31/10/2010 - 11:02

فاشيّة؟! أين تعليمات الاستعمال؟../ نبيل الصالح

فاشيّة؟! أين تعليمات الاستعمال؟../ نبيل الصالح
في نجاح ليبرمان، وتعاطي الأحزاب اليهوديّة الأخرى معه إيجابيًّا، ما يشير إلى أنّ الفلسطينيّين في الداخل مقبلون على مواجَهةٍ صداميّة مع مؤسّسات الدولة، مواجَهةٍ قد يحتاجون فيها إلى أدوات عمل جماعيّ جديدة، يبلورونها معتمدين على دروس الماضي وتجارب شعوب عاشت ظروفًا مشابهة. يستوجب هذا الوضع الناشئ فكّ المخاطر إلى مركّباتها، بدل تعميمها وتشييئها، وذلك كي نواجهها.

حِيال هذه الضرورة، لا بدّ من الإشارة إلى أنّه إذا كان الهدف من إعادة الاعتبار لمصطلح "الفاشيّة"، في الخطاب السياسي العربيّ داخل إسرائيل، هو لفت الانتباه إلى مخاطرها مع تصاعد قوّة اليمين الإسرائيليّ -كما دلّت على ذلك نتائجُ الانتخابات الأخيرة-، فتلك أداة تعرقل تحقيق الهدف، مَثَلُها في ذلك مَثَلُ مَن يتوسّل أداةَ إيضاح فيزيد الإبهام.

يذكّر التكرار الراهن لمصطلح "الفاشيّة" بحملة الصراخ التي ميّزت العمل الاحتجاجيّ الأساسيّ لمناهضي الاحتلال في ثمانينيّات القرن المنصرم. آنذاك، طفنا أزقّة المدن المختلفة، رافعين الشعار "الفاشيّة لن تمرّ"، ولا ريب أنّ غيرنا، من جيل آخر، قد سبقَنا إلى حمل الشعار نفسه في عقود سبقت. ومهما يكن من أمر، فإنّه لا يجافي الحقيقةَ أن نلخّص تلك التجربة بتقييمها معتبرينها فشلاً، إذ إنّ ما حذّرنا منه طويلاً قد مرَّ حقًّا، ومروره لم يكن من الأزقة القليلة التي ملأناها بالصراخ، وإنّما عَبر الجادات الرئيسيّة في تلك المدن المذكورة آنفًا.

مرّ الخطر الذي أرادوا التحذير منه لأسباب كثيرة، منها إطلاق تسمية خاطئة على مسمًّى لم يكن في الماضي -كما إنّه ليس في الحاضر- مطابقًا للتسمية؛ وفي هذا خطر. ولا أقصد خطر المبالغة في توصيف الواقع، بل خطر التوجّه نحو البحث عن أساليب المواجهة "تحت القنديل المُضاء"، بينما تزداد المخاطر في مواقع أخرى. هكذا الحديث عن الفاشيّة، فعن أي فاشيّة يتحدّثون؟

ليس الهدف من طرح هذا السؤال إنصاف اليهود في إسرائيل، مجتمعًا ونظامًا، بالادّعاء أنّهم ليسوا فاشيّين؛ فهذا آخر ما يهمّني، بل ما أبتغيه هو محاولة شرح الخطر الذي على العرب في إسرائيل أن يستعدّوا لمواجهته بأدوات ناجعة، منها ما هو غير مألوف نحتاج إلى ابتكاره كما تفرض مقتضيات الحالة الناشئة. ولن يكون من الصواب إحالة القارئ إلى أدبيّات الأيديولوجيا الفاشيّة ومناهضيها كي نفهم الفاشيّة حقًّا، ونعرف أنّ استعمالها على نحو عشوائيّ لوصف الحالة الإسرائيليّة الناشئة ليس إلاّ اختزالاً تبسيطيًّا.

يكمن الوجه السلبيّ لاستعمال المصطلح "الفاشيّة، في أمرين أساسيّين: أوّلهما أنّ الحديث عن الفاشيّة -متمثّلاً في تعاظم قوّة ليبرمان وحزبه- يخلق لدى العرب في الداخل وهمًا بوجود شعورٍ عارم في المجتمع اليهوديّ "الليبراليّ المتنوِّر"، إضافة إلى العربيّ في إسرائيل، هو شعور بضرورة مجابهة خطر الفاشيّة التي تهدّد الجميع دون تفرقة. ولكن المجتمع اليهوديّ ليس قلقًا جرّاءَ ازدياد قوّة يمين ليبرمان، بل إنّ اليمين من طراز كاديما، واليمين من طراز الليكود، قد وافقا على كلّ شروط ليبرمان أثناء التفاوض لتركيب الائتلاف الحاكم.

هذا يعني أن غالبيّة أبناء المجتمع الإسرائيليّ لا يرون في حزب ليبرمان خطرًا، بل يرونه قدوة في مجال المثابرة السياسيّة، فها هو المهاجر من مؤخّرة الدنيا (مولدافيا -إبّان الحكم السوفياتيّ) يكاد يعتلي سدّة الحكْم. ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الوضع الجديد لا يختلف عن الوضع الذي كان في العقود السابقة، فحينذاك أيضًا لم يتوجّس المجتمع اليهوديّ من خطر "الفاشيّة"، بل إنّهم لم يفهموا صراخنا. وتوخّيًا للحقيقة أقول إنّهم كانوا على حقّ، فإنّ ما استفحلت فعلاً كانت العنصريّة ضدّ العرب فقط، ولم يَجْرِ ذلك بعيدًا عن عيون وأنوف اليسار الأبيض من طراز "ميرتس".

أمّا الوجه السلبيّ الثاني، وهو أخطر، فيخصّنا نحن العرب في تعاملنا مع الخطر الذي يمثلّه ليبرمان، الذي لا يختلف عن تيارات سياسيّة يهوديّة كثيرة إلاّ في الإتقان، على الرغم ممّا شاع عن المذكور من صفات الغباء والغوغائية. قد يقود الحديث عن عدوّ اسمه "فاشيّة" إلى نمط مواجهة غير ناجع، هو نمط قد يذكّر بطقس طرد الأرواح من جسد مريض لدى قبائل السكّان الأصليّين في أمريكا وأستراليا. يرقص حاملو الرماح بصخب حول النار ويولولون، بينما يستفحل المرض في الجسد المسجّى. الحديث عن عدوّ هو "الفاشيّة" حديثٌ مربك، وبقدر ما يترك انطباعًا بضراوة الخطر الداهم، يترك كذلك انطباعًا بالبعد والضبابيّة التي تصعّب التعامل معه.

الحديث عن الفاشيّة لا فائدة منه بيننا نحن العرب في الداخل، إذ علينا أن نختار أدواتنا للمواجهة، بإتقان لا يقلّ عن الإتقان والحنكة اللذين يبديهما حزب ليبرمان؛ وهنا مكمن الخطورة. فعلى سبيل المثال، يسعى المذكور إلى قوننة الاضطهاد وإذلال الفلسطينيّين في الداخل عبر قوانين ليس سَنُّها بَعيدَ المنال في الكنيست الإسرائيليّ. يعرف ليبرمان أنّ فرص نجاح مبتغاه عبر القوانين كبيرة جدًّا، إذ إنّه يؤدّي بذلك إلى جعل التعاطي مع الإلزام القمعيّ المُذلّ تعاطيًا فرديًّا، فكلٌّ يخضع للقوانين بصفته الفرديّة، لا كمجموع. هذا -مثلاً- يعيد إلى السطح ضرورة تسييس ما يريدون حسمه قانونيًّا، وضرورة جمع ما يريدونه فرديًّا مذرَّرًا. وممّا يدل على خطورته المتقنة، أيضًا، أنّ ليبرمان بات يدرك جيّدًا أنّ مشروعه -في ما يتعلّق بالفلسطينيّين داخل إسرائيل والدولة اليهوديّة- يتطلّب منه إسكاتَ معارضة بعض الأوساط اليهوديّة "الليبراليّة" والأوساط الرسميّة العالميّة لتوجّهاته، فراح يطمئنهم بموافقته على قيام "دولة فلسطينيّة"، ممّا قد يدلّ أنْ لا تعويلَ على القوى الخارجيّة في صدّ الخطر..

ختامًا، لا بأس من الإقرار أو الإشارة أنّني لست أسعى من كلّ ما سقته هنا إلى طرح برنامج للمواجهة المقبلة، وتحديد أساليبها. كلّ ما ابتغيته هو الإسهام في تبيان مخاطر قد تغيب أحيانًا، اعتقادًا منّي بأنّ توصيفها قد يساعد في مواجهتها على نحو مناسب.

التعليقات