قبل أيام وفي ساعات الصباح، دخلت إلى مؤسسة المجلس المحلي في قريتي، كوكب أبو الهيجاء، استجابة لدعوة للقاء جماعي حول مسألة تخص الأرض والمسكن. فتحت الباب الرئيسي وإذا بي وجهًا لوجه أمام مجموعة من الجنود الإسرائيليين متجمعين وسط صالة المدخل إلى المكاتب، بلباسهم العسكري ولونه الكاكي. تملكني شعور حاد بالنفور، تجاهلتهم، وفورًا حرفتُ طريقي، باتجاه جانبي.
كان الموظفون يديرون عملهم المكتبي بصمت، وتيقنت أن الصمت أبلغ من الكلام، فهي المرة الأولى التي يرون فيها قوة من الجيش الإسرائيلي تتواجد في مبنى رسمي، مع أن السلطة المحلية هي جزء من وزارة الداخلية الإسرائيلية، ففي نهاية المطاف هم، الموظفون، وبسبب النكبة يعيشون كمواطنين في دولة اغتصبت وطنهم، وسطت على أملاكهم، وتواصل العمل على محو تاريخ شعبهم. إنه واقع سريالي، اضطررنا للعيش فيه والتكيف نسبيًا وإدارة صراع يومي مع تعقيداته، وما يولده من تحديات ومعاناة يومية، من خلال العلاقة مع النظام الذي نكرهه، للحصول على مصالحنا اليومية.
وبعد أن خرجت من مبنى المجلس المحلي، مررتُ من وسط القرية إلى السوبر ماركت، وإذ بحافلةٍ كبيرة تنزل عشرات الجنود ويتوزعون في المكان عند دوار القرية. بعد أن خرجت من السوبر ماركت، وقبل أن أهمُّ بالصعود إلى سيارتي، خطا أحد الجنود تجاهي وهمّ بالحديث معي طارحًا "السلام" كما نقول بالعامية. أدرت له ظهري متجاهلًا إياه تمامًا وصعدت إلى السيارة دون أن أرد عليه. كنت أرتدي الكمامة وملتزمًا الحذر، كما كانت سيارتي مركونة في مكان لا يخالف القانون. لم أكن بحاجة له أو لأي نصيحة منه، ولا أي مساعدة.
بطبيعة الحال، كنت على إطلاع بقرار حكومة نتنياهو بتفعيل الجبهة الداخلية لجيش الاحتلال، لفرض الإجراءات، بخصوص الوقاية من فيروس كورونا، ولكنني لم أتوقع أن تصل هذه القوة الكبيرة إلى هذه القرية الصغيرة الوادعة، والتي كانت ملتزمة أصلًا ذاتيًا بالحذر، وأن يكون من سوء حظي أن أتواجه مع مشهد لا يذكرني إلا بالقتل والسطو والإجرام.
قبل ذلك كنا قد شاهدنا موظفين في بعض البلديات العربية مبتهجين وهم يلتقطون الصور مع جنود وضباط، حيث تم توزيع المواد الغذائية على بعض المحتاجين. وهو مشهد بائس يعكس حالة تهافت عرفناها منذ عقود، وطمحنا دائمًا للتخلص منها. وللمفارقة، سمعنا أصواتًا أكثر في المجتمع اليهودي الذين انتقدوا الاستعانة بالجيش، لأن ذلك في نظرهم يهدد الديمقراطية، طبعًا ديمقراطية الأسياد، مع أن حضور الجيش لم يكن بهذه الكثافة في البلدات اليهودية.
ما الذي يقف وراء هذه السياسات والإجراءات؟ وما هي الأهداف الأخرى الأكبر بالنسبة للمؤسسة الصهيونية؟
أشار العديد من المراقبين والمحللين، منذ بدايات انتشار كورونا، إلى تعزز حضور الدولة في المجتمع على المستوى العام، باعتبار أنه لا وجود لمجتمع منظم، في عصرنا، من دون دولة. ولكن هذا الوباء وفر أيضًا فرصة لأنظمة القمع لتعزيز عرشها، ولتطبيع القهر والغلبة ضد الشعوب، وضد المعارضين والمختلفين.
إن إسرائيل ككيان ولد من حركة استعمارية استيطانية شديدة العدوانية، وككيان يشعر أنه لم ينجز بعد مشروع المحو ضد السكان الأصليين، يحتاج إلى تحديث مستمر لآليات القهر والسيطرة. وحاجته لتطبيع نظرة المقهور إليه، ككيان شرعي وطبيعي، هي مركب أساسي في منظومة السيطرة. وهو يعتقد أن التناقض بين ما يمارسه على الضحية وبين مصلحتها، يمكن التغلب عليه بالقهر الخشن تارة، أو القوة الناعمة تارة أخرى، أو بالإثنين معًا. كان لهذه السياسات، سواء في التجربة الاستعمارية الإسرائيلية/ الصهيونية أو جميع التجارب الاستعمارية الكولونيالية العالمية الماضية، نجاحات كبيرة، ولكن أيضًا، كانت لتجارب استعمارية عديدة في الماضي نهايات تستحقها، أي هزائم ماحقة مثل الجزائر وروديسيا وكينيا وموزمبيق وغيرها. وهناك تجارب نجحت في استئصال السكان الأصليين، مثل الولايات المتحدة الأميركية وغيرها؛ ولكن وبعد مرور أكثر من ثلاثة قرون من الاستعمار تعود بقايا الشعوب المستأصلة، أو طلائعها، إلى روايتها لتظهرها في وجه النظام وسرديته الزائفة.
وهذا ما تحاول إسرائيل بلا كلل تجنبه، وتسعى إلى تكثيف عملية المحو، المحو الجسدي والثقافي والحيز العام، وتطبيع علاقة المقهور مع قاهره بشتى الأساليب، وهو أحد أشكال المحو، المحو الثقافي، محو هوية المقهور، واستبدالها بهوية هجينة. وأيضًا لا مانع لأن تسمح له بممارسة فولكلورية لثقافته أو هويته، بحيث يتم نزع كل عنصر مقاوم فيها، بل كل عنصر إنساني، كجزء من عملية إسكات الضحية.
إذًا|، ليست خطة إدخال الجيش الإسرائيلي إلى البلدات العربية الفلسطينية، في الجليل والمثلث والنقب، مقطوعة عن مجمل سلوك النظام الاستعماري الصهيوني، والذي يقف مبتهجًا ومتفرجًا إزاء العنف الداخلي الذي يعصف بمجتمعنا، بل هو امتداد له، من خلال اقتناص فرصة وفرتها الطبيعة بصورة غير متوقعة. وستوفر عملية التطبيع مع أنظمة عربية خليجية منحلة فرصة أخرى لنظام الأبرتهايد للإقدام على المزيد من الإجراءات الناعمة والخشنة الهادفة إلى ترويض فلسطينيي 48، ومحاصرة الطلائع الصامدة في وجه التأسرل. وللأسف، فقد شكل سلوك ممثلي الجمهور العربي داخل الخط الأخضر، ومراهناتهم على ما يسمى باليسار الصهيوني، الذي تحول في غالبيته إلى يمين أكثر عنصرية وأكثر استعمارية، مساهمة في مخطط نزع البعد الوطني عن قضيتهم ونضالهم، باتجاه إنجاح سياسات نتنياهو المتمثلة باختزال المواطن العربي ككائن استهلاكي، من خلال ما يسمى التطوير الاقتصادي أو السلام الاقتصادي. وهو اقتصاد غير منتج وتابع، ومنزوع عن الحاجات الجماعية كالأرض والثقافة والتخطيط الذاتي. وهذا ما فشلنا به كمؤسسات تمثيلية قُطرية، حيث لا يزال الفاشلون في أماكنهم ومناصبهم.
اقرأ/ي أيضًا | بعد عشرين عامًا: هل بوسعنا استرداد معاني الهبة؟
التعليقات