي الذي ينظر في الاعتقالات الإدارية ووافقنا.

وقد ابتسم الحظ للكلاسين الرجالية الملونة حين مثلتْ بين يديْ قاضية (جرت ترقيتها فيما بعد إلى الجهاز القضائيّ المدنيّ ومَثلنا –رياض وأنا- أمامَها في ملفات تتعلق بالأضرار المادية وليس بالشؤون الكلسونية). وقد أصرّينا على أن يجري تدوين محضر يعكس النقاش كما يليق بـ „إجراء قضائي نزيه”. وقد تميّز رياض بروح دعابته التهكمية المغمّسة بحكمة القرويّ الذي قضى ليالي وأيامًا مع أصدقاء والده المُسنين في منجرته، وتعلم منهم الدهاء والضّحك والمَجاز الساخر. ورغم إلمامه باللغة العبرية إلمامًا ممتازًا، إلا أنه قام بالتحدث بلغة عبرية ركيكة، وبجمل مبتورة، مُستعينًا في ادعاءاته بكلمات عربية.

وارتأى رياض أن يبدأ ادعاءاته بحقّ الإنسان الطبيعي بلباس داخلي وواجب الدولة المحتلة بتزويد هذه الملابس لمعتقليها. ولم تستوعب القاضية الأمور التي تُطرح وحول ماذا نتحدث، ومن حين لآخر كانت تقلّب عينيها، وكان منظرها يدلّ على تخبطها في ضائقة معرفية ألمّت بها. وقد بلغ العرض المسرحيّ ذروته حين أخرج رياض من حقيبته كلسونًا أحمرَ، وأمسكه بطرفيه وعرضه أمام القاضية وتساءل عن سبب منع إدخال هذا الكلسون إلى السّجن. وبحماسة واندفاع، واصل ادعاءه بأنّ القانون الدولي لا يمنع إدخال الكلاسين الحمراء والزرقاء، ولا يسمح بالتمييز غير المُبرَّر بينها وبين الكلاسين البيضاء.

في هذه اللحظة، أدركت القاضية ما يحدث، فجُنّ جنونها وصرخت: „أنتم لستم في مسرح بئر السبع”. في تلك اللحظة قمنا وطلبنا حقّ الردّ، وألقينا قبعتيْنا على طاولة القاضية المهترئة، التي جلست على منصة مرتفعة، فارتفعت غمامة كبيرة من الغبار في فضاء الغرفة، مما أضاف عنصرًا ديكوريًا على المسرح المرتجل، الذي لم يكن ينقصه أيّ رمز من رموز المسرح البلدي في بئر السبع: قاضٍ، مُدّعٍ عسكريّ، ثلاثة مُحامين، جيش كامل من الكلاسين المُنوّعة التي تنتظر حسمًا في مصائرها ومكيّف هواء أكل الدهر عليه وشرب، شوش صوته على جوّ العدل الصحراويّ.

فيما بعد حاولنا أن نقنعها بأنّ ما يحدث هو مسرح عبثي حقاً، حيث أنّ الجيش عمل برأيٍ لاغٍ ٍ وغير متوازن حين ميّز بين ألوان الكلاسين، من دون تسويغ معقول ومُبرَّر. كانت ضائقة القاضية عميقة، وأشاح الحظّ بوجهه عنها، حيث كان عليها هي بالذات، القاضية „المتنورة”، أن تلغي لباسًا داخليًا ملونًا ومُزركشاً من الممكن أن يثير الفرح في ساعة ليل متأخرة في نفس معتقل بعيد عن زوجته منذ عدة أشهر. بعد طرح ادعاءاتنا „المتوقدة”، المدعومة بنصوص „القانون الدولي الإنساني” وخلافاً لرغبتها، أقنعت القاضيةُ ممثلي الادّعاء -وبشكل استثنائيّ- بالرجوع إلى السّلطات وإقناعها بالموافقة على تسيير المساواة بين الكلاسين والحُكم بالحُسنى- وهذا ما كان.

هذه هي شخصية رياض أنيس، هو من حمل النقد القاسي والثاقب على جهاز العدل والقضاء الذي اعتبره جهازًا أصم، بلا رحمة، وجزءًا لا يتجزأ من أخطبوط الاحتلال. لقد أتقن السخرية من الجهاز المُشوّه بنفس اللغة، وخاطبه بلغة „نظيفة”؛ وبكلماته الألمعية والجارحة المقتبسة من التراث الشعبي „هيك مزبطة بدها هيك ختم”.

حقاًً، وكما يقول المفكر اللبناني أنسي الحاج „شيءٌ منا يموت بانطفاء الأحباء وشيءٌ يحيا. شيءٌ منا يبكي ذاته وشيءٌ يقول: لو لم يكن في الرحيل رجاء لما تركنا الأحباء”.

التعليقات