31/10/2010 - 11:02

حملة لإقامة محاكم عربية لمجرمي الحرب/ جميل مطر

-

حملة لإقامة محاكم عربية لمجرمي الحرب/ جميل مطر
“القانون الدولي يصبح مدعاة للسخرية إذا لم نطبقه في المستقبل على أنفسنا”، تلك كانت كلمات روبرت جاكسون قاضي المحكمة العليا الأمريكية عندما وافق على تنفيذ التكليف الصادر من قيادة مراكز الحلفاء بتعيينه مدعياً عاماً في محكمة نورمبرج، المحكمة التي حوكم أمامها مجرمو الحرب من النازيين.

قرأت هذه الكلمات وتبادرت إلى ذهني على الفور التطورات في موضوع المحاكم التي أنشئت مؤخراً لمحاكمة الزعماء والقادة السياسيين والعسكريين الذين تورطوا في ارتكاب جرائم حرب خلال فترة وجودهم في السلطة.. وكانت قضية عمر البشير الرئيس السوداني أحد هذه التطورات، غاب عني شخصياً في زحمة الصخب الذي صاحب قضية البشير أن تطورات أخرى تحدث، ولا يهتم الإعلام العربي بها ولم أتابعها أنا نفسي بالاهتمام الذي تستحق.

لم أعرف بالوضوح الكافي أن في إسبانيا وبلجيكا وفرنسا وبريطانيا توجد قواعد قانونية تسمح للمحاكم الوطنية بالبحث عن مجرمي الحرب واقتفاء آثارهم والسعي لإحضارهم ومحاكمتهم. كان في ظني أن ما حدث في عام 1998 عندما دانت إسبانيا بدعم من فرنسا وسويسرا وبلجيكا أوجستو بينوشيه، ديكتاتور شيلي لم يكن سوى حادث منفرد لا سابقة له باستثناء محكمة نورمبرج وقد لا يتكرر مستقبلاً على ضوء المناورات التي وقعت من أجل عدم تعريضه لمحاكمة في أوروبا.. كان الجنرال حقاً مستبداً وعنيفاً وشريراً، واستخدم جميع أساليب التعذيب والإرهاب، ليقضي على خصومه بين قوى اليسار المتطرف والمعتدل والقوى الليبرالية والديمقراطية وكذلك بين الشباب المعارض لتوجهاته اليمينية المتطرفة. كان مغروراً وكان أيضاً عنصري الميول وأداة في يد الغرب وبخاصة الولايات المتحدة. وأظن أن عديد القراء يذكرون المذبحة التي دبرتها وكالة الاستخبارات الأمريكية بالتعاون مع قيادة الجيش الشيلانى، وهي المذبحة التي وقع خلالها اغتيال رئيس الجمهورية المنتخب ديمقراطيا، سلفادور اليندي. وقد كشفت الوثائق والدراسات التي نشرت في مرحلة لاحقة أن الدكتور هنري كيسنجر لم يكن راضياً عن ميول اليندي المناهضة للاحتكارات الأمريكية وأعرب وقتها عن خشيته من أن تأميم مناجم النحاس في شيلي، وكانت العنصر الأساسي في الناتج القومي، تؤدي إلى سلسلة من عمليات تأميم مماثلة في بوليفيا حيث يوجد معظم احتياطي القصدير في العالم وإلى فنزويلا والمكسيك حيث النفط الضروري لاستمرار الحياة في الولايات المتحدة.

لم تتم محاكمة بينوشيه، إذ قامت حكومة بريطانيا بترحيله سراً إلى شيلي بدلاً من الاستجابة إلى طلب إسبانيا ترحيله إليها لتجري محاكمته بها. ولم يغب عن ذهن أحد أن بعض دول أوروبا الغربية وأمريكا طلبت ضمانات كافية من حكومة سنتياجو أنها لن ترحل بينوشيه إلى إسبانيا ولن تجري له محاكمة حقيقية في شيلي. كانت هذه المناورات والجهود دليلاً جديداً على أن قوانين جرائم الحرب تطبق على الغير ولا تطبق على المشتبه في ارتكابهم جرائم حرب من مواطني الولايات المتحدة وبريطانيا، ولا تطبق على أي زعيم من قادة الدول الغربية بشكل عام. لم يغب أيضاً عن ذهن الجميع أن بريطانيا وأمريكا كانتا واثقتين من أن محاكمة من هذا النوع لن تتوقف عند إدانة بينوشيه، بل ستتعداه إلى قادة الولايات المتحدة وبريطانيا الذين قدموا له الدعم والتأييد والمشورة في التعذيب وترهيب المواطنين. أذكر تعليقات كثيرة نشرت حول هذا الأمر فور الإعلان عن أن جاك سترو وكان وزيراً لخارجية بريطانيا خطط بنفسه ونفذ عملية تهريب بينوشيه من بريطانيا إلى شيلي.

على كل حال لم تذهب المبادرة الإسبانية بمحاكمة بينوشيه هباء ولم تكن مضيعة للوقت. كانت نقطة انطلاق تبعتها عمليات حشد طاقات قطاعات عديدة في المجتمع المدني الغربي، هدفها العمل لضمان أن تنطبق مبادئ القانون الدولي في ما يخص هذا النوع من الجرائم على قادة دول الغرب، مثلهم مثل أقرانهم في الدول الإفريقية والبلقان والدول الآسيوية والعربية. وبالفعل صرنا نسمع الآن أستاذاً كبيراً في القانون مثل جوناثان تيرلي من جامعة جورج واشنطن يقارن وضع الرئيس جورج بوش بالرئيس المخلوع أوجستو بينوشيه، ويقول إن بوش إذا سافر الآن إلى الخارج فلن ينظر إليه الناس أو يتعاملوا معه كرئيس دولة سابق بل كمجرم حرب يجب أن يحاكم، كما أنه لا يخفى أن دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع في ولاية بوش الأولى، الذي كان يصدر الأوامر باعتقال المشتبه فيهم من المتمردين والثوار والمتشددين دينياً وباشر بنفسه عمليات التعذيب في العراق وجوانتانامو، لم يعد يغادر الولايات المتحدة الأمريكية، حيث إنه دين مرتين في ألمانيا بتهمة ارتكاب جرائم حرب وصار من حق ألمانيا أن تطلب ترحيله من أي دولة يمر بها أو يقيم فيها باستثناء دول قليلة منها الولايات المتحدة. ومما يزيد في حرج وضع رامسفيلد التقرير الذي أدلى به مانفريد نوفاك مقرر لجنة الأمم المتحدة المختصة بالتعذيب، وقال فيه “لدينا أدلة واضحة على أن رامسفيلد كان مدركاً لما يفعله ورغم ذلك ظل يصدر أوامر تنفيذ عمليات تعذيب”.

وفي إسبانيا تحقق المحكمة العليا الإسبانية في قضية تتعلق بوزير دفاع “إسرائيلي” سابق وعدد من كبار المسؤولين “الإسرائيليين” لدورهم في قتل مدنيين في غزة، معظمهم من الأطفال، كذلك أعلنت محاكم في فرنسا وشيلي والأرجنتين أنها طلبت استدعاء الدكتور هنري كيسنجر للمثول أمامها في قضية اتهامه بقتل 000.600 مدني في كمبوديا في السنوات بين 1969 و،1973 وما يزيد الأمر سوءاً بالنسبة لسمعة الولايات المتحدة بالنسبة لقضايا التعذيب وتاريخها الأسود في اغتيال سياسيين ونشطاء في دول أجنبية التصريح الغريب الذي أدلى به يوم 8 فبراير/ شباط الماضي جيمس جونز مستشار الرئيس باراك أوباما لشؤون الأمن القومي وقوله حرفياً “أنا أحصل على أوامري اليومية من الدكتور هنري كيسنجر”.

ومنذ فترة قصيرة تشكلت “مؤسسة جرائم حرب تونى بلير” بهدف جلب رئيس الوزراء البريطاني السابق للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وقد أعلنت المؤسسة أنها ملتزمة مبادئ محكمة نورمبرج واتفاق جنيف لعام ،1949 وأغلب الظن أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة توقعا طلب تقديمه للمحاكمة فأسرعا في تعيينه في وظيفته الراهنة، وهي وظيفة غير مفهومة الغرض وغير واضحة المعالم وإن كان بعض المعلقين يعتقد أن الغرض منها تبرير تصرفات الولايات المتحدة و”إسرائيل” المعادية للفلسطينيين، وهو الأمر الذي بات واضحاً خلال مذبحة الأبرياء في غزة وبعدها. تعمدا تعيينه في هذه الوظيفة وأسرعا في إرساله إلى “إسرائيل” لحمايته من طلبات علماً أنها ستقدم لتسليمه لمحاكمة في بروكسل وغيرها. ويقول مراقبون في “إسرائيل” وخارجها إنهم لاحظوا بالفعل الحذر الشديد الذي يمارس به بلير اتصالاته، والحماية المكثفة التي يحيط نفسه بها، ويضربون المثل على ذلك بإقامته شبه الدائمة في فندق الجالية الأمريكية، وهو أقرب ما يكون إلى قلعة محصنة في مدينة القدس.

هؤلاء الذين امتدت إلى أعناقهم وأجسادهم وأرواحهم أيادي التعذيب وهتك العرض في جوانتانامو أو في قصور التعذيب الأخرى في رومانيا وأفغانستان ودول عربية غير قليلة العدد ومعروف عنها انتهاكها الدائم لحقوق مواطنيها وحرياتهم، ألا يستحقون من منظمات المجتمع المدني العربي وعلى وجه الخصوص المجتمع المدني المصري بعض الوفاء وبعض الجهد لتأهيلهم ليعودوا بشراً يستعيدون كرامتهم التي أهدرها التعذيب والتحقير؟ إلى متى نترك الغربيين يعذبون مواطنينا ويقتادون رؤساءنا وحكامنا والمسؤولين بيننا إلى محاكمهم بتهم ارتكاب جرائم حرب، ولا نجر نحن المشتبه في ارتكابهم هذه الجرائم من بيننا إلى محاكمة ننشئها لهذا الغرض؟ وفي الوقت نفسه نصر على حقنا في أن نطبق على المشتبه فيه في دول الغرب القانون الدولي الذي يطبقونه علينا أو نفرض عليهم أن يطبقوه على أنفسهم. وما أكثر جرائمهم. أقرأ عن محامين مصريين يشاركون الآن في تنفيذ السياسة الخارجية المصرية أي صاروا أداة من أدوات الدبلوماسية المصرية بعد أن نبغوا في أداء دور مماثل في تنفيذ السياسات الأمنية الداخلية، هؤلاء الذين لا يكفون عن رفع قضايا ضد مواطنين ومثقفين لا تعني العدالة في قليل أو كثير صاروا الآن يحركون قضايا ضد أشخاص في الخارج. أجدى بمحامي مصر وقضاتها أن يخصصوا من وقتهم ما يفيد كرامة الإنسان أينما كان ويقيموا الدعاوى ضد مجرمي الحرب في “إسرائيل” ودول أخرى وهم كثيرون والوثائق متوفرة والشهود بعضهم أحياء والضحايا مازالت محفورة في أجسادهم آثار التعذيب والاعتقال.

أقول لهؤلاء وغيرهم إذا كنا غير قادرين، لأسباب موضوعية وحقيقية أو وهمية ومصطنعة، على استخدام العنف لرفع الظلم عن تاريخنا وشبابنا الذي عذب أو نكل به في الخارج أو داخل أراضينا فلنستخدم القانون الدولي، ونقم المحاكم في كل مكان، ونجرجر مجرمي الحرب “الإسرائيليين” والأمريكيين والبريطانيين ومن العرب وكل من ارتكب جريمة حرب في حقنا وحق غيرنا من “شعوب الدرجة الثانية”.

acdfr@yahoo.com

التعليقات